حين حرّك الاجتياح الأمريكي للعراق دماء السياسة في مصر

كان الاجتياح الأمريكي للعراق هو اللحظة التي هيّأت الفرصة. أجيال وجماعات من المعارضة، توالى تكونها ككرة الثلج، وكل موجة تفيض إلى ما بعدها. تشكلت "حركة كفاية" ومن رحمها خرجت مجموعات عدّة من أهمها وأكثرها تأثيراً "شباب من أجل التغيير" التي كان لها الحضور الأكبر في رفع صوت المعارضة ضد إجراءات الاستفتاء الشعبي على تعديلات دستورية رأوها صورية.
2023-08-24

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
| en
"معركة سومَر" سندس عبد الهادي – العراق، أكريليك على قماش، 2005

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

كانت تلك هي الحرب الأولى التي يتابعها المصريّون على الهواء مباشرة، بعد أن عرفت بيوت قطاع واسع منهم الأطباق الهوائية. وكانت الصدمة الأكثر تأثيراً على الرغم من أنّها ليست الوحيدة بالتأكيد.

جاء عام 2003 محمّلاً بأجواء الاستعداد للحرب على العراق، ليفجّر داخل العقل المصري كثيرا من التساؤلات المرتبطة بالماضي والحاضر والمستقبل. من بينها ما هو متعلق بالتعامل الرسمي بين النظامين الحاكمين في مصر والعراق، والجرح الذي ظلّ مفتوحاً بعد مشاركة مصر في حرب أمريكية سابقة على العراق، من منطلق "تحرير الكويت" عام 1991 مقابل إسقاط ديونها بقرار من "نادي الديون الدوليّ"، وكانت آنذاك قد بلغت ما يقارب 34 مليار دولار. وقد جاءت الحرب الأمريكية الثانية على العراق باحتمالات أن تتورّط مصر في موقف معيب جديد كالسماح بمرور السفن الأمريكية من قناة السويس. التساؤل الآخر يتعلق بما ترتّب على هذه الحرب الكبرى بعد عودة ما يقارب 4 مليون مصري من عملهم في العراق بداية التسعينات الفائتة دون أن يستردّوا مستحقاتهم (حتى اللحظة). وأخيراً، وكمسألة كبرى أصبحت سريعاً هي لبّ التفاعل والانعكاس الحقيقي لتلك الحرب، فتتعلق بتفجر الطاقة الشعبية والسعي الحثيث نحو التغيير والتخلّص من السلطة الديكتاتورية التابعة للحلف الصهيوأمريكي.

كان العالم كلّه على موعد مع فصلٍ جديد من الفلسفة الأمريكية المتغطرسة: "من ليس معنا، فهو مع الإرهاب"، التي بدأت فور استهداف برجي التجارة في نيويورك، وتجسدت على شكل قنابل وقصف مباشر لأفغانستان.

وتلك ثلاثة ميادين لرصد تأثير الحرب على العراق على مصر وفيها.

العلاقات الرسمية

لم يأتِ النظام المصري بموقف ذي صوت واضح، تأييداً أو اعتراضاً. كان الأداء باهتاً. انضمت مصر إلى مشروع بيان دوليّ أعدّه الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن، يطالب أمريكا ودول الغرب بالاستمرار في عمليات التفتيش عن "أسلحة الدمار الشامل" داخل العراق بدلاً من اتخاذ قرار باجتياحه. وحين جاء القرار الأمريكي/ البريطاني بالحرب والغزو من غير غطاء أممي، لم يبلور النظام المصري موقفاً.

من ناحيةٍ أخرى، روّجت السلطة المصرية على لسان وزير خارجيتها آنذاك لسلامة وحكمة قرارها بالسماح بمرور السفن الأمريكية عبر قناة السويس، على الرغم من الغضب الشعبي العربي والعالمي والدعوات المنادية لعرقلة ذلك. قال رئيس هيئة قناة السويس: المطالبة بمنع السفن الحربية الامريكية من المرور من قناة السويس هو "فخ لن تقع السلطة المصرية فيه"، مؤكداً التزام الهيئة بالعمل وفق المواثيق والمعاهدات الدولية، وعلى رأسها "اتفاقية القسطنطينية" التي تكفل حق الملاحة الآمن لكافة السفن العابرة دون تمييز بين علم دولة وأخرى (1).

ترك هذا الأداء أثراً كبيراً على السياسة الخارجية المصرية تجاه العديد من القضايا العربية والإقليمية، وعلى رأسها بالتأكيد القضية الفلسطينية. فمنذ ذلك الحين وحتى اندلاع "ثورة يناير"، عادت إلى السطح وبقوة تلك النغمة الإعلامية الرسمية حول "أمن مصر أولاً"، عدم الانزلاق لدعم القضايا العربية على حساب المصلحة الوطنية. استمر ذلك الخطاب إلى حدّ مباركة إغلاق معبر رفح على مدار سنوات أمام أهل غزة منذ وصول حركة "حماس" إلى الحكم فيها، والمشاركة في حصار القطاع حتى خلال القصف الإسرائيلي، إلى أن انتهى الأمر بهدم الغزاويين لجزء من جدار ذلك المعبر واجتيازه عام 2009.

عشرون عاماً مرت على الاجتياح الأمريكي للعراق، عشرون عاماً عاشت فيها مصر موجات متلاطمة بين محاولات التغيير ووأده، عشرون عاماً كان احتلال العراق هو الجرح الذي أوقد النار المصرية التي ترفض ما لحق بالشقيق العربي وتلفظ ما هو جاثم فوق الروح، عشرون عاماً شملت انبلاج "الربيع العربي" ثم أفوله على امتداد الخريطة.

تفاقمت الأزمة الاقتصادية المتعلّقة بخسارة مصدر رئيسي من تحويلات المصريين من الخارج التي هي على رأس مصادر الدولة المصرية في العملة الصعبة، وضياع الحقوق المالية للمصريين العائدين من العراق منذ بداية التسعينات الفائتة. وكانوا ما يقارب 4 ملايين مصري حتى بداية التسعينيات من القرن العشرين. وقد استمرت المطالبات والوعود بصرف تلك المستحقات. 

ظل ذاك المنحى الذي أسمته السلطة المصرية "تغليب المصلحة الوطنية" حاكماً، تحاججه أصوات معارِضة باعتباره سياسة قائمة على التبعية والرضوخ للحليف الغربي ستقضي على الأمن القومي المصري مباشرة قبل غيره، وهي النغمة التي خفتت بطبيعة الحال على مدار عامي 2011 و 2012 لكنها سرعان ما عادت لتحكم الخطاب الرسمي/ الشعبي وتصوغه منذ 2013، إلى أن ظهرت مقولة رئيس الجمهورية "مش أحسن من سوريا والعراق" - وهي إحدى المقولات المؤسِّسة حتى اليوم - فتصبح معها تلك الحرب التي تعرض لها العراق قبل عشرين عاماً وما نتج عنها، هي فزّاعة أولى ورئيسية تستخدمها السلطة السياسية داخل مصر لتسييد منطق الأمن في ظلّ حكم سلطوي.

المعضلة الاقتصادية

لم تكن هناك علاقات اقتصادية مصرية - عراقية قائمة خلال سنوات الحصار الأمريكي على العراق منذ بداية التسعينيات الفائتة، إلا أنه يمكن القول أن أجواء الحرب فور وقوعها قد انعكست على الاقتصاد المصري بشكل غير مباشر عبر مسارين، وأن هذا الأثر، كما سواه، كان ممتداً.

أوّل المسارين هو تفاقم الأزمة الاقتصادية المتعلّقة بخسارة مصدر رئيسي من تحويلات المصريين من الخارج التي هي على رأس مصادر الدولة المصرية في العملة الصعبة، وضياع الحقوق المالية للمصريين العائدين من العراق منذ بداية التسعينات الفائتة. فوفق تقديرات متوافق عليها الى حدّ بعيد، ضمّ العراق ما يقارب 4 مليون عامل/ موظف/ مستثمر مصري حتى بداية التسعينيات من القرن العشرين. وقد استمرت المطالبات والوعود بصرف تلك المستحقات. وفي العام 2010 أنشئت لجان مصرية ـ عراقية مشتركة لتقييم المستحقات في ضوء أصولها والفوائد المتراكمة، ليتم تقديرها آنذاك بما يزيد عن 60 مليون دولار (2).

لم يفقد الاقتصاد المصري تحويلات العاملين في العراق فحسب، ولكن العلاقات التجاريّة بين البلدين تخبطت وتعثر ما بينهما من شراكات. فقد بلغ حجم التبادل التجاريّ بين العراق ومصر خلال الفترة 1997-2001 ما يقارب 1.402 مليار دولار، وذلك على الرغم من الحصار الأمريكي، وهو ما يُحسب بالتأكيد للسلطة المصرية آنذاك. وفي العام 2001، شرع الطرفان في توقيع بروتوكول يقضي بتحرير كافة السلع المتبادَلة ذات المنشأ الوطني في كلا البلدين من القيود الجمركية وغير الجمركية المفروضة عليها.

وتشير البيانات الرسمية إلى أن منحنى التبادلات التجارية قد عاد إلى الارتفاع بعد ذلك بسنوات قليلة، وهو ما يُظهر خساراتها خلال الفترة المأزومة السابقة: ففي الفترة 2005 - 2008، شهد ذلك التبادل اتجاهاً تصاعدياً بمعدل نمو سنوي بلغ 77 في المئة، كما أن إجمالي التبادل التجاري في عام 2009 وحده قد بلغ 370 مليون دولار. وقد شرعت الدولة المصرية منذ عام 2021 في عقد شراكات اقتصادية وتنموية جديدة بعد قمة ثلاثية في بغداد ضمت رؤوس السلطة في العراق ومصر والأردن.

عادت إلى السطح النغمة الإعلامية الرسمية حول "أمن مصر أولاً"، وعدم الانزلاق لدعم القضايا العربية على حساب المصلحة الوطنية. استمر ذلك الخطاب إلى حدّ مباركة إغلاق "معبر رفح" على مدار سنوات أمام أهل غزة منذ وصول حركة "حماس" إلى الحكم فيها، والمشاركة في حصار القطاع حتى خلال القصف الإسرائيلي له...

من جانب آخر، أدّى الموقف السياسي الرسمي منخفض الصوت للسلطة المصرية واستمرارها كحليف استراتيجي للقطب الأمريكي قبل إندلاع تلك الحرب في 2003 وبعدها، إلى تنامي الشراكات الاقتصادية مع "الحليف". وكانت إتفاقية "كويز" هي الثمرة الرئيسية بالنسبة للمتعطشين للربح في السوق المصري، وهو بروتوكول تم توقيعه في شباط/ فبراير 2005، ويُسمح بمقتضاه للشركات المصرية بالتصدير إلى السوق الأمريكية دون جمارك، بشرط وجود نسبة مكوِّن إسرائيلي تصل إلى 35 في المئة من المنتَج، وفق تقرير مختصّ صادر عن "البنك الدولي". ومع بدء تنفيذ الاتفاقية، ارتفعت القيمة الإجمالية لصادرات المنسوجات والملابس من مصانع المناطق الصناعية المصرية المؤهلة من حوالي 500 مليون دولار عام 2006 إلى 900 مليون دولار في عام 2011، أي بزيادة مقدارها 45 في المئة. ومنذ ذلك الحين، لم يحدث مزيد من النمو في صادرات المناطق الصناعية المؤهلة، وظل المستوى مستقراً أو شابَه الجمود بعد ضغوط حكومية مصرية عام 2012 لتخفيض المكوِّن الاسرائيلي إلى 10 في المئة.

الصحوة الشعبية

ولعلّ تلك هي السيرورة الأبرز لنتائج تلك الحرب على مصر. فمنذ توقيع "اتفاقية السلام" بين مصر وإسرائيل عام 1979 وتزايد القبضة الأمنية في مصر وحظر التعامل مع ملف التداول السلمي للسلطة، تعاظَم حضور القوى السياسية الشعبية في ساحات مقاومة كافة أشكال التطبيع ودعم وتأييد المقاومة الفلسطينية ورفض أي اعتداء صهيوني على المنطقة العربية.

 جولات عدّة قادها الجيل الذي خرج إلى عالم السياسة من داخل أسوار الجامعات المصرية عقب هزيمة حزيران/ يونيو 1967. توالت "اللجان الشعبية" التي قامت بنشاط سياسي واجتماعي وثقافي وإعلامي، إلا أنّ النزول إلى الشارع والتظاهر ظلّا خطاً أحمر محظوراً قد تتمكن تلك المجموعات المعارضة من اختراقه بين الحين والآخر، في هذا المحفل أو ذلك، أمام أبواب الجامعات أو داخل معارض الكتب، وتدفع مقابل ذلك ثمناً باهظاً. وفي طفرات محدودة استطاعت بعض قيادات تلك المعارضة من برلمانيين وفنانين تشكيل وفود إلى العراق أو غزة تحت مسمى "فك الحصار". ففي كانون الأول/ديسمبر 1998، توجّه وفد مصري مكون من عدد من البرلمانيين والمثقفين والفنانين لإعلان التضامن مع الشعب العراقي ضد ما يتعرض له نتيجة الحصار الاقتصادي الدولي، وفي العام 2009 توجه وفد مماثل بعد انتهاء حرب "الرصاص المصبوب" على غزة لإعلان تضامن الشعب المصري مع القطاع ورفض مشاركة النظام المصري في حصار أهله عبر إغلاق معبر رفح.

ظهرت مقولة رئيس الجمهورية "مش أحسن من سوريا والعراق" - وهي إحدى المقولات المؤسِّسة حتى اليوم - فتصبح معها تلك الحرب التي تعرض لها العراق قبل عشرين عاماً وما نتج عنها، هي فزّاعة أولى ورئيسية تستخدمها السلطة السياسية داخل مصر لتسييد منطق الأمن في ظلّ حكم سلطوي.

أدّى الموقف السياسي الرسمي منخفض الصوت للسلطة المصرية واستمرارها كحليف استراتيجي للقطب الأمريكي قبل اندلاع تلك الحرب في 2003 وبعدها، إلى تنامي الشراكات الاقتصادية مع "الحليف". وكانت اتفاقية "كويز" هي الثمرة الرئيسية، ووُقِّع البروتوكول في شباط/ فبراير 2005، ويُسمح بمقتضاه للشركات المصرية بالتصدير إلى السوق الأمريكية دون جمارك، بشرط وجود نسبة مكوِّن إسرائيلي تصل إلى 35 في المئة من المنتَج. 

نجحت الوفود في حمل تلك الرسائل والتعبير عن موقف الشعب المصري، بينما ظلت الميادين العامة وعلى رأسها "ميدان التحرير" محظورة على الناس، منذ الانتفاضة الشعبية المبتورة التي انطلقت يومي 18 و19 كانون الثاني/ينايرعام 1977 والمعروفة سياسياً باسم "مظاهرات الخبز والحرية" بينما أطلق عليها رأس النظام آنذاك "انتفاضة الحرامية".

وكان الشعب المصري، وفي القلب منه الكتل السياسية والثقافية، يتابع التطورات السريعة للاستهداف الأمريكي لأفغانستان تحت لافتة محاربة الإرهاب، والاستعدادات الحثيثة على مستوى المحافل السياسية الدولية للترويج لخطوة الغزو الأمريكي للعراق.

كان المشهد داخل مصر موجعاً حين تردد صدى الدعوة العالمية للتظاهر يوم 15 شباط/ فبراير 2003 ضدّ صدور قرار دولي يمنح أمريكا مسوغات لاحتلال العراق، وهي الدعوة التي أطلقتها الحركات والروابط التضامنيّة المناهضة للعولمة والإمبريالية. وقد خرجت المظاهرات الكثيفة في ذلك اليوم في ستين عاصمة على مستوى العالم وبمشاركة ما يقارب 16 مليون متظاهر. وحاولت بعض رموز المعارضة تنظيم فعالية مشابهة في مصر وفي التوقيت نفسه وفشلت... وانتهى الأمر بتقدم نقيب الأطباء آنذاك بطلب رسمي لوزارة الداخلية المصرية بالتصريح بفتح استاد القاهرة في ذلك اليوم أمام الشعب للتعبير عن رفضه لتلك الخطوة، وهو طلب جرى تجاهله بطبيعة الحال.

بدا الأمر وكأن كل تلك الطاقات الغاضبة وخبرات المعارضة واقعة تحت السيطرة الأمنية ولا يمكنها الشب عن الطوق. ثم جاء يوم 20 آذار/ مارس 2003 حين استيقظ العالم على صور القنابل الفسفورية تضيء الظلام قبيل الفجر فوق أراضي العراق. بشكلٍ شبه عفوي (ويستحق الدراسة)، سارعت تلك المجموعات المصرية المعارضة إلى التواصل مع بعضها البعض والتوافد إلى ميدان التحرير رأساً. ولأنّ رد الفعل العفوي لم يكن على خارطة العقل الأمني، فقد سمح هذا بتوافد المئات إلى ميدان التحرير، كان الأغلب منهم هو جمهور النشطاء والفاعلين السياسيين، ورموز وقيادات شعبية وشباب، وقد كان للقطاع الأخير الحضور الأكبر بعد تشكّل جيل جديد للقيادة داخل الجامعات المصرية مع اندلاع انتفاضة الأقصى داخل الأراضي الفلسطينية نهاية عام 2000.

وصلت تلك المجموعات، على تنوعها السياسي/ الجندري/العمري، إلى قلب ميدان التحرير ظهيرة 20 آذار/ مارس 2003. وكان العنوان الرئيسي هو رفض الاجتياح الأمريكي للعراق، لكن لبّ الغضب كان منصباً على ما يدور على الأرض التي تحملهم، فكانت الهتافات تقول "اللي بيضرب في العراق.. بكرة هايضرب في الورّاق" (وهو حي في قلب القاهرة)، "اللي باعوا العهد منا واستباحوا كل حاجة.. واستهانوا بالعروبة واستكانوا للخواجة.. همّ حاجة وإحنا حاجة". كان يوماً قد جمع بين مشاعر الغضب والاحتفاء، يوماً شهد رفض القرار الأمريكي والاحتفاء بالعفوية الشعبية المصرية التي وصلت إلى قلب الميدان.

بطبيعة الحال لم تمر سوى ساعات قليلة حتى كانت الكلمة العليا للقوة الأمنية. لكن وعلى الرغم من هذا، تشكلت ملامح إبداعية جديدة للّحظة. انخرطت المجموعات التي فُرّقت في الزوايا وبوابات النقابات، واستمرت على مدار يومين المظاهرات المحدودة أمام مقر الحزب الحاكم والبرلمان بأعداد لا تتخطى عشرات المعارضين. قامت قوات الأمن بالقبض على العشرات والاعتداء عليهم بالضرب المبرح، من بينهم حمدين صباحي، النائب البرلماني آنذاك والمرشح الرئاسي بعد ذلك. كانت قبضة أمنية واسعة لم تتوقف عند القبض العشوائي من الشوارع بل امتدت لتصل إلى البيوت. انطلق زوّار الفجر يقبضون في الأيام التالية على كل من يرون فيه قيادة شعبية يمكنها تكرار الدعوة والحشد مرة أخرى، بينما مشاهد الحرب والاجتياح تتصاعد على الشاشات.

استيقظ العالم يوم 20 آذار/ مارس 2003 على صور القنابل الفوسفورية تضيء الظلام قبيل الفجر فوق أراضي العراق. بشكلٍ شبه عفوي (ويستحق الدراسة)، سارعت تلك المجموعات المصرية المعارضة إلى التواصل مع بعضها البعض والتوافد إلى ميدان التحرير رأساً. ولأنّ رد الفعل العفوي لم يكن على خارطة العقل الأمني، فقد سمح هذا بتوافد المئات إلى ميدان التحرير.

كانت الهتافات تقول "اللي بيضرب في العراق.. بكرة هايضرب في الورّاق" (وهو حي في قلب القاهرة)، "اللي باعوا العهد منا واستباحوا كل حاجة.. واستهانوا بالعروبة واستكانوا للخواجة.. همّ حاجة وإحنا حاجة". كان يوماً قد جمع بين مشاعر الغضب والاحتفاء، يوماً شهد رفض القرار الأمريكي والاحتفاء بالعفوية الشعبية المصرية التي وصلت إلى قلب الميدان. 

سقطت بغداد يوم 9 نيسان/ إبريل 2003، وتمكّن الطلاب وحدهم من الاعتراض داخل أسوار جامعتهم، لكن رياح التغيير كانت قد انطلقت. فوران ثوري غزا العروق المتعطشة للتعبير، وكانت الزنازين والاجتماعات السرية بعيداً عن أعين قوات الأمن فرصة لإنضاج النقاشات.

وفي الوقت نفسه تضافر البعد الحقوقي مع السياسي، فتحركت دعوى قضائية ضد الحكومة المصرية تطالب بمنع مرور السفن الأمريكية عبر قناة السويس، وتدعوها إلى عدم التخفي وراء اتفاقات دولية تطالبها بالحيادية بين أطراف النزاع، وذلك انطلاقاً من كون الأمن القومي المصري واقتصاد البلاد يتعرضان للخطر جراء تلك الحرب، وهو ما يتيح لمصر قانونياً رفض ذاك المرور (3).

على الجانب الآخر وعبر المؤتمرات الصحافية ومن أشهرها كلمة وزيرة الخارجية كونداليزا رايس في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، حاولت وجوه عدّة في الإدارة الأمريكية استكمال حملتها لتبرير الاجتياح عبر مهاجمة الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة، والقول أنه لم يعد من المقبول الاستمرار بعلاقات وطيدة مع تلك الأنظمة للحفاظ على استقرار المصالح الأمريكية بينما تؤدي تلك الأجواء غير الديمقراطية إلى تشكل جماعات إرهابية تتوجه بغضبها نحو الغرب. تردد ذلك كثيراً كزعم عن كونه السبب الحقيقي وراء تفجير أبراج التجارة العالمية في نيويورك في 11 أيلول/ سبتمبر 2001 (4).

ميلاد من رحم الصدمة

وفق ما يليق بلحظات التفاعل الكبرى، دار الجدل داخل الأوساط السياسية الشعبية المصرية المعارضة على اختلافها حول كيفية استثمار تلك اللحظة والتعامل معها، بين رفض للسياسات الأمريكية تجاه العالم ككل، وبين الحاجة لاستكمال طريق التصعيد ضد السياسات السلطوية المصرية والتبعية كما تتجلى محلياً. ومن رحم هذا الجدل خرجت للحياة "حركة كفاية" المصرية في أيلول/سبتمبر 2004 بتوقيع 300 سياسيّ ومثقف مصري رافعين شعار "لا للتمديد.. لا للتوريث"، مطالبين بتنحي رأس النظام عن السلطة. وقد جاء ذلك بالتوازي مع أمرين، الأول هو ما رأوه من استعدادات شكليّة من جانب النظام لإحداث بعض التغيير السياسي استجابة للضغط الأمريكي، وبين ما يتم الترتيب له سياسياً واقتصادياً وبدأت آثاره في البزوغ لتكشف عن دور قادم لأسرة مبارك في حكم مصر والسيطرة على اقتصادها (5). فمن ناحية، قامت السلطة بالفعل بطرح استفتاء شعبي على تعديل دستوري يسمح بأن يكون انتخاب رئيس الجمهورية عن طريق الاقتراع السري العام المباشر من جميع أفراد الشعب الذين لهم حق الانتخاب، بدلاً من اختيار رئيس الجمهورية عن طريق الاستفتاء، بعد ترشيح مجلس الشعب لشخص واحد للرئاسة. إلا أنه ومن ناحية أخرى بدأت الترتيبات داخل الحزب الحاكم ("الحزب الوطني") من أجل سيطرة الابن الأصغر للرئيس بمساعدة عدد من رجال الأعمال على الوزارات ووضع رؤية اقتصادية وسياسية جديدة استعداداً لترشيحه كما اتضح للجميع آنذاك.

كان الاجتياح الأمريكي للعراق هو اللحظة التي هيّأت الفرصة. أجيال وجماعات من المعارضة، توالى تكونها ككرة الثلج، وكل موجة تفيض إلى ما بعدها. تشكلت "حركة كفاية" ومن رحمها خرجت مجموعات عدّة من أهمها وأكثرها تأثيراً "شباب من أجل التغيير" التي كان لها الحضور الأكبر في رفع صوت المعارضة ضد إجراءات الاستفتاء الشعبي على تعديلات دستورية رأوها صورية، ثم جولة الانتخابات الرئاسية عام 2005 التي شملت وقائع تزوير واسعة وانتهت بالقبض على المرشح الرئاسي "أيمن نور".

"يحكى أنّ.. أنّ إيه.. سرقوا بلادنا ولاد الإيه.. يحكى أنّ كان يا ما كان.. سرقوا بلادنا الأمريكان.. يحكى أنّ جيل ورا جيل سرقوا فلسطين إسرائيل.. راح يدخلوا بغداد العصر، والمغرب راح يدخلوا مصر". تلك الأغنية التي أطلقت في 2003، أعيد غناؤها في قلب ميادين الثورة في كانون الثاني/ يناير 2011.

كما تكوّنت حركة عمّالية احتجاجية واسعة اتخذت من رصيف البرلمان مقراً لها. ثم كانت موجة الاحتجاج الأوسع يوم 6 نيسان/ أبريل 2008 حين دعت قوى المعارضة إلى إضراب عام فجاءت الصيحة على يد عمال مدينة "غزل المحلة" الشهيرة بصناعة النسيج، ومنها إلى تكوّن "الجمعية الوطنية للتغيير" والدعوة إلى عودة السياسي المصري "محمد البرادعي" من الخارج وترشّحه للرئاسة. وأخيراً كانت الوقفات الاحتجاجية الشبابية ضد التعذيب في أقسام الشرطة عام 2010 تحت عنوان "كلنا خالد سعيد".

تلك كانت موجات عدة ومؤثرة، انطلقت من نزول المئات إلى ميدان التحرير غضباً من الاجتياح الأمريكي للعراق في آذار/ مارس 2003 ليعودوا بالملايين في يوم "جمعة الغضب" في 28 نيسان/ أبريل 2011، في خط متصل، مطالبين بإسقاط النظام. هذا الميدان الذي من لحظة أن تمكّن الشعب منه لم تغب عنه أعلام فلسطين والعراق، مع ترديد الهتافات ضد التحالف الصهيوالإمبريالي بمقدار ترديدها ضد النظم السلطوية المحلية.

مشهد ممتدّ قد انطلق من ميدان التحرير وعاد إليه. وكان مشهداً عربياً بامتياز وليس فقط مصرياً، يحكي المعضلة التي تعيشها الشعوب في منطقتنا. المشهد ترجمته بوضوح مبْهر أغنية "يُحكى أنّ" لفرقة "إسكندريلا" التي تنتمي إلى الجيل الشبابي الذي انطلق آنذاك. ففي 2003 غنوا على خلفية الاحتلال الأمريكي للعراق، فقالوا:

"يحكى أنّ .. أنّ إيه .. سرقوا بلادنا ولاد الإيه .. يحكى أنّ كان يا ما كان .. سرقوا بلادنا الأمريكان.. يحكى أنّ جيل ورا جيل سرقوا فلسطين إسرائيل.. راح يدخلوا بغداد العصر، والمغرب راح يدخلوا مصر".

النسخة الأولى من أغنية "يحكى أن" لفرقة اسكندريلا

تلك الأغنية أعيد غناؤها في قلب ميادين الثورة في كانون الثاني/ يناير 2011 ، وقد أضيفت إليها فقرة جديدة بنكهة الربيع العربي، تقول :

"يحكى أنّ.. أنّ إيه.. شعبنا مسك النور بإيديه.. يحكي أنّ كان يا ما كان.. اللى اراده شعبنا كان.. يحكي أن.. جيل ورا جيل.. مصر اتولدت في التحرير.. يحكي أنّ يا ابناء.. شمس الثورة من الشهداء.. يحكي أنّ يا حرية.. ثورتنا ثورة عربية.. فجر وصبح وظهر وعصر.. تونس ليبيا سوريا مصر".

النسخة الثانية بعد الثورة

***

في ضوء كل ما سبق، وللتكثيف، يمكن القول:

عشرون عاماً قد مرت على الاجتياح الأمريكي للعراق، عشرون عاماً عاشت فيها مصر موجات متلاطمة بين محاولات التغيير ووأده، عشرون عاماً كان احتلال العراق هو الجرح الذي أوقد النار المصرية التي ترفض ما لحق بالشقيق العربي وتلفظ ما هو جاثم فوق الروح، عشرون عاماً شملت انبلاج "الربيع العربي" ثم أفوله على امتداد الخريطة، لينتهي الأمر داخل مصر بهذا المشهد الغريب، حيث يأتي رئيس جمهورية بصفة عسكرية من داخل خزائن الدولة العميقة التي ثار عليها الشعب المصري، لكي يحذّر من مغبة الانجرار وراء حلم/ وهم التغيير الذي قد يسحب البلاد نحو مصير العراق، وكأن العراق الذي عاش أهله على مدار عشرين عاماً مآسي مهلكة لا زال قادراً ـ ولو بصورة عكسيّة ـ أن يكون مصدر الضوء، فيشير عبر مصيره الصعب إلى أين يجب توجيه البوصلة داخل مصر. 

______________________

*النص الثالث من دفتر "عشرون عاما على الحرب على العراق" وذلك بمشاركة موقع جمار وبدعم من مؤسسة روزا لوكسمبورغ.

محتوى هذا المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

______________________

1- "ممشيش": المطالبة بمنع السفن الحربية من عبور قناة السويس "فخ لن نقع فيه"، موقع "المصري اليوم"، 02/ 09 / 2013.  
2- “Egyptians receive a third of deferred Iraqi transfers: Central bank”, ahramonline, 08/04/2012.  
3- منى سليم، "أعوام السلام الدافىء مع إسرائيل والأثر الاقتصادي: مصر مثالاً"، موقع "السفير العربي"، 12/05/2022.
4- Secretary Condoleezza Rice, “Remarks at the American University in Cairo”, U.S Department of State, Archive, 20/06/2005.
5- “Who’s isolating whom?”, The Economist, 23/02/2006. 

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...