لا داعي أن تسأل عن السوريين في المُجمَّع. ستعرفهم بعد أول ذهول: هم الخائفون الحذرون المرتبكون الذين يتحدثون همساً وينقلون لك أبسط المعلومات بالإشارة والتلميح كما لو كانت أسراراً عسكرية! عدة عائلات سورية، وعائلتان فلسطينيتان اجتمعوا في مجمع في العاصمة الفرنسية. كان الفلسطينيون أكثر انفتاحاً لكنهم خرجوا من المجمع بعد أيام. لماذا أخرجوا الفلسطينيين وأبقوا السوريين؟ سؤال سيفتح قريحة السوريين على "التحليلات" و"التوقعات" التي تذهب بعيداً كالعادة.
المحاباة ذخيرة فاسدة
طالب لجوء سوري يمتدح الطعام الفرنسي مشدِّداً على الكلمات أمام كاميرا يفترضها موجودة، قائلاً: طعام خمس نجوم، هذه فرنسا أرض حقوق الإنسان! تهمس إحداهنّ: كلّ هذا المديح لأجل الرّز المسلوق، ماذا سيقول لو قدّموا له الرّز بالشعيرية؟ تنفرج أسارير الحاضرين لمجرد ذكر صاحب الغبطة: الرّز بشعيرية! يذكر أنّ الطعام كان جيّداً وصحيّاً، لكنه لم يتماشَ مع ذائقة المهاجرين وطالبي اللجوء الذين يفتقدون إلى الطعم القوي، على عكس طبيعة الطعام الفرنسي. تُرى هل ثمة علاقة بين الحرمانات والمنكِّهات. المحنة الأخرى كانت بحلول شهر رمضان وصيام المسؤول عن المجمع. بعض السوريّين ادّعوا أنهم صائمون عملاً بقناعتهم "الوطنية" أنّ محاباة المسؤول المباشر تجلب المنافع. ما جعلهم يصابون بخسارة مزدوجة: وجبة الغداء ومصداقيتهم معاً.
طوابير وروتين
لم يكن مزاحاً ثقيلاً ما قالته المشرفة الاجتماعية بفائضٍ من الابتسامات: "يجب أن تذهبوا قبل الثامنة مساءً إلى مركز المحافظة وتبقوا هناك لتأخذوا دوراً لليوم التّالي صباحاً لأجل تجديد ورقة الإقامة. ولا تنسوا أن تأخذوا معكم أغطيةً ومظلّة وبعض المشروبات"! هناك في مركز المحافظة كان ازدحامٌ ومشاجرات، شتائم بكل اللّغات وبكاء نساء وعجزة وأطفال، ولا أحد يريد التنازل عن حقه في أن يكون من المصطفين. الشرطة حاضرة للمراقبة.
"بلد الألف ورقة" هكذا يتندّر الفرنسيون على روتين نظامهم المؤسساتي، أوراق عليك أن تحتفظ بها، فواتير وعقود، فاتورة الكهرباء هي من أهم الفواتير التي تستطيع إثبات هويّة الشخص (في حصار درعا، كانت قوات النظام تمنع من لم يحمل فاتورة الكهرباء من تجاوز الحواجز، أي أنها كانت تطبق ــ دون أن ندري نحن الغافلين ــ الروتين الفرنسي!). المزعج أكثر، أنهم يطلبون تاريخ ميلادك في كل وقت، والمصيبة عندما لا تتقن نطقه بالفرنسيّة فتضطر/ين إلى الطلب من آخر أن يعلنه. يا للفضيحة! كل النساء السوريات انكشفت أعمارهن، فوق انكشاف حياتهن وأوجاعهن ومعاناتهن. هل هو إحساس اللاجئ بانتهاك خصوصياته، ما يشعره بالقهر؟ أم أن التربية والتقاليد المختلفة مسؤولتان عن الغيظ المتفاقم؟
"اعشق كنبة، ولا تخن الكرسي"
باستثناء مخيم "كاليه" المأساوي، يستطيع الفرنسيون أن يفاخروا بأنهم يستضيفون اللّاجئين في مجمعات سكنية وليس في مخيمات. لكن أن يمضي اللاجئ سنة (وسطياً) في مجمع اللجوء هو أمر عسير دون شك. ففي مساحة بحدود العشرين متراً تخصّص لعائلة من أربعة أفراد، ومع ازدحام المجمع وتنوع سكانه وعاداتهم ولغاتهم وأطعمتهم وأعمارهم وثقافاتهم ومصائبهم.. تصبح الحياة ضرباً من الاستمرار في قضاء الحاجات لا أكثر.
أكثر الفقدانات وحشة وأغربها: افتقاد الكنبة! الكنبة هي التسمية الفرنسية للأريكة والشائعة الاستعمال بالعامية العربية لفرط ما توحي بالاسترخاء، المطلب الأكثر حيوية عند الشعوب جميعاً. إذ أن الكنبة ببساطة هي عماد البيت. فكروا بهذه الوسيلة السحرية التي تربط مفاصل حياتكم، فهي سرير الضيف وملاذ المريض ومكان غفوة ما بعد الظهر وحافظة سرّ الخصام الزوجي. في أحضانها تسرح حكايا الجيران وبقايا سندويشات العصرونية مع دموع المسلسلات وحماس المباريات وتوتر نشرات الأخبار، هي رفيقة أرق الوحدة وموطن الاجتماع العائلي المتواطئ على تبديد الوقت وتصريف الاحتقانات.. وهي ما يشتاقه اللاجئون بعد سنة من الجلوس على كراسٍ خشبية ملساء تجبرهم على الاستناد على الطاولة منعاً للانزلاق في وضعية من يحضر اجتماعات متواصلة.
"هل انتقلتم إلى شقة؟ هل اشتريتم كنبة؟" هذا سؤال اللاجئ للاجئ الأوفر حظاً أو الأقدم منه!
لكن مهلاً، فعندما يتاح لك أن تزور صديقاً يملك كنبة، إياك أن تنقاد إلى غوايتها، ولا تغفل عن نعمة الكرسي الذي يمنحك فرصة عزيزة لمواجهة من يشبهك: إحفظ تفاصيله، تأمل حيرته، تمعّن في عينيه، اقترب من رائحته وصوته والمس ما استطعت من أشيائه، راقب تردد أصابعه، وتشتت ضحكته، اصنع تاريخاً من الهمهمات والوشوشات والايماءات أنت هنا لترى نفسك في مرآته، لتسند ضعفك بعجزه. الكرسي ضمانتك لتنهض مودّعاً لحظات الإلفة بمرارة أقل: على اللاجئ ألا يرتكب حماقة الاسترخاء.
لغة مفقودة
جميلة، لذيذة، شاعرية، راقية، ناعمة... هذا ما يُقال عن اللغة الفرنسية. لكن ليس للاجئ ترف تذّوق لغة تقدَّم له مسلوقة بثلاثمائة ساعة (وسطياً) بعد أن جرى ضغط ميزانية تعليمها.
ليست الفرنسية هي المشكلة الوحيدة. ثمة لغة تواصل إنسانية مفقودة بين اللاجئين، وبينهم وبين المُضيف :
ــ تجهد الفتاة المتطوعة في نطق وتهجئة أسماء اللاجئين وبلدانهم "العجيبة" بالنسبة لها، لكن أكثر ما يثير غضب "أصلان" من الشيشان اعتقاده الراسخ أن الفرنسية الشابة تتعمّد عدم الاعتراف باستقلال بلده حين تنسبه إلى روسيا.
ــ لم يكن سهلاً على المعلمة أن تكتشف سبب ذعر الطفل النيجري من الثلج الذي لم يسبق أن رآه، وبعد طول شرح وتجارب أخبرها أنه يجده حاراً وليس بارداً كما تقول. ضحكات زملائه العفوية قبل أن يفهموا أنه شعر بلسعة الثلج الحارقة، ظلت تعتصر قلبه وتجعله ينتقم: أكره الفرنسية والثلج!
ــ وكيف يمكن أن تقتنع "بتول" الباكستانية أن درس السباحة إجباري في المدارس الفرنسية وأن على ابنتها أن تسبح مع رفاقها الصبيان؟ وإن هي استسلمت للأمر الواقع، كيف ستشرح الأمر لأقربائها في باكستان؟
ــ رئيس المجمع (المهاجِر في الأصل) يندهش من المطالبة بتوفير غسالة ثياب متسائلاً: وهل أنتم معتادون في بلدانكم على الغسالات الأوتوماتيكية؟!
ــ لاجئون يعتقدون أن فكرة دمج اللاجئين تحمل قدراً من الاستعلاء و"العنصرية"، وربما حان أوان البحث عن حلول تواصلية باتجاهين.
صراخ الصامتين
ضجيج المجمع هو جبل الثلج الذي يغطي الصمت الرهيب الذي يطوي آلاف الهواجس والخيالات والتصورات والاحتمالات والأكاذيب.. الموبايلات "جنة اللاجئين وجحيمهم اليومي" تصدح بالشعائر والأغاني وأصوات الأهل عبر "الفايبر" والتطمينات الخادعة التي تخرس بعد الدقيقة الأولى. تستطيع أن تخمن السؤال اللجوج العاجز نفسه يترّدد صداه عبر الفضاءات: هل أنتم بخير؟ وأنتم؟ آلو.. آلو.. يختنق الصوت: بخير. ينقطع الاتصال المجاني ليتواصل الصمت المُكلف!
آمال مرفرفة
لا شيء يجمع الناس ويهدئ روعهم في هذا المجمع مثل "أنيسة"، الطفلة الأفغانية ذات الأعوام السبعة التي أصيبت بشظية التهمت إليتها وخلّفت حفرة في مؤخرتها والتواء في ساقها. تتراقص أنيسة مستعرضة فساتينها المزركشة وتحلّق كفراشة منجذبة إلى نور تراه وحدها، فتذهب أبعد مما يتوقع الأطباء في التعافي، وبرفق ورِّقة تمضي إلى اللعب والتشاقي مع صغار مثلها لا يفرّقون بين الساق العرجاء والإصابة بالرشح مثلاً. أنيسةُ الفرح والرضا هذه تبّشر الجميع أنهم سيكونوا بخير يوماً، فيتنهدوا: شكراً فرنسا!
وتبقى في النفوس حسرة مقيمة: آه أيتها البلاد المعبودة، كيف تركتِ أولادك يعرجون في بلاد الغير..