أعرفُ هذه الرائحة جيّداً. أعرفها وأحفظها عن ظهر قلب. هذا شيءٌ مألوف، أختزنه في باطن رأسي. لكن استثارتها الآن وفي هذا المكان هو ما يبدو غريباً لي. رجّحت كفّة الحنين لشهر رمضان في يومه الأوّل: رائحة طعام تخرج من شبابيك البيوت في وقت موحّد، أصوات "كركعة" الصحون والمعالق المتزامنة مع ضحكات عائليّة..
على طول الخطّ الفاصل بين مدخل المجمّع السكني وباب البيت راحت تهلّ روائح مطبخ أعرفها جيّداً وليست غريبة عليّ بل على المدينة الفرنسية تولوز، خاصّة في هذا الوقت أي التاسعة مساءً.
عند الحادية عشرة والنصف ليلاً تسرّب إليّ صوت قراءة قرآن شبيه بما أحفظه في ذاكرتي عن أبي خلال قراءاته فجراً. اعتبرته حنيناً وهلوسةً مبالغ فيها. من أين سيأتيني الصوت بكلّ هذا الوضوح والشقتين في المبنى الذي أسكن فيه لا يتكلّم أحدٌ من أصحابها اللغة العربية؟ ومن سيجرؤ في هذا الليل، وبكمّ العنصرية المتدفّق تجاه المسلمين، على قراءة القرآن بصوت مرتفع كهذا؟
وصلني الصوت في التوقيت ذاته في ثاني أيّام رمضان، أي الثلاثاء. هذه المرّة كان أكثر وضوحاً. كانت قراءة مُتقنة للقرآن، أقرب إلى التجويد منه إلى القراءة العاديّة. رجّحت أن يكون مصدر الصوت آتياً من الشقة الأرضية في المبنى الملاصق لنا. تابعت قراءة الرجل حوالي نصف ساعة قبل أن يُقرّر إغلاق برادي بيته، التي وصلني صوتها أيضاً.
عرفتُ من الأسماء المُدوّنة على علب البريد أنّ عدداً لا بأس به من الفرنسيين من أصول مغربية أو جزائرية يعيشون في المجمّع السكني هذا. يعني هذه أجواء رمضان التي تأتيني، وليس هلاوس مختلفة.
الخميس التقيت برجل يركن سيارته أمام باب الشقة التي رجّحت خروج الصوت منها. رجل ستينيّ، ضعيف البُنية، قصير بقميص وشاربين أسودين. يبدو التعب واضحاً في تجاعيد وجهه. كان يُعلّق سبحةً في السيارة وعلم صغير للجزائر. أخبرني لاحقاً أن قراءة القرآن فعليّاً مقرونة بشهر رمضان في أغلبها. أخبرني يوم التقيته خارجاً من البيت وبيده مسبحة بنيّة اللون التي أخرجها من علبتها خصّيصاً لهذا الشهر.
***
إنها الجمعة الأولى من شهر رمضان في تولوز. أين نتوجّه؟ أربعة أحياء في وسط هذه المدينة معروفة باكتظاظها بسكّان من أصول عربية: بيلفونتين، باغاتيل، أومبالو وميراي.
قصدنا باغاتيل وهو حيّ مليئ بالعائلات، ما يجعله أخفّ صخباً من أومبالو مثلاً، هادىء نوعاً ما (في محيط المترو فقط وليس أبعد كما يُشاع)، كما يتميّز بسوقه الشعبيّ الذي يُقام كل يوم جمعة.
خرجنا من المترو واتّبعنا خطّ سير الأغلبية. لم نكن مُخطئين. وصلنا سوقاً هائلاً بملابس وأقمشة ومأكولات وأحذية ومكسرات وحقائب سفر..
كثرة لهجات هنا. لكنّ الغالب الأعمّ هي الجزائرية والمغربية.
هيمنة الذكورعلى إدارة البسطات لم يمنع حضوراً أنثوياً واضحاً من تولّي مسؤولية بعضها الآخر. تتولّى سيدتان، إحداهما خمسينية محجبة بعباءة مغربية، بيع المكسرات على عربة كبيرة نوعاً ما.
اليوم، وبمناسبة رمضان، أُضيف عليها كمّ هائل من التمور. أحجام، ألوان وأسعار مختلفة. حاولنا السؤال عن الإختلاف بينها، فجاء ردّ السيدة مُقتضباً " كل نوع من بلد، لا أعرف أكثر ولكن هذه لذيذة، لا نبدأ إلاّ بها إفطارنا كلّ يوم".
100 غرام (خمس تمرات) من النوع الجيّد، دفعنا ثمنها يورو وتسعين سنتيم. آخر ما قالته السيدة لنا كان "يتقبّل ربّي".
بسطة الحلويات الأسبوعية التي تحمل الحلويات المغربية والجزائرية التقليّديّة، أضاف صاحبها هذا الأسبوع طاولتان. لماذا؟ الكبيرة منها ترامت عليها، بطريقة هرميّة، أطباق من "الشمِيّة". علب بلاستيكية فضيّة دائريّة بداخلها حلوى بنيّة اللون، منثور فوقها حبوب من اللوز.
الطاولة الثانية حملت أطباق متنوّعة، راح يُسمّيها واحدة بعد الأخرى، بناءً على طلبنا وسائلاً مع ذكر كل اسم إنّ كنّا راغبين بالتذوّق مُسبقاً: بوسبوسة، كرب اللوز، سيغا، بقلاوة...
على بُعد خطوات منهما، يتولّى رجل مُسنّ بيع الدجاج المذبوح بطريقة شرعيّة، لكنه أضاف اليوم جديداً. إنّها عبوات المياه البلاستيكية التي ملأها يدويّاً باللبن. هذه تأتي مع رمضان على حدّ قوله. حرٌّ وصيام؟ عليكم باللبن.
كانت الساعة تُقارب الثانية عشرة ظُهراً. كانت الحديقة المقابلة للسوق مُكتظّة بنساء محجبات وأولادهم. الكلّ يعرف الكلّ هنا.
كانت إحداهنّ تعرض على جاراتها مايو كحليّ اللون اشترته لابنتها ولم يأت على مقاسها، هل من يشتري؟
تقول سيدة مغربية أن يوم الصيام هنا طويل، والخروج من البيت ضروريّ لتمرير كلّ هذا الوقت ولإيجاد أفكار للإفطار.
خبز وحلويات و؟
عند السادسة مساءً يكتظّ الوسط التجاري الخاص بباغاتيل. تنزل النسوة مع أزواجهنّ وأولادهم لشراء ما ينقصهم قبل الإفطار. صفّ الناس لسحب المال من ماكينة البنك تجاوز الرصيف ليصل إلى الطريق العام.
في هذا الوقت، تعبر سيدة بعباءة بمربعات بنفسجية ومنديل أحمر وهي تحمل سلّة من قناني المياه. ابنها تولّى حمل كيسين مليئين بالأغراض.
على يسارهما، مقابل مطعم البيتزا في الأيام العادية، يفترش شاب الرصيف بطاولتين كبيرتين. يجلس هو على كرسيّ أبيض بينما يردّ على أسئلتنا: هن عبوات بلاستيكية مُعبأة يدويّاً بالعصائر الطازجة، وهنا أطباق من الحلويات أبرزها: شباكية رمضان. ممّ تُصنع هذه؟ طحين، بيض، ملح، زبدة، زيت زيتون، خلّ، يانسون، سمسم، ماء الزهر، عسل.. سريعاً يشرح الشاب المكوّنات ليبدأ بطريقة صنعها ويسأل إن كنّا راغبين بالتذوّق.. قبل ساعتين من وقت الإفطار.
بالقرب من محطّة المترو اصطفّت مجموعة من العربات تبيع جميعها الحلويات الرمضانية، أدخل بعضها إلى تشكيلته المعجّنات والخبز العربيّ!
ماذا عن الخبز؟
سألنا الشابة العاملة في أحد الأفران عن سبب هذه الرائحة التي تملأ المكان. ردّها جاء متوقعاً "هذا لرمضان". في هذا الشهر يصنعون خُبزاً خاصاً: الطاجين، كسرة (غاليت الجزائرية) والفوغاس. كان عدد الناس المنتظرة بالدور خلفنا يزداد تباعاً ما اضطرنا للإكتفاء بصورة للحلويات المتربّعة على الطاولات بأغلفة زهريّة جاهزة للبيع. بينما كانت تُصرّ الشابة على إخبارنا أن هذه الرائحة ناتجة من "اليانسون" المرشوشة على الخبز.