تتوالى الاجتماعات بين الخرطوم ونيويورك، التي تجاوزت العشرين حتى الآن، بهدف النظر في طلب السودان اعتماد إستراتيجية لخروج القوات الخاصة بحفظ السلام، المشكّلة من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، من إقليم دارفور المضطرب. وضعية ومصير هذه القوات التي صدر القرار بشأنها لأول مرة في العام 2007 ويجدد سنوياً، موضوع على لائحة مجلس الأمن هذا الشهر، الذي سينظر فيما إذا سيتمّ التمديد لها للعام العاشر على التوالي، أم أنه بعد كل هذه السنوات يقتنع بوجهة نظر الخرطوم بأنه لم يعد هناك لزوم لاستمرار هذا الوجود الأممي.
قصة دارفور
في 2003 تفجر الصراع في دارفور عسكرياً، متخذا أبعادا إثنية وقبلية، ونتج عنه مقتل أكثر من 300 ألف شخص ونزوح 2.7 مليون نسمة من مناطقهم وفق أرقام الأمم المتحدة، الأمر الذي دفع بقضية دارفور لتتصدر واجهة العالم سياسياً وإعلامياً، ما أدخلها عبر بوابة مجلس الأمن الذي أصدر قرارات عدة بشأنها، أشهرها ذلك الخاص بإرسال بعثة دولية لحفظ السلام إليها، وأيضا إحالة الملف إلى محكمة الجنايات الدولية التي اعتمدت قرار اتهام بحق الرئيس عمر البشير كأول رئيس يتم اتهامه وهو لا يزال في السلطة.
قرار نشر قوات حفظ السلام الذي دخل مرحلة التطبيق في الأول من تموز/ يوليو2007 قضى بنشر أكثر من 20 ألفا من العناصر العسكرية والبوليس، الأمر الذي يجعلها أكبر قوة حفظ سلام في العالم. وحتى مطلع هذا العام، بلغ عدد القوات العسكرية 17.294 إلى جانب 174 مراقباً عسكرياً و2.934 من عناصر البوليس، إلى جانب 811 من العاملين المدنيين و2.601 من العاملين المحليين و159 من المتطوعين الأمميين. وأسهمت 37 دولة في توفير العناصر المطلوبة، ومع أن غالبيتها من أفريقيا ودول العالم الثالث، إلا أن هناك مشاركات لافتة للنظر من الصين والمانيا الى جانب بعض القوى الأقليمية مثل مصر وأثيوبيا وجنوب أفريقيا.
عملية حفظ السلام هذه التي يُفترض فيها توفير الحماية للمدنيين، تكلف في العام ما يتجاوز المليار دولار تنفق في الغالب على استحقاقات العاملين من رواتب وترتيبات إدارية ولوجستية، بدون إنفاق يذكر على تحسين البيئة التي يعيش فيها أهل دارفور. بل المفارقة أن هذه القوات التي يفترض أن تحمي السكان تحتاج هي نفسها إلى الحماية التي توفرها لها الحكومة، وحصلت حوادث عديدة خسرت فيها قوات حفظ السلام حياة بعض العاملين فيها وآلياتهم، خاصة سيارات الدفع الرباعي.
الرؤية الحكومية
الحكومة تتبنى منطقاً يقول إنها حققت درجة لا بأس بها من إعادة الاستقرار إلى معظم ولايات دارفور، خاصة بعد الضربات التي تمكنت من توجيهها إلى الحركات المتمردة وتحديداً "العدل والمساواة" العام الماضي في معركة خور دنقو، وكذلك معارك جبل مرّة هذا العام التي تلقت فيها حركة عبد الواحد محمد نور ضربات أبعدتها عن المناطق التي كانت تسيطر عليها في الجبل.
هذا الى جانب شكواها المستمرة من أن وجود هذه القوات أصبح عبئاً، لأن الحكومة مطالبة بتوفير الحماية لها، وأن المبالغ التي تصرف عليها ربما كان من الأفضل إنفاقها على تحسين الوضع في دارفور من ناحيتي الخدمات والمشروعات التنموية، لأن المشكلة هناك في جوهرها قضية فقر تنموي ومتغيرات بيئية بسبب تتالي موجات من الجفاف والتصحّر مما أثر على التوازن البيئي ودفع أصحاب المواشي الى التعدي على المزارع، مما تسبب في تأجيج احتكاكات اتخذت بعدا قبليا وأثنياً، إذ المزارعون المستقرون هم في الغالب من قبائل "الفور" الذين يغلب عليهم الطابع الإفريقي غير العربي، بينما الرعاة من أبّالة وبقّارة، هم من قبائل عربية. وهو ما أدى الى تبسيط الصراع على أساس عرقي، فيقال إنّه بين "الزَرقة" والعرب.
لكن مثل هذه القضايا لا تكسب بالمنطق وإنما من خلال التحالفات الدولية. كما أن اللجنة المشتركة بين السودان والأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي لها سقف محدد، إذ يمكنها التوصية بخروج قوات حفظ السلام هذه، لكن القرار النهائي سيكون في نيويورك، حيث المساومات التي تتطلب حلفاء لهم ثقلهم، خاصة الدول ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن وتمتلك حق الفيتو. سجّل تعامل السودان في تلك الساحة يبدو متواضعاً للغاية بدليل أنه لم يهبّ أحد لنجدته عندما تم تحويل قضية دارفور الى محكمة الجنايات الدولية، بل شهد سجل التجديد لقوات حفظ السلام في المرة الأخيرة العام الماضي إجازة القرار بأربعة عشر صوتا عبرت عن تأييدها مقابل صوت واحد امتنع عن التصويت.
تُرى هل تغير شيء فيما يتعلق بوضع دارفور مما يمكن أن يؤدي الى قرار مختلف يستجيب لرغبة الخرطوم في إخراج قوات حفظ السلام؟ الإجابة حتى الآن تبدو سلبية، خاصة إذا وضع في الاعتبار العلاقة المتوترة مع الأمم المتحدة مؤخراً، حيث رفضت الخرطوم التمديد لإقامة المسؤول الأممي الأرفع في السودان، وهو ما اعتبرته نيويورك ومعها الدول الغربية إجراء يرقى إلى درجة الطرد، وهو رابع مسؤول أممي تتم معاملته بهذه الطريقة.
وتتعلق آمال الخرطوم في القيام بنشاط ديبلوماسي مكثف مع بكين وموسكو حتى يمكن استقطابهما لصالحها وربما حتى التلويح باستخدام الفيتو. ومن ناحية أخرى، يمكن أن يساعد في تخفيف حدة المعارضة الغربية لخروج قوات حفظ السلام المتغيرات الإقليمية والدولية، ومنها تصاعد الاهتمام بمكافحة الإرهاب وقضايا الهجرة وإعادة التركيز على وضعية السودان الجيوستراتيجية كونه يحتل موقعاً مفصلياً بين العالمين العربي والإفريقي ومجاورته حدودياً لدول عدة.
تبعات أخرى
على أن للخروج تبعاته الأخرى، خاصة في الجانب الاقتصادي. فالوجود الضخم لقوات حفظ السلام هذا صحبته تغييرات كبيرة في التركيبة الاجتماعية والاقتصادية للمدن الرئيسية في إقليم دارفور، التي بدأت تعيد تكييف أوضاعها للاستجابة إلى هذه المتغيرات من خلال توفير السكن والخدمات للقادمين الجدد. وتعتبر مدينة نيالا عاصمة إقليم جنوب دارفور من النماذج الحية على عملية التغيير الجارية، إذ تضاعف عدد سكان المدينة مرات عدة لتصبح من ضمن أكبر المدن السودانية ازدحاماً بعد الخرطوم وأم درمان. وبسبب اعتبارها مركزا لحركة قوات حفظ السلام، حيث تهبط وتقلع الطائرات وتتحرك سيارات البعثة في مختلف أنحاء الإقليم، فإن العديد من خدمات الفندقية والمطاعم برزت إلى الوجود عاكسة في الوقت نفسه تركيبة القادمين الجدد. فهناك مطاعم مصرية ولبنانية وإيطالية تحمل أسماء مثل "مطعم كامب ديفيد الصغير" أو "كافيه البيتلز"، هذا إلى جانب الخدمات المرتبطة بالهاتف الجوال من صيانة وتشغيل وتوفير لقطع الغيار. وأسهم هذا الوجود الأجنبي الكبير في ارتفاع أسعار الأراضي والإيجارات بصورة خرافية، مما دفع بالكثيرين إلى تحويل حيازاتهم العقارية في وسط المدينة إلى مصدر دخل جديد، وتأجيرها للقوات الدولية لاستخدامها في أغراض السكن والإدارة، والرحيل إلى أطراف المدينة أو حتى الى المعسكرات التي أقيمت لاستيعاب النازحين، والإقامة فيها، مثل "معسكر كلمة". وهكذا يبدو ان هناك مصالح محلية لا تزال مرتبطة ببقاء هذه القوات، وهي تجد تعبيراً سياسيا لها من خلال تبنّي الحركات المتمردة الدعوة الى بقاء قوات حفظ السلام على أساس أن الوضع لم يستقر بعد، وبالتالي لم يتحقق هدف إحضار هذه القوات.
وهذا ما يعيد تركيز الضوء على الجانب السياسي الداخلي. فرغم التقدم الذي حققته القوات المسلحة في التصدي للحركات المتمردة في إقليم دارفور مؤخراً، إلا أنه ما لم تحوّل التطورات العسكرية الى مكاسب سياسية فأن الوضع مرشح للتدهور مرة أخرى. كما أنّ تشابك القضايا بين ما يجري في دارفور وفي السودان بمجمله يفرض معالجة أسباب الاحتقان السياسي والاقتصادي التي تُظلِّل مجمل الوضع، وتتطلب عملية تنازلات مقنعة تحتاج الخرطوم الى تقديمها لمعارضيها داخل وخارج السودان، من حملة السلاح وغيرهم، وإعطاء زخم للوساطة التي يقودها زعيم جنوب أفريقيا السابق ثابو أمبيكي نيابة عن الاتحاد الأفريقي، وتحظى بقبول من جانبي الحكم والمعارضة، لكنها تعاني من فجوات في الثقة والمصداقية فيما بين مختلف الأطراف.