في 21 آب/ أغسطس 2016 وصل دور الملاكم الذي حصل على ميدالية برونزية في الألعاب الأولمبية في ريو ديجنيرو ووشحه الملك. وصل دور الملاكم لأن ثقافة الاستعراض الموجهة للعامة تحظى بالأولوية. ومع الملاكم وشح مغنيا وعازفة وراقصا ومذيعا ثرثارا مثيرا للجدل، واستنتج معلق غاضب "إذ أردنا أن يُوشَّح شخص مستقبلاً، فعلينا انتقاده بشدة"، بينما اقترح معلق ساخر توشيح الممثلة لبنى أبيدار بطلة فيلم "الزين اللي فيك" (حيث مثلت دور بائعة جنس واعتبر الفيلم "إباحياً" إلى حد تلقيها تهديدات واضطرارها لمغادرة البلاد). ويتعذر نشر نماذج تعليقات حقودة تعبر عمن كتبوها أكثر مما تعبر عمن وجهت لهم. تعليقات حظيت، للأمانة، بـ"لايكات" كثيرة ممن يكرهون الفن ويُحَرِّمونه أصلا.
القصر ينوع لائحة من يوشحهم ويكرمهم. الملاكم يستحق. لكن هل يجب توشيح الأكبر سنا فقط؟
واضح أن النخبة الجديدة لا تعجب النخبة القديمة التي نفدت من مراحل الاصطفاء السابقة على ظهور الإنترنت. لذلك غضب عدد من المراقبين لتوشيح مغنين مبتدئين برصيد ضعيف، أو بلا رصيد. واعترض على توشيح سعد المجرد بدعوى أنه أهان المرأة في أغنيته "إنتي باغيا واحد"، وبدعوى أن دنيا باطما ليس لها أغانٍ مشهورة ولا تملك صدرا لتضع عليه وساما (!). من باب السخرية عبر كثيرون عن نيتهم الشروع في الغناء للحصول على الوسام. وسرى تفسير يقول بأنه قد شعر بالغبن كل من يدفع بصدره في كل مناسبة منذ مدة لعلّه يقتنص وساما وخاب رجاؤه.
حسابيا سعد المجرد أكثر مشاهدة على يوتيوب من أم كلثوم وفيروز. في القصر يقرأون الساحة ويواكبونها. وتوشيح موسيقيين امتداد لنقد الملك للمتشددين الذين يقولون للشباب إنّ "من يستمع إلى الموسيقى ستبلعه الأرض". وللتأكيد على هذا التوجه لدعم نموذج شبابي منفتح، كرم الملك المصورة ليلى العلوي التي قتلت في 18 كانون الثاني/ يناير 2016 إثر الاعتداءات الإرهابية في بوركينا فاسو.
هذه رسائل. وقد وشح الملك الشخصيات التي يتبعها الشباب بكثافة على الإنترنت لأنها حققت شهرة (buzz). ويعتبر المعترضون أن هذه شهرة سريعة وعابرة لا تصمد للزمن. لكن في السياسة، اللحظة هي الأهم. buzz مهم في السياسة كما في الفن. وقد صرح سعد المجرد بأن الملك همس له أثناء التوشيح: "نحن نفتخر بك" وتمنى له التوفيق.
تساءل صحافي ما إذا كنا قد أفرزنا نخبتنا البئيسة من مطربين وممثلين وكتاب، أم أن زبدة المجتمع المعول عليها لم تكن في مستوى التأطير واختارت الانزواء والانتفاع عن سابق قصد؟
حاليا بدل الندوات والمناقشات التي لا يحضرها أحد، كثرت مهرجانات الغناء والرقص أمام جماهير كثيفة. لقد تغير معيار النجاح من الأسلوب والعمق والتفرد إلى الأكثر مشاهدة. أين الأكاديميون في النقاش العام؟ أشهرهم منطوٍ وبعضهم صاروا ضيوفَ برامجَ تلفزيونية تعتمد التبسيط، وبعضهم خبراء في الطبخ والصحة والجريمة.
لقد خرجت الجامعة من النقاش العمومي. صار التعقل والاتزان والجدية منبوذين. لا تحصل الجدية أبدا على الأكثر مشاهدة. الشعبوية تساعد على الربح. النخبوية تجر نحو الإفلاس. لا تمول الدولة القلق، لا تمول طارحي الأسئلة المزعجين. هي تمول البهجة. والفنان الذي لم يفهم هذه القاعدة سينقرض قريبا. تاريخيا في المغرب نُظر لكل مثقف كمعارض خطر وتم قمعه فخرجت الثقافة الجادة من المجال العام. وقد تتالت أعطاب التعليم، لذا لم يُنتِجِ المغرب نخبا طليعية حداثية واثقة من نفسها، بل جلها "سكيزوفريني".
لماذا ينجح السطحيون في المغرب؟ السبب أن الذي يدرس ويطالع لا يُفهم، يبدو معقداً. بينما المنشط والممثل الأمي حين يخاطب الأغلبية الأمية تفهمه ويضحكها لذا ينجح بسهولة. كل رفع للمستوى يقطع الصلة مع الأغلبية التي لم تقرأ ورقة. لا ينجح إلا من يفهمه الجمهور. البديل هو نخبة غير تقليدية، نخبة شعبوية. المجتمع معجب بالشعبويين، وهم خصوم العقلانية، شعبي تعني ناجحا جدا، وتعني وضيعا أيضا.
لقد عرف المغرب غداة الاستقلال، سيطرة نخبة ثقافية ذات شرعية سياسية، خاصة أن أغلب مثقفي تلك الفترة قد تلقوا تكوينهم في رحم الحركة الوطنية التي شاركوا في نضالها السياسي من أجل الاستقلال. وهي نخبة منحت الأسبقية للسياسي على الثقافي. بعد ذلك، تصدرت الساحة نخبة أخرى، ذات شرعية سياسية أيضا، وهي نخبة مثقفي اليسار التي جمعت بين السياسة والفن الملتزم. والآن تصعد نخبة أخرى من طينة مختلفة.
ما هي معايير صعود ونجاح عضو النخبة الجديدة؟
هو أن يكون أمام الكاميرات. وأن تحظى فيديوهاته بأكبر مشاهدة. النخبة الجديدة هي التي يحبها التلفزيون والإنترنت، من لا يظهر في التلفزيون لا صيت له. بفضل التلفزيون يطفو بعض من نفخ فيهم الإعلام، وعندما تلتقيهم شخصيا وتستمع لهم تصدم من فرط غياب أدنى درجات الكاريزما.
يفسر صحافي ما جرى بأن الغرض من التوشيح ليس الاعتراف باستحقاق من يحصلون على الأوسمة بل مسايرة توجه عام من خلال توشيح الأشخاص الأكثر ضجة.
يوتيوب يعطي الأسبقية للراقصات، ولو كان التصويت هو نسبة المشاهدات لوصلت راقصة إلى زعامة الأمة. إنّه زمن نخبة الموضة العابرة. زمن تتزامن فيه الشعبوية الفنية مع الشعبوية السياسية، يجري جدل حول الأشخاص في ظل قلة الأفكار. في تفسير مثل هذا الوضع تعجب مارتن هايدغر من أنه صار يُنظر إلى الملاكم كإنسان عظيم يمثل الشعب.
... يمثل الشعب دون أن ينتخبه أحد.