نشر هذا النص لأول مرة على موقع السفير العربي بتاريخ 09 / 09 / 2021.
في جنين، صَوّر جوليانو مير خميس فيلماً عام 2003 يتتبع فيه حال أصدقائه الذين كانوا أطفالاً يمثلون على خشبة "مسرح الحرية" الذي أسسته والدته "آرنا"، المرأة التي نفضت عن نفسها الصهيونية بحزم وناصرت فلسطين. أطفال ذلك المسرح، كبروا وصاروا شباباً، أو لا، فجلّهم لم يتسنَّ له أن يكبر كثيراً فاستشهد قبل أن تصل الكاميرات لتسأل أين نجوم الأمسِ الصغار. في أحد المشاهد صوبَ نهاية الفيلم، يجلس شابان يتجادلان فيما هما يستذكران عدوان 2002 على المخيم، ولا يخلو حديثهما من "زكزكات" تنافسية حول من قاتل أفضل، إذ أنّ كليهما كان قائداً لمجموعة مقاوِمة أثناء العدوان. أحدهما علاء الصباغ (الذي استشهد لاحقاً إثر محاولة العدو القبض عليه من مخيم جنين)، أما الآخر فاسمه يجتاح كل خبر على كل منصة منذ أيام. هو زكريا الزبيدي [1]، أحد الأسرى الفلسطينيين الستة الذين حفروا نفقاً من سجن جلبوع إلى حريتهم فجر يوم الإثنين في 6 أيلول/ سبتمبر 2021.
غريبة جداً استعادة ذلك المشهد الآن، فهو يبدو مرسوماً كجزء من حكاية أو من مسرحية بفصول، وقد يكشف بعداً جديداً من أبعاده في الحاضر، وإن كان بعداً غير مقصود. علاء الذي سيستشهد يمازح زكريا الذي سيُعتقل، قائلاً أن الأخير لا يريد الموت في المعركة، والبديل هو حكم المؤبد، ليردّ زكريا فوراً "لا، بَموت تحت جرافة أحسن".
في ذلك الإطار، ووسط هرج الأصدقاء والمزاح الثقيل الذي يتبادله الاثنان، لا يبدو أنّ أياً منهما يقصد أياً مما يقوله بالضرورة. علاء يتهم زكريا أنه كان "يأرغل" فيما الآخرون يقاتلون، وزكريا يتهم علاء بأنه سلّم نفسه... ووسط كل هذا الجو الخالي من الجدية بين الرفاق، يفكّر المرء للحظة بـ"أسطورة جنين" وصمودها وقتالها الجبار... تلك الصورة التي تستحضر أبطالاً خارقين من طينة ما فوق بشرية مثلاً، لا "يزكزكون" ولا يتنافسون ولا يتعاركون ولا يسائلون خياراتهم ومصائرهم. ننظر إلى المشهد مرة أخرى، فنتفاجأ بشبان عاديين، عاديين تماماً، ولكن قادرين تماماً على صنع أمورٍ غير عادية...
أنظر مجدداً إلى زكريا الزبيدي في الفيلم، بوجهٍ محترق من آثار انفجار سابق، يستفزه صديقه ورفيق سلاحه، وأفكّر بكل ما تخيلناه بعد شيوع نبأ عملية الهروب من السجن الإسرائيلي مشدد الحراسة. كل تلك البطولات من جنين وكل تلك الأساطير من عملية سجن جلبوع، وكل ما صنعه الناس في هبّة القدس في رمضان الفائت، وأستعيد ونستعيد للحظات ما هو ممكن بما هو متاح.
ما كان متاحاً كان ملعقةً، يقولون، وربما أدوات حفر بسيطة أخرى، وهِمّة ستّة رجال هذه أسماؤهم: محمود عارضة، محمد عارضة، يعقوب قادري، أيمن كمنجي، زكريا زبيدي، مناضل أنفيعات.
ستة أشخاص عاديين مثلنا، يفعلون فعلاً غير عادي.
***
"حتموت من الرعب
من الأرض نطلع زيّ جِنّ
بِخّ!"
كلمات الرابر الفلسطيني "شب جديد" (من تراك "إن أن" لـ"ضبور" بالاشتراك مع "شب جديد") في كل مكان مع صور فتحة النفق الذي حفره الأسرى الستة ووجد فيه كثر مصداقاً لنبوءات الأغنية المتلاحقة. "هدّي اللعب عالهَدى، نترك عالنار الأفكار تنطبخ..."، تقريباً كما ينطبخ نفق الحرية حفنةً من التراب إثرَ حفنة على مدى شهور طويلة، بِسكوت ولكن بلا سكون. عالم الخيال يتسعُ يتسعُ مع هذه الحكاية التي كان ناسها أبطالاً خارقين وصاروا جنّ باطن الأرض، يخرقون الجمادات ويخرجون منها سالمين.
فلسطين: تعدّدت الأدوات والاعتقال واحد
22-02-2021
الحافرون طريق الحرية – حرفياً لا مجازاً - رآهم الناس في الأغنيات والمسرحيات والأساطير والأفلام. استعاد كثر فيلم "الخلاص من شاوشانك" (Shawshank Redemption)، الذي يهرب فيه المحكوم بالمؤبد بواسطة الحفر لسنوات في زنزانته والزحف في شبكة الصرف الصحي إلى موقع خارج أسوار السجن، واستعاد آخرون مسلسل (Prison Break) الذي يحكي حكاية مشابهة، وحتى قناة "سبيستون" للأطفال استعادت أغنية "عهد الأصدقاء" بـ"تهدينا الحياة أضواءً في آخر النفق"، وتسيّدت نشوة الخبر كلّ حديثٍ عنه مع استعادات ومقارناتٍ ترتبط بقصص من الواقع وأخرى من الخيال. ربما لأن الحكاية أغرب من أن تصدق ولأن إرادة الأسرى عميقة بشكل من الصعب تخيله. في الأفلام تكثيف للوقت لا تتيحه الحياة. نرى على مدى ساعة ونصف أو ساعتين السجين وحيداً، يبتدع خطة، يأمل ثم ييأس ثم يصمم ثم ينفّذ فيهرب. أما في حالة الأسرى الستة، فقد عاشوا الشهور الطويلة التي حفروا فيها بدقائقها وثوانيها، وقد استطاعوا بطريقة ما أن يطردوا اليأس على مدى تلك الشهور الطويلة، ولعل ذلك مبهر وملهم أكثر من لحظة الفرار المدوية التي تمت فجر الإثنين، والتي سبقتها ليال كثيرة من العمل الدؤوب، ومن "الأفكار التي تنطبخ عالهدى" قبل أن "يطلعوا زيّ جِنّ".
إنها أجمل من الخيال والأفلام، هذه الحكاية، والناس في حكاياتنا أجمل من الأبطال الخارقين أيضاً وأكثر إبهاراً.
منذ شهور قليلة فقط كان ناس "عاديون" آخرون في الشيخ جراح يصنعون أيضاً أشياء غير عادية. غزة والقدس وجنين… تقاطع الجهود وطول الأمل… ليس موضوع حادثة منعزلة تشبه الأفلام، ولكنه نمط مقاومة طويل النفس لا يسكن وإن أُنهِك أحياناً. "بندبّر حالنا / نحلّ اللغز" [2]، نمط مقاومة وإن بملعقة.
***
وإذا كانت الأفلام تنتهي بعملية الفرار ونشوة الانتصار، فإن حكاية نفق الحرية لا تنتهي بخروج الأسرى الستة. فهؤلاء خلفهم مئات المعتقلين في السجون الإسرائيلية، أعلنوا عصيانهم وتمردهم على المداهمات وتفتيش الزنازين والقمع، منذرين بانتفاضة في سجون ريمون والنقب وشطة وجلبوع الذي شهد عملية النفق، وذلك إثر محاولة إدارات السجون الإسرائيلية معاقبة الأسرى وصب إحباطها وغضبها عليهم انتقاماً، حتى وصل الأمر بالأسرى الفلسطينيين في بعض الأقسام إلى إحراق زنازينهم عمداً منعاً لدخول المفتشين وقمع السلطات التي عمدت إلى تقييد بعض الأسرى والاعتداء بالهروات بشكل وحشي.
وهؤلاء الستة أمامهم أيضاً شعب عاهدهم أن يحميهم بوجه إسرائيل وبوجه سلطة التنسيق العميلة، فأمطر الناس الشرطة الإسرائيلية بمكالمات هاتفية مضلِلة تقودهم إلى مواقع تدّعي أن الأسرى الأحرار شوهدوا فيها، حتى أعلنت السلطات عدم اتكالها على "تبليغات شهود العيان". تحركت الشوارع من جديد. وهم، حيثما تمكنوا، حطموا كاميرات المراقبة المزروعة في كل مكان، حتى يصبح الاحتلال "فاقد البصر".
استعادت الذاكرة في كل مكان من منطقتنا قصصا مشابهة: أحد أشهر مؤسسي مقاومة الجزائر للاحتلال الفرنسي، مصطفى بن بولعيد، هرب بنفق من سجنه في الجزائر أيام احتلالها من الفرنسيين الذين لم يجدوه بعد ذلك قط...
القصة تتوالد قصصاً بأبطال كثر، والخيال يتمدد.
اقرأ/ي أيضا:
-نص لم يعجب فيسبوك: عن رعد حازم
-فتيات وفتيان جنين يتخيلون غداً أكثر مساواة
-نافذة من جنين إلى غزة على أبطال عاديين
-ليس الطريق مستحيلاً ولكنه صعب، وكل صعب ممكن
-قتلوا شيرين أبو عاقلة.. لكن الصوت باقٍ
[1] كانت عائلة زكريا الزبيدي قد قدمت الطابق العلوي من منزلها ل"مسرح الحرية" الذي أدارته آرنا مير خميس كمساحة للأطفال في جنين للتعبير عن أنفسهم.
[2] من كلمات أغنية الراب "إن أن" أيضاً.