.. مَن يكترث لِما يجري في السودان، وخصوصاً إنْ كان ما يجري ذاك لا يندرج بحال من الأحوال في المواضيع "الشيّقة" للمنطقة، تلك المتعلقة بالاحترابات السياسية/ المذهبية، التي تُقسم الناس وتَحمل كل واحد على الانتصار لمعسكره. البلد فقير (مع أنه بالغ الثراء، نفطاً ومعادن ثمينة، بما هما هبة ريعية، وزراعة ومواشي بما هما ملتصقَان بحياة الناس: اسألوا الإنجليز الذين استعمروا السودان مديداً)، وسكانه متفاوتون في سواد البشرة، (35 مليوناً بعد حسم 11 مليوناً هم أبناء جمهورية "جنوب السودان" المستقلة، ولكنهم جميعهم "سمر")، وبلادهم شاسعة (مليون و886 ألف كيلومتر مربع، بعد حسم أكثر من 660 ألفاً، للأسباب نفسها!).
الفيضانات أصابت كلّ السودان: 13 من 18 ولاية! من غربه حيث الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور (تلك المحتربة منذ سنوات والتي أصبحت مضرب مثل في جوع أبنائها وفي الاغتصابات الجماعية للنساء خلال النزاعات)، وحتى كسلا شرقاً على الحدود مع إريتريا، وهي القريبة من إثيوبيا جنوباً ومن بور سودان شمالاً، منفذ البلاد على البحر الأحمر الذي يقابل تماماً ميناء ومدينة جدّة السعودية. بل طالت منذ أيام العاصمة الخرطوم، فأغرقت شوارعها وعطّلت الكهرباء وقطعت كل أشكال النقل من بور سودان وإليه.
الفيضانات دمّرت آلاف البيوت، وبخاصة تلك الطينية، وقتلت وشرّدت عشرات الألوف من الفقراء.. مثلما يحدث في كل عام، ومثلما هو متوقّع خلال الخريف الذي يبدأ هناك في حزيران/ يونيو وينتهي في آب/ أغسطس.
كلّ عام! السماء تمطر والنيل يفيض. وتكتفي السلطات بتحذير المواطنين من المخاطر، ثم تستنجد بمنظمات الإغاثة الدولية لتوفير خيام وطعام وماء صالح للشرب للمنكوبين الذين لم تقتلهم الفيضانات. تأتي بعد ذلك الأوبئة: كوليرا وملاريا وما تشاؤون من الحمّى. ونُفوق الأبقار والأغنام والطيور. كارثة ممتدة!
وكل عام يُفاجَأ المسؤولون! ولكنهم بعد تلك الأيام العصيبة ينسون. بل هم يتأخرون في الإعلان عن الحالة إلى أن يصبح لا مفرّ من الأمر. ثم يبدأون بالتخفيف من أرقام الخسائر، على الرغم من أنها نتيجة كارثة طبيعية، ما يسهّل عليهم حياتهم، وعلى الرغم من أنها مبرّر ممتاز للاستجداء.. يتهرّبون ثم يكذبون. لعلّ السرّ هو في شعورهم، ولو الدفين، بأنهم مذنبون!