أجرت المقابلة نهلة الشهال
الحياة اليومية للفلسطينيين
كيف يعيش الفلسطينيون اليوم، بكل فئاتهم وبكل المناطق.. بالضفة، بغزة، بالقدس، وأراضي 1948.. على اعتبار أنّ الشروط في هذه الأماكن مختلفة. كيف يتدبرون أمورهم الحياتية؟ ماذا تغيّر؟ وبأيّ درجة من الأزمة الشديدة هم يعيشون اليوم؟
بالفعل، لا يمكن الكلام عن شعب فلسطيني واحد. طبعاً هو شعب قضيته واحدة وطموحه وحقوقه جَماعية لا تُفرَّق. لكن نتيجة الاستعمار والتفوّق الإسرائيلي في أغلب المجالات فلا حالة واحدة نقول عنها "هذه هي حالة الفلسطيني". كل منطقة لها خصوصيتها ولها إطارها القانوني ولها مصادر رزقها ولها هموم مواطنيها. في المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية (الضفة الغربية) هناك حوالي 3 ملايين فلسطيني في المدن الرئيسية والمناطق المتاخمة لها والمعروفة بمناطق "أ" و"ب" (هي المناطق التي تكون للسلطة فيها ولاية مدنية وأمنية). وفي أوسلو صممت هذه المناطق بقصدٍ معين وتمّ تسليم السلطة جزءاً من الصلاحيات الإدارية للسلطة الفلسطينية في 1994. المنطق الفلسطيني كان أن تسلّم الصلاحيات في المناطق التي غالبية سكانها فلسطنيين وموجودين فيها، اي حوالي 40 في المئة من مناطق الضفة الغربية. نحن نتكلم عن 15 في المئة من فلسطين التاريخية، وتحت ولاية السلطة الفلسطينية 7 في المئة من مساحة فلسطين الكلية فيها حوالي 3 مليون فلسطيني.
ماذا تعني بولاية السلطة الفلسطينية؟
للسلطة الفلسطينية صلاحيات في مختلف المجالات المدنية بما في ذلك كلّ الخدمات الاجتماعية، وكلّ مجالات إدارة الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بدون سيادة.. كل ما هو أقل من الصلاحيات السيادية موجود لدى السلطة بما فيها الصلاحيات الأمنية الداخلية، والتعليم، الصحة، النفايات، والصرف الصحي والاتصالات والمواصلات والعدل والأمن.. ولا تتدخل اسرائيل مباشرة في هذه المناطق، بالتالي يوجد حيّز لصناعة وممارسة السياسات، ربما هذا الحيز تم تصميمه في 94 او 95 وليس في أول مرحلة من أوسلو. كانت هذه صلاحيات كبيرة نسبياً وجديدة بالنسبة لمنظمة التحرير، التي كان لها تجربة حكم في لبنان على صعيد مخيمات معينة.. هذه الصلاحيات كانت جديدة في فترة التسعينات، وكان هناك شعور أن السلطة استلمت مسؤوليات كبيرة رغم أنّها في الدفاع والأمن محدودة الصلاحيات. الصلاحيات الاقتصادية أيضا محدودة بالجانب المالي الخاص بإدارة الحكم، مثل جباية الضرائب والإدارة المالية للسلطة، وتقديم الخدمات العامة، ومنها الصحة والتعليم والاتصالات ومياه وطاقة وغير ذلك. بعد الانتفاضة الثانية، عندما حصلت نهضة جديدة في تجربة فلسطين بالحكم الذاتي، حاولت السلطة الفلسطينية أن تعظّم بقدر ما من هذا الحيز، واستغلت ربما كل الفرص المتاحة من ناحية سنّ قوانين ضرائب بعد القوانين الخاصة بإدارة الحكومة.. لكن حقيقة الحدود الضمنية لهذه الصلاحيات ظهرت خلال فترة سنتين أو ثلاثة بعد 2009 . كما نذكر في 2011 و2012 بدأت احتجاجات شعبية على غلاء المعيشة، وسعر المحروقات، وعلى ضرائب جديدة أتت بها السلطة وتغيّرات معينة أثّرت على فئات اجتماعية أكثر من غيرها، وحصل نوع من التخبط لأن السلطة كانت تحاول أن تحل مشاكل متفاقمة بينما الأدوات السياسية الاقتصادية لديها محدودة جداً. تفتقد السلطة إلى سياسة تجارية مستقلّة، بمعنى أن اتفاقيات أوسلو منحت لها قليلاً من الاستثناءات للنظام التجاري الإسرائيلي، لكن مبدئياً النظام التجاري الإسرائيلي هو الساري.. ونقدر أن نقول أنه ليست السلطة بل القطاع الخاص الفلسطيني هو الذي لجأ إلى فتح أسواق جديدة عربية مثلاً، كمحاولة لتقليل الاعتماد على الاستيراد من إسرائيل..
الاستيراد من الدول العربية؟ هل تأتي البضائع عن طريق الأردن، وكيف تدخل؟
البضائع العربية تأتي عن طريق الأردن دون أي مشكلة، وهي تأتي عبر معابر تسيطر عليها إسرائيل. الجمارك الفلسطينية غير موجودة على المعابر الفلسطينية، مثلاً جسر الملك حسين تسيطر عليه الأردن وإسرائيل. امتلأت في آخر السنوات الأسواق الفلسطينية بالمنتجات المصرية والأردنية والخليجية. أيضاً يوجد بعض تجارب التصدير للدول العربية وهي جديدة، مثل الأدوية وبعض الخضار وبعض المنتجات الزراعية وزيت الزيتون والمنتجات التقليدية، لكنها قليلة لأن عمليات النقل مكلفة وإجراءات التفتيش مجحفة بحق التاجر الفلسطيني، لكن رغم ذلك هناك قصص نجاح وإصرار.. عندما نتكلم عن المبادِر الريادي الاقتصادي نجد حالات كثيرة، منهم رجال أعمال كبار ومنهم مشروعات أصغر، ومنها من تنجح في اجتياز العقبات، والتي هي الاتفاقيات أو السيادة المنقوصة أو الصلاحيات المحدودة الموجودة.. السلطة استغلت قدر الإمكان - وخاصة في ظلّ غياب حلّ سياسي أو أفق سياسي - هذه الصلاحيات لمحاولة تحسين حياة الناس وتنظيم الاقتصاد وتنظيم الأمن والقضاء. لكن من الواضح أنه عندما لا يوجد قدرة للوصول لـ60 في المئة من الأراضي إذ فوراً تجد نفسك في مناطق "ج"، الممنوع فيها البناء ولا استخراج المعادن، وهي محظورة على الزراعة.. ففرص توسيع رقعة نفوذ السلطة ضيّق والمخاطرة كبيرة جداً. وبالتالي فالتوسع الاقتصادي الفلسطيني الذي حصل بين 2009 و2013 (في 2010 كانت هناك نسبة 10 في المئة نمو حقيقي، و4 في المئة نمو بدخل الأفراد) جعل بعض المسئولين الفلسطينيين أيامها يقولون أنه في حالة الاستقلال سنرى نمواً بنسبة 15 و16 في المئة.. لكن ما حصل في آخر سنتين أعاد الحالة إلى الركود، والسبب أنّ القيود البنيوية على الاقتصاد هي التي تُطرح دائماً من جديد، وتفرض نفسها على الوضع. إذا نظرنا إلى ال 30 أو 40 سنة، منذ الانتفاضة الأولى وإلى اليوم، نرى التذبذب في النمو الفلسطيني وقد أصبح مزمناً وبنيوياً. يوجد فترات تعافي لمدة سنتين، ثلاث او أربع حيث يصل النمو الى 10 في المئة ، ولكن بعدها، وبسبب الحرب، وبسبب الانتفاضة، وبسبب كل الصدمات الخارجية التي تحدث، يحصل التدهور.. وآخر سنتين دخلنا في ركود اقتصادي ونسبة النمو تقريباً صفر. فمقابل المساعي من قِبل السلطة لإظهار أن هذا شعب قادر وهذه المؤسسات تستحقّ أن تستقلّ، مقابل ذلك طموح الناس يزيد مع فقدان الحل السياسي.. المواطن يقول لنتفاهم مع الحكومة الإسرائيلية الحالية، في ظل الوضع العام العربي الذي جعل القضية الفلسطينية مشطوبة من الأجندة. وهو أمر مفهوم عند الناس من دون القبول به.. يتفهّمون لماذا ليس هناك إنجاز سياسي، لكن مقابل ذلك يتوقّعون أن يعيشوا حياة كريمة، طالما أننا لا نستطيع التحرّك. في مناطق السلطة أكثر رقم أذهلني، وقد صدر في يوم 1 أيار، كان من نشرة خاصة عن العمال الفلسطينيين: 25 في المئة من القوى العاملة الفلسطينية عاطلة عن العمل، أي 75 في المئة من الناس في مناطق غزّة والضفة يعملون لكن من 75 في المئة الذين يعملون، هناك 35 في المئة منهم يعملون دون الحدّ الأدنى للأجور.. والحدّ الأدنى للأجور 1400 شيكل أي حوالي 350 دولار. في هذه الحالة يسأل المواطن كيف أن هناك نمواً يحصل وعمارات شاهقة تظهر، ويوجد مطاعم وفنادق ودكاكين وكل ما يلزم الإنسان من خدمات حديثة وحضارية إلى آخره.. لكن من الواضح أن هناك سوء توزيع في الثروة.
فقاعة رام الله
نعرف من بعيد أنّ هناك فوارق كبيرة بين رام الله وما تمثّله كمركز للسلطة الفلسطينية وكمركز لحركة السياسة والمال، وبين المناطق الأخرى. وهناك فوارق بين رام الله ومدن تعرّضت لقمع استثنائي ومتكرر، مدن كبيرة وعريقة مثل نابلس والخليل، والفروقات مع مناطق مخيمات النازحين في الداخل، ومع القرى.. فهل طابع الفروقات طبقي؟ حالة رام الله كاريكاتورية. يُقال أنّ هناك فقاعة وسط هذا البؤس اسمها رام الله.. ما هو الوضع الاقتصادي داخل رام الله المدينة ؟ هناك فروقات وهناك ما نسمع عنه وهو الفساد، يعني أن هناك أثرياء ليس لأنهم تجّار أو مقاولون وإنما لصلتهم بالسلطة السياسية؟ هذا موجود في بلادنا ويبدو أن فلسطين ليست استثناء.
فلسطين استثناء إلى حدّ ما، الغنى الفاحش في فلسطين موجود، لكن بتقديري فالناس الذين اغتنوا أو ترزقوا، فإن ذلك لم يحدث بسبب علاقتهم بالسلطة لكن بسبب علاقتهم مع إسرائيل. العلاقة التجارية خصوصاً، وليس بالضرورة بوساطة من السلطة. لكن بالعلاقة مع السلطة ممكن تحصيل تصريح أو إخراج بضاعة محجوزة وتسهيل معاملات.. ليس هناك أدلّة واضحة على العلاقة بين الاقتراب من السلطة وتراكم رأس المال. بالعكس، أرى تراكم رأس المال كنتيجة لعدم قدرة السلطة على ضبط الاقتصاد، بمعنى أنّ هناك تهرّب ضرائبي كبير. مثلاً بموضوع الكهرباء ومن يدفع ثمن الكهرباء، فهذا جدل لا نهاية له. حصلت في أيام أبو عمار أول مشكلة تتعلق بأن المخيمات لا تدفع ثمن كهرباء، وهو تعهّد أن السلطة تتحمل مسؤولية كهرباء المخيمات. ربما في المخيمات نوع من الاستهتار في الثروة العامة.. لكن اليوم شركة كهرباء القدس مسئولة عن توزيع الكهرباء بوسط الضفة في الأساس، والدين لشركة كهرباء إسرائيل على ما أظنّ مليار و500 مليون شيكل أو 300 مليون دولار، جزء صغير منه بسبب المخيمات وجزء كبير منه هو بسبب أن السلطة نفسها لا تسدد فواتيرها. جزء آخر منها هو من كبار الشركات والمستهلكين، بالرشوة أو بسوء إدارة، أو بحجج شتى تستطيع التهرب من مستحقات الدفع.. صحيح أن رام الله تشكل نوعاً من فقاعة في الحالة الفلسطينية لكن..
في إحدى المرّات كان هناك دعاية للتسليف من البنوك للاستهلاك، وكأنهم في بلد عادي ويدعون للتسليف وشراء البيوت والسيارات.
لازال هناك حوالي مليارين إلى 3 مليار دولار سنوياً قروض على السكن ونسبتها 80 في المئة، والسبب أنّ هناك طموح وحاجة لذلك وخاصة أنّ رام الله أصبحت عامل جذب واستقطاب للموظفين. من يأتون من نابلس للعمل في رام الله يحتاجون لشراء شقة فيها. الطلب على السكن عالٍ ومبدأ الرهن العقاري دخل من حوالي 10 سنوات والبنوك تقرض بين مليارين و3 مليار دولار سنوياً، جزءٌ منها للاستهلاك وجزء لشراء البيوت.
هل هذا شجّع على نشوء طبقة تعمل لدى السلطة وهي التي تقترض؟
نعم تلك هي النواة الصلبة للإقراض، لكن ليس بالضرورة فقط أنهم موظفون لدى السلطة، حوالي 50 أو 60 في المئة من الموظفين لدى السلطة لديهم قروض، ولولا الضمانات التي تطلبها البنوك من السلطة (والمعاشات ترتبط بالقروض والتقسيط الشهري يُخصم قبل أن يقبض الموظف راتبه من البنك) ولولا هذه الضمانات لم يكن القطاع المصرفي الذي هو أنجح قطاع وأكثر قطاع فيه نمو قد وصل إلى هذا..
ما هي البنوك الموجودة؟
هناك عشرات البنوك، والبنوك الفلسطينية عددها قليل جداً، حوالي 7 أو 8 بنوك، هناك بنوك عربية، أردنية بالأساس. بنك فلسطين هو الأكبر وهو بالأساس من غزة وناجح جداً، ولديه وعي بأن حالة الناس صعبة. البنوك سمعتها جيدة نسبياً ولا يوجد نظرة أنها تسعى لتأخد أموالنا.. هناك مسؤولية اجتماعية لدى البنوك. وصحيح أن هناك دعايات تشجع على الاستهلاك والاقتراض لكن أيضاً هناك دعايات مفتخرة بعطاء البنوك للاقتصاد الصغير من الإنتاج الوطني والزراعة. الحالة الفلسطينية هي مزيج غريب، هناك حاجة للتكافل الاجتماعي ومن جهة ثانية هناك الحياة العادية، كل واحد يريد سيارة وبيت وتلفون ويريد السفر، هذا المزيج يُظهر نوعاً من التناقض. لكن المواطن الفلسطيني لا يشعر بهذا التناقض، والاحتلال أصبح كالهواء الذي نتنفسه والحياة اليومية والمشهد اليومي.. مثل الجبال التي نراها.. الإنسان غير المجبر على الاحتكاك مع الاحتلال ينسى الاحتلال ويفكر بحياته وعيشته وغيرها من الأمور الحياتية، ويصبح الاحتلال في الخلف، والاحتلال واعٍ لأهمية ذلك.. على سبيل المثال في ثورة السكاكين الأخيرة من شهر 10 إلى 12 كل الضفة كانت مكهربة وكل الناس أحسّت بهذه الحركة لأنه كان هناك تشديد من قبل الاحتلال، والشوارع أقفلت وحصلت مداهمات في وسط رام الله. ولا أحد ينكر بطولات الشباب، وأصبح السؤال: هل هذا دليل على وجود حالة جماهيرية جديدة، وهل هذا نوع جديد من المقاومة؟ الإذاعات كلها بثت الأغاني الوطنية لمدة شهرين - ثلاثة. ومع التهدئة أصبحت الأغاني عادية وتوقف بث نشرات متواصلة عن الأحداث. في هذه المناطق يتوق الناس للحالة الطبيعية وهذا مفهوم بالنسبة لي بسبب الإحباطات المتكررة والأفق المسدود. وفي نابلس والخليل لا يرون العدو والمستوطن والجيش الإسرائيلي، فيعتبرون أنها فسحة لكي يعيشوا حياتهم.
القدس وأراضي 48
الوضع في نابلس والمناطق المحيطة بنابلس كان لفترات طويلة حاداً جداً، أما الاستيطان ففي قلب الخليل..
الخليل بالأساس أكثر منطقة تجارية تتعامل مع إسرائيل وأكبر التجار يستوردون عبر إسرائيل ومن إسرائيل.. تاريخياً الصناعة الأساسية الموجودة في الخليل هي نتيجة عقد فرعي من الباطن مع شركات في إسرائيل، فيوجد نوع من ادراك عند أهل الخليل بأنه يصعب الانفصال عن الاقتصاد الاسرائيلي بغياب بديل وبغياب السيادة، كما أن حالات المقاومة في الخليل تبقى قليلة.. والغريب أنّ آخر حالة انتفاضة انتقلت من القدس إلى الخليل.. طعن وموجة من المقاومة العنيفة تركزت في الخليل. من الممكن أن الأمر ليس له علاقة بالناس في الخليل، أو يمكن له علاقة بقرى فقيرة جدا في الخليل.. وفي الوقت نفسه فالتكافل والتضامن الاجتماعي جدا مرتفع في الخليل، وهذا هو سر النجاح الاقتصادي. في قلب المدينة وبجانبها وعلى طرق المدينة مستوطنين، فأي اعتداء سيُواجه من الإسرائيلي بشكل عنيف وقمعي جداً، والناس لا تسكت عليه.. ربما هناك مناطق أخرى من الأسهل إسكاتها، مثلاً رام الله.. لم يحدث أي شي في حالة السكاكين الأخيرة إلا على حاجز قلنديا وحاجز الDCO وهو حاجز يمر منه الشخصيات VIPS. وهي أقرب نقطة التصاق مع المناطق الفلسطينية المأهولة، فكان من السهل الوصول لها والتظاهر. أما غير ذلك فتركّزت أعمال المقاومة في الفترة الأخيرة في القدس والخليل.
لننتقل لقصة "الفقاعة"، فصحيح أن رام الله حالة شاذة إلى حدّ ما عن مناطق جنوب الخليل والمنطقة "C"، الموجود فيها حوالي 300 ألف فلسطيني أي 10 في المئة من سكان الضفة والتي تسيطر عليها إسرائيل أمنياً ومدنياً، وبالتأكيد رام الله مختلفة عن المدن الثانية، الأمن أفضل وحالتها أفضل، واهتمام الإدارة مختلف والحكم المحلي في موضوع ترتيب الشوارع وترتيب المدينة كذلك، وهي أكثر طموحاً وقرباً إلى الحالة العادية من أي مناطق أخرى.. لكن داخل رام الله نفسها يوجد بقع ومخيمات فقر مثل منطقة "أم الشرايط" المعروفة بالاكتظاظ السكاني وانعدام الخدمات ووجود خليط من الناس يأتون من مناطق مختلفة لا علاقة لهم فيما بينهم، وكذلك منطقة ما بين القدس ورام الله اسمها "كفر عقب" يوجد فيها حوالي 80 ألف فلسطيني، وهذه المنطقة خاضعة لبلدية القدس لكن هي عملياً داخل رام الله وبلدية القدس لا تمارس أي نوع من الخدمات، فبالتالي هناك عمارات تُبنى دون أي رخص ودون أي صرف صحي ودون مواقف سيارات.. هناك زيادة سكانية متواصلة دون مدارس أو عيادات أو أي نوع من شبكة البنية التحتية، وفي هذه المنطقة ممكن أن تشتري شقة بـ40 أو 50 ألف دولار.. المقدسيون الذين يريدون المحافظة على هويّتهم، يعيشون هناك ويدفعون ضريبة الأملاك لبلدية إسرائيل لطالما أنّ بلدية القدس تُعتبرها داخل إسرائيل.
والقدس حالة مختلفة رغم أنها تبعد فقط 15 كلم فقط عن وسط رام الله، لكن هي منطقة محكومة تماماً من قبل إسرائيل وخاضعة للقوانين الإسرائيلية. المناطق العربية في القدس محاصرة من المستوطنات شرقاً وشمالاً وجنوباً. حوالي 70 في المئة من المواطنين الفلسطينيين المقدسيين في حالة من الفقر.. طبعاً الفقر يُقاس بمستوى الفقر بإسرائيل وليس بمستوى الفقر بالضفة. في الضفة ينظرون للمقدسيين أنّ حالتهم جيدة، لكن لا مجال للمقارنة لأنّ تكلفة الحياة والضرائب البلدية وكلّ ما يتعلق بالحفاظ على الهوية مُكلف، وفرص العمل معدومة لأنه لم يعد هناك اقتصاد متكامل في القدس. هناك أجزاء من اقتصاد سابق.. والقدس هي العاصمة بينما لا وجود لخدمات حكومية، وبالتالي فالحكومة لا توظف في القدس، والخدمات الصحية والتربوية مربوطة ببلديات إسرائيل، والمرافق الصحية والتربوية الفلسطينية محدودة. يوجد مثلاً مستشفيان فقط وعشرات المدارس الخاصة التابعة للسلطة. 30 في المئة من سكان القدس يعملون في القدس الشرقية، في الحرف أو كتجّار صغار ومهن حرة وعمّال بناء.. 30 في المئة من السكّان يعملون في المؤسسات والاقتصاد الإسرائيلي مثل عمال مطاعم والمستشفيات، حتى في الفترة الأخيرة أصبح هناك خدمات صحية إسرائيلية في مناطق 48.. العرب دخلوا بشكل قوي في كلّ مهن التمريض والمساعدة الطبية، 30 في المئة من المقدسيين يعملون في الضفة.. من يريد أن يحافظ على وظيفة في الضفة وبيته في القدس فستكون مهمة شاقة جداً له يومياً بسبب مشكلات السفر والحواجز.. والمعاش الذي يمكن تقاضيه في الضفة بالكاد يغطي متطلبات الحياة في القدس. فهم عالقون ما بين عالمين، يريدون المحافظة علي مقدسيتهم، ويحاولون تنظيم أنفسهم بلجان محلية ولجان عمل، لكن لا وجود لسلطة فلسطينية في القدس ولا وجود لمؤسسات رسمية فلسطينية في القدس. هناك نوع من الشعور بأنهم متروكون رغم أنّ العاصمة هي القدس. لكن أين هي السياسات والتمويل والدعم والخدمات؟ وعلى الرغم من كل هذا، يرى الناس في الضفة أنّ المقدسيين لديهم تأمين وطني إسرائيلي وتأمين صحي وشيخوخة.
ما تأثير الجدار الفعلي على الاقتصاد والحياة اليومية؟
ليس فقط الجدار، أيضا البنوك الفلسطينية لا تقرض الأموال. ليست مسألة جدار إنّما مسألة الفصل السياسي والقانوني للجدار، له تأثير على التجارة وتدفق التجارة.. الجدار أثّر على الترابط الاجتماعي ليس بين قرية وأخرى، بل خلق مناطق لم يكن لها وجود سابقاً، مثل قرى القدس الشمالية التي لم تكن منطقة منفصلة وأصبحت الآن منفصلة وهي تابعة للضفة.. لكن بالأساس هي تابعة للقدس، ,إدارياً تابعة لمناطق "أ" و"ب"، يعني هناك مزيد من الإرباك والتعقيد والتناقض في المصالح إلى حد ما.
ما هي الوظيفة الفعلية التي حصلت عليها إسرائيل من الجدار؟
الوظيفة الأمنية بالدرجة الأولى.. تساءلت عن الهبة الأخيرة وما هي نتائجها على إسرائيل.. بالتأكيد هناك نتائج واضحة، فإسرائيل شعرت أن هناك نوعاً جديداً من المقاومة ليست محسوبة على أيّ فصيل وهذا خلق عندها إرباكاً وزاد من صورة "الفلسطيني الهمجي" عند المواطنين الإسرائيليين.. لكن على أرض الواقع اليوم الهبة حالياً انتهت.. إسرائيل اتخذت إجراءات شديدة، كلّما جاء الشعب الفلسطيني بوسيلة جديدة للمقاومة تستعمل إسرائيل كلّ التفوق التكنولوجي والعلمي والعسكري لتحبط هذه الوسيلة الجديدة. فعمليّات الاستشهاديين قوبِلت بالجدار، وإلى حدّ ما عرفت إسرائيل أن تُطوّر بسرعة وسيلة ردع.. كلّ مواقف الباصات أمامها أعمدة حديدية كبيرة لحماية المستوطنين، فأي أحد يريد أن يدخل بسيارته لا يستطيع ذلك. طبيعة الاحتلال والنضال يستمران والعدو يتفاجأ في كلّ مرة بوسيلة جديدة، ولا أحد يعرف ما هو مقبل.. موضوع السكاكين فاجأ الجميع، وفي فترة العمليات لم نعد نرى مستوطنين في القدس العربية بينما كانوا يتسكعون فيها في السابق.
هل للقدس اتصال يومي واقتصادي مع مناطق ال48؟
ليس القدس، وانما مناطق 48 عندها تواصل مع القدس، أي بالعكس من 48 إلى القدس.. فالسوق فيها يكون ممتلئاً نهار الجمعة والسبت بالسيّاح والمصلّين، لا أحد يمنعهم، إلا في حال المواجهات في الحرم. السلطات الفلسطينية تنصب حواجز بشمال فلسطين بسبب الباصات الآتية من أم الفحم والناصرة ومناطقهما. عموماً جزء مهم من الإمداد المالي والمعنوي الآتي للقدس العربية يأتي من فلسطينيي 48 الذين يأتون للأقصى للصلاة والسياحة نهارَي الجمعة والسبت.. الحركة نفسها موجودة مع الضفة، يوجد حركة سياحية من الشمال أو تجارية متواصلة، مثلاً شمال الضفة في مدينة مثل جنين حيث لقمة العيش للمدينة تأتي من حركة عشرات آلاف الفلسطينيين من الشمال من مناطق الجليل، يأتون نهار السبت للتبضع بالفواكه والمأكولات.. مدينة مثل جنين لولا هذه الحركة سيكون لديها أزمة اقتصادية. بينما القدس تعتمد على السيّاح، وفقط جزءٌ صغير من السياح يأتون عن طريق وكلاء فلسطينيين. الفنادق الفلسطينية عددها محدود، وعدد غرفها لا يتزايد ولا يستطيعون الإتيان بشركات سياحية أجنبية بسبب الفيزا والقدرة في الحصول عليها...