من يمكنه أن ينسى مانشيت جريدة "السفير" في 1982: "بيروت تحترق ولا ترفع الرايات البيضاء"؟ وعلى منوالها آلاف العناوين التي لم تترك مناسبة إلّا والتقطتها لتقول رأياً منحازاً على الدوام لدعم قضايا التحرر الوطني، والمضطهَدين أينما كانوا، ومَنْ أكلَ جلودهم الفقر والحرمان... من يمكنه أن يتجاهل أنّ صاحب "السفير"، ورئيس تحريرها على مدى ما يقارب نصف قرن من الزمن، كان يتحرّك وفق بوصلة قوامها منظومة قيميّة منسوجة من ثوابت وطنية ومجتمعية، كان يعتبرها بديهيات، يقود سفينته وسط عواصف هوجاء في الغالب من الأحيان، فيناور حتى لا تتحطم، وحتى تبقى سليمة فتُكْمل طريقها...
____________
على الطريق
مقالات الأستاذ طلال سلمان المنشورة في السفير العربي
____________
سيكتب كثيرون عن مميزات الإنسان والصحافي والكاتب والمناضل، عن قدرته على استكشاف خصال مَن يتعامل معهم، كلٌّ بمقدار ما يستحق. وسأكتب أنا عن تجربتي معه في إنشاء مشروع "السفير العربي"، الذي كان اسمه بالأصل "خماسين" - حين كان ما يزال فكرة – وقد جئته أعرض عليه الانضمام إلى هيئة أمنائه. حين اطّلع على تفاصيله قال بل أستضيفه في الجريدة، وأمنحه مقرّاً وأخصّص له ميزانية ولو أنّها ستكون متواضعة، وأتمنّى أن يَصدر كملحق أسبوعي. تبنّى المشروع وكنّا في خضمّ انبلاج 2011، ووافق على استقلاليته التحريريّة الكاملة واحترم حرفيّاً هذه الاستقلالية فلم يتدخل أبداً ومطلقاً في ما نكتب وننشر، واثقاً بالمقابل بالتأكيد من أنّنا لن نرتكب حماقات مجانية. وهكذا جرت الأمور حتى توقُّف جريدة "السفير" عن الصدور في آخر العام 2016، بحيث لم يقع بيننا أي توتّر طوال تلك السنوات. أي حادث ولو صغير. وكنّا نعرف أنّه تعرّض لضغوط من أطراف شتى وتلقّى اعتراضات على ما ننشر، ولكنّه كان من الكياسة بأنّه لم ينقلها إلينا، بل تسربت عبر أقاويل في الجريدة، التي لم نُعدَم فيها مَنْ كان يرى - بحسد بشري مفهوم - أنّ "السفير العربي" كان "طفلاً مدللاً" في المؤسّسة. وكنّا نعرف أيضاً بفضل الأقاويل السارية بأنه كان يجيب على ذلك بالاعتداد بانحيازه لمشروع "مقنع وفعّال وإذاً محترم" من وجهة نظره. بل هو أتاح لنا دعوة عشرة من كتّابنا من أرجاء المنطقة إلى بيروت للمشاركة في العيد الأربعين لتأسيس الجريدة، في آذار/مارس 2014، وهي التي لم تكن يوماً تنعم ببحبوحة مالية كبيرة... وحين تقرّر توقُّف "السفير" عن الصدور بسبب صعاب مالية لم يُمْكِن تجاوزها، وقرّر فريق "السفير العربي" الاستمرار، منَحنا بكرمٍ راقٍ ما أسماه فترة "تنفُّس" لمدة ستة أشهر حتى نسعى لتدبر أمرنا.
وإنْ استفضنا في هذه الرواية فذلك لأنّ تجربتنا هذه مع طلال سلمان تجسّد خاصية التطابق بين القناعات والأفعال: امتلاك قيم بعينها أوّلاً ثم العمل على شقّ الطريق أمامها لتتحقق. فشكراً طلال سلمان وأبناءه أحمد وهنادي وربيعة، الّذين كانوا نشطين في المشروع الأصلي كما آزروا والدهم في موقفه من "السفير العربي". وهاكم كل كاتباتنا وكتّابنا يطلبون أن تُنقل إليهم والى كل عائلته الكبيرة والصغيرة تعازيهم وحزنهم على "الرجل الاستثنائي".