السودان لا يزال هو نفسه الذي يحكمه عمر البشير، المتهم من قبل المحكمة الجنائية الدّولية المدعومة من الدول الغربية، لدرجة رفض المسؤولين الغربيين مقابلته حتى عند قدومهم إلى الخرطوم. والبلد يخضع لعقوبات وحظر اقتصادي معلن وغير معلن بسبب اتّهام السلطات فيه بالإرهاب وبانتهاك حقوق الإنسان. لكنّ الجديد يتمثل في نوعية القضايا التي أصبحت تؤرق الدول الغربية مثل الهجرة غير الشرعية ومكافحة الإرهاب. والسودان بموقعه الجيوسياسي، أي بحدوده المشتركة مع سبع دول، وتواصله مع العالمين العربي والأفريقي، أصبح نقطة تركيز استراتيجية وكأنه استعاد ذلك الألق الذي كاد يجذب البريطانيين والفرنسيين إلى مواجهة عسكرية في العام 1898 (حادثة "فاشودة" إبّان ذروة التسابق الأوروبي على أفريقيا)، وهي المواجهة التي تم تجنبها بموافقة فرنسا على الانسحاب وإفساح المجال لبريطانيا للتمدّد جنوباً وتأمين مصر.
تحرّك أوروبي
المعلومات المتداولة أنّ المبعوثين الغربيين المعنيين بالملف السوداني عقدوا اجتماعا في نيسان / أبريل الماضي في لندن قرّروا فيه التواصل مع السودان لمنع الهجرة إلى أوروبا عبر ليبيا ومصر، ولتقييد حركة تنقل الإرهابيين بين شرق أفريقيا وغربها وشمالها، وأنهم سيعاونونه بالتّدريب والمعدّات، كما يتوقعون منه العمل على حل مشاكله الداخلية مثل وقف الحرب في منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور، واستيعاب المعارضة في إطار سياسي مقبول.
إضافة إلى هذا، فإن واشنطن المشغولة بتفجر الأوضاع في جنوب السودان، وجدت أنّ الخرطوم تملك أوراقاً عديدة مما يجعلها من أكثر الجيران تأثيراً في ما يجري على الساحة السياسية هناك. الخرطوم تبنّت سياسة حذرة في التعامل مع الساسة الجنوبيين وضعاً في الاعتبار للحساسيات السابقة، وانّها الدولة الأمّ التي انفصل عنها الجنوب. وبرزت هذه السياسة بقوّة مؤخراً إذ رفضت المشاركة في قوة حفظ السّلام التي قرّرها مجلس الأمن بسبب التحفظات التي أبدتها جوبا تجاه قوة السّلام هذه، كما استقبلت النائب الأول لرئيس جمهورية جنوب السودان تعبان دينق، رغم تحفظ دول الجوار على تعيينه، واستقبلت في الوقت ذاته النائب السابق رياك مشار الذي طلب القدوم إلى الخرطوم مستشفياً بعد أن تم إجلاؤه بواسطة الأمم المتحدة إلى الكونغو إثر أعمال العنف التي اندلعت بين قواته وقوات الرئيس سلفا كير. والخرطوم في ما يبدو تسعى لأن تكون محطة لكلّ الساسة من جنوب السودان.
الجديد يتمثّل في نوعية القضايا التي أصبحت تؤرق الدول الغربية، مثل الهجرة غير الشرعية ومكافحة الإرهاب..
وإلى جانب ملف جنوب السودان، فإنّ ما يجري في ليبيا من تحركات قوية للمجموعات الإسلامية تجعل للسودان دوراً كبيراً، بسبب جواره الجغرافي لليبيا ومعرفته بما يجري في ساحة التنظيمات الإسلامية.
والسودان بدأ بتنفيذ جزء من التزاماته وفي أواخر الشهر الماضي: استقبل 40 طالبَ لجوءٍ سياسيٍّ سودانيا كانوا في إيطاليا، وتضمن الاتفاق عدم معاقبتهم، واستقبال من خرجوا عن طريق السودان من الجنسيات الأخرى، وإعادة تدريبهم بتمويل أوروبي.
المسؤولون السودانيون شعروا بتغير اتّجاه الريح وخرجوا إلى العلن مؤخراً في مؤتمر صحافي شاركت فيه القوات المسلحة والشرطة وجهاز الأمن وحتّى الميليشيا المعروفة باسم "قوّات الدّعم السريع"، كان عنوانه الرئيسي أنّ السّودان يحارب الهجرة غير الشرعية نيابة عن أوروبا بكلفة في المال والأرواح أثناء مطاردة عصابات الاتّجار بالبشر، دون أن يتلقى شكراً على جهوده هذه، خاصة أنّه دولة عبور لا مستقر للمهاجرين. وقالت قوات الدعم السريع إنّها خسرت أرواح 25 جندياً وجرح 315 من أفرادها إلى جانب فقدان 151عربة أثناء عمليات المطاردة والاشتباك مع عصابات الاتجار بالبشر. كما تم توقيف 808 أشخاص في طريقهم إلى ليبيا بطريقة غير شرعية، بالإضافة إلى القبض على تسعة من المتاجرين.
وفي إطار الدعم الأوروبي للسودان في مجال البنية التحتية على الحدود، للسيطرة عليها وضبط الهجرة غير الشرعية، فيتوقع وصول فريق من الاتحاد الأوروبي هذا الشهر إلى السّودان لمتابعة ميدانية لتخطيط وتنفيذ بعض المشروعات التي سبق الاتّفاق عليها.
السّؤال الكبير
فهل تؤدي هذه التطورات إلى حدوث انفراج سياسي حقيقي داخل المشهد السوداني المأزوم، وهل الزيارات المكوكية للمبعوث الأميركي مؤشر على أنّ إدارة أوباما تدفع باتجاه حدوث اختراق سياسي يسمح لها بالقيام بتخفيف إجراءات المقاطعة والحظر الاقتصادي. فالسودان يخضغ إلى سلسلة متباينة منها، "طبقات" بدأت في 1992، عند وضع السودان في قائمة الدول الداعمة للإرهاب. وتعززت بعد خمس سنوات، عندما فرض كلينتون عقوبات اقتصادية أحادية، ثم جورج بوش الابن إبّان تفجر أزمة دارفور. وضاقت أنشوطة هذه العقوبات على عنق الخرطوم إثر قيام واشنطن بتغريم بنك باريبا الفرنسي تسعة مليارات دولار لتعامله مع السودان وإيران، الخاضعتين لإجراءات المقاطعة الأميركية، ما دفع الكثير من المؤسسات المالية (حتى الخليجية) إلى وقف ذلك التعامل. وما انعكس سلبيا على الموقف الاقتصادي والمالي المتدهور أصلاً، انفصال السودان في العام 2011، الذي حمل معه معظم احتياطيات البلاد النفطية. وأبرز ملامح الأزمة تدهور قيمة الجنيه السوداني بصورة غير مسبوقة بعد أن تجاوز حاجز 16 جنيها أمام الدولار. وهذا الوضع يعطي واشنطن فرصة لممارسة ضغوط مركزة على الخرطوم للدّخول في تسوية سياسية مستدامة لأنّ تخفيف المقاطعة المالية أصبح أولى أولويات الخرطوم كما أشارت منظمة "كفاية" الأميركية في أحدث تقرير لها عن السودان.
الغائب الأكبر في كل هذا هو الإرادة السياسية الداخلية في السودان، في جانبي الحكم والمعارضة
على أنّ الغائب الأكبر في كل هذا هو الإرادة السياسية الداخلية في السودان، في جانبي الحكم والمعارضة. والتقارب الجاري بين الحكم والدول الغربية، على الرغم من أنّه يعني عدم اعتبار المعارضة بديلا للنظام القائم، إلّا أنّ ذلك لا يعني شيكاً على بياض للرئيس البشير وحكومته، لأنّ للتدخّل الأجنبي أولوياته ومصالحه في المقام الأوّل.