كشف المستور
برندركاست وكلوني قاما ببذل مجهود كبير خلال العامين الماضيين لإعداد تقرير مفصّل حول عمليات الفساد ونهب الأموال العامة، بذكر للأسماء وكيفية تجيير هذه الأموال للمصالح الشخصية والحسابات الموجودة في المصارف الداخلية والخارجية، وكذلك الشقق والبيوت المشتراة. وشمل التقرير معظم القيادات السياسية والعسكرية، وعلى رأسها الرئيس سلفا كير ونائبه السابق وخصمه الدكتور رياك مشار. التقرير حظي بدعم علني من وزارة الخارجية الأميركية، لكن الآراء لا تزال تتفاوت، والتردد سيّد الموقف بخصوص ما ينبغي عمله لمواجهة هذا الوضع. فالدفع في اتجاه العقوبات وحظر السلاح قد يكون له مردود سلبي، خاصة مع هبوب رياح الحرب الباردة، وموسكو لم تخفِ استعدادها للعب دور ما يضعف من نفوذ واشنطن، كما أن قرارات الحظر والمقاطعة تتطلب سنداً من مجلس الأمن. وفوق هذا، فهناك حاجة إلى تعاون حكومة الجنوب بقيادة سلفا كير، خاصة بما يتعلق بإنفاذ قرار مجلس الأمن نشر قوات من أربعة آلاف جندي لحماية المدنيين، وهو ما كانت تتحفّظ عليه جوبا. وتطلّب الأمر زيارة من مندوبة الولايات المتحدة لدى مجلس الأمن لتأمين موافقة سلفا كير على القرار.
الدولة الجديدة التي حظيت بتعاطف ودعم غربي لا حدود له، لم تلبِّ أشواق مواطنيها ولا سعت بصورة جادة إلى وضع الآمال التي علّقها عليها حلفاؤها موضع التنفيذ، وإنما انزلقت سريعاً إلى مستنقع الفساد وانتهاك حقوق الإنسان، وأخيراً إلى حرب أهلية بين النخبة التي تولّت أمر الدولة الجديدة والوليدة. وكل ذلك في إطار صراع مصالح شخصية انحدر سريعاً ليتخذ له بعداً قبلياً في مسعى لحشد التأييد والمساندة من كلّ طرف.
الرئيس كير لا يزال يسيطر على الوضع السياسي والعسكري والأمني في البلاد. واتفاقية السلام التي قادتها "منظمة الإيقاد" الإقليمية من دول الجوار، بدعم غربي واضح، لم تحقق اختراقاً يُذكَر، خاصة في ضوء نجاح كير في شق صفوف معارضيه وتعيينه لتعبان دينق الذي كان كبير مفاوضي مجموعات مشار في منصب النائب الأول، الذي خصّصته الاتفاقية لمشار، وليخلق بذلك حقائق على الأرض لم يجد الوسطاء وحتى واشنطن مفراً من الاعتراف بها، لكنها لم تلغِ السؤال الأساسي، وهو ما العمل؟
برندركاست أوضح في إفادات عدة مؤخراً أن الحديث عن فرض عقوبات يتناول عرَض الأزمة، بينما المطلوب مواجهة جذورها والأسباب التي أدّت إليها في المبتدأ. وهو يرى أهمية اتّباع منهج سياسي جديد لاستخلاص الدولة المختَطفة، يتشارك فيه جميع قيادات جنوب السودان الحديثة والقبلية، وبدون إقصاء أحد إلا متهماً في قضية معينة، ويُضاف إليهم أيضاً زملاؤهم الأفارقة بدعم من المجتمع الدولي، وذلك لتحقيق ما يرغب فيه مواطنو جنوب السودان من إنجاز تحوُّل ديموقراطي سلمي من خلال تفصيل لقضايا قسمة السلطة والثروة والترتيبات الأمنية، مع إيجاد وسيلة لإبعاد القيادات التي ضلعت في متاعب الأعوام السابقة وتأسيس محكمة مختلطة لمواجهة التعديات التي حصلت، وأيضاً الاستعانة بالتجارب المماثلة في كيفية إدارة الأموال العامة وإعادتها الى خزينة الدولة.
مراجعة جذرية
على أن هذا التوجّه ليس كافياً في رأي آخرين مثل الباحث الكندي جون يونغ الذي قضى أكثر من عقدين من الزمان في السودان والدول المجاورة، باحثاً وعاملاً في مختلف المواقع ومتابعاً للتطورات السياسية والدستورية في المنطقة. يونغ يرى أن الفشل الذريع الذي مُنيت به تجربة جنوب السودان لا يعود فقط إلى القيادات النهمة والفاسدة، وإنّما قبل ذلك إلى المقاربة الغربية لفض النزاع في السودان من خلال الدفع بالأجندة الليبرالية التي تجاهلت الواقع السياسي والقبلي والاجتماعي المختلف، وكانت غايتها تسديد ضربات إلى النظام في الخرطوم، وبالتالي أعفت الحركة الشعبية من أي مساءلة وأعطتها المرتبة الأعلى أخلاقياً.
طبقت على جنوب السودان نسخة مستحدثة لفكرة "رسالة الرجل الأبيض التمدينية"، وتسييد النموذج الغربي في الحكم والمؤسسات والقيم بدون اعتبار للواقع المحلي. وجرى التركيز على سيادة أفكار "إطلاق حرية الأسواق" و "تقييد تدخّل الدولة"، مع تغييب كامل للبعد الاقتصادي للديموقراطية وحقوق الإنسان، وفتح الباب أمام نصائح صندوق النقد الدولي.. الأمر الذي ينتهي بفتح أبواب هذه الدولة أمام الشركات الغربية.
لكن بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود من الزمان على هذه المقاربة، فإن النتائج على الأرض لا تشير إلى نجاح يُذكر، خاصة مع استمرار النزاع، ناهيك عن عدم حدوث تطوّر يُذكر اقتصادياً واجتماعياً. فمن البداية اتّضح مدى احترام أهل الخيار الليبرالي "للجماهير" التي يتحدثون باسمها. فالمفاوضات كانت تجري دائماً في فنادق خمسة نجوم لا يمكن لأي شخص أن يدخلها، كما تتمّ الاستعانة ببعض الفئات والمجموعات أحياناً، لكنْ هناك سياجٌ من السرية يكون مضروباً على المفاوضات، ويتسرّب منها ما يريد محرِّكوها إيصاله إلى الناس. وأهمّ من ذلك ـ وهذا ما حدث في مفاوضات السلام السودانية نفسها ـ فهي لم تُعرض قطّ على الناس لإقرارها في استفتاء عام، كما أن أي قوة سياسية معارضة لم يُسمح لها بخوض الانتخابات ما لم تكن موافقة على الاتفاقية.
ويرى يونغ أنّه حان الوقت لمراجعة هذا التوجه القائم على الاهتمام بالنخب وتغييب الناس عن مسائل الحرب والسلام والبناء الوطني، مع التركيز على حمَلة السلاح وإخضاع التجربة الماضية إلى النقد العلني. ولعل في تنامي الدعوات لوضع جنوب السودان تحت وصاية دولية لإدارة شؤون الدولة فيه وبناء مؤسساتها، مؤشر على تزايد القناعة بفشل نموذج المقاربة الليبرالية لحسم مشاكل جنوب السودان.
ويُلفت النظر إلى أن هذه الدعوات المؤِّيدة للوصاية الدولية بدأت تستقطب ساسة من جنوب السودان مثل باقان أموم، الأمين العام السابق للحركة الشعبية والدكتور محمود محمداني الأكاديمي اليوغندي الذي شارك في بعض لجان تقييم ما يجري، وتسرّبت مذكرة أعدّها للاتحاد الإفريقي يصف فيها اتفاقية السلام بالفشل ويدعو إلى استبعاد دول "منظمة الإيقاد" المجاورة من لعب أي دور في المستقبل السياسي والأمني لجنوب السودان، الذي ينبغي أن يوضع تحت وصاية مشتركة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة.