تعرف الساحة السياسية في ليبيا حراكاً واسعاً في مسعى لكسر الجمود الذي خيم على البلاد عقب تعثر إنجاز الانتخابات الرئاسية والتشريعية في موعدها المحدد وفق خارطة الطريق المنبثقة عن ملتقى الحوار السياسي بجنيف في الرابع والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر 2021.
كان لافتاً ومتوقعاً أيضاً خروج رئيس البرلمان عقيلة صالح، ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، في مؤتمر صحافي مطلع كانون الثاني / يناير 2023 من العاصمة المصرية، القاهرة، للإعلان عن قرب التوصل لاتفاق على خارطة طريق جديدة يبدو تنفيذها صعب المنال، لاسيما في ظل يأس كل الأطراف بما في ذلك البعثة الأممية والليبيون أنفسهم من تفاهمات البرلمان ومجلس الدولة.
يسيطر "الإسلاميون" على مجلس الدولة الذي يسعى إلى استبعاد رموز نظام العقيد معمر القذافي وقائد "الجيش الوطني الليبي"، المشير خليفة حفتر، من الانتخابات الرئاسية والتشريعية، فيما يُعد البرلمان مدعوماً بشدة من حفتر، لذلك يرفض إقصاء أي طرف من الاستحقاقات الانتخابية.
كانت هذه النقطة حجر عثرة في طريق تنظيم الانتخابات العامة في العام 2021 حيث لم يتوصل البرلمان ومجلس الدولة إلى تفاهمات بشأن القاعدة الدستورية التي ستجرى على أساسها تلك الانتخابات، ما قاد إلى تأجيلها بعد معارك قضائية طاحنة بين المرشحين أبرزهم رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، وحفتر، وعقيلة صالح، وسيف الإسلام القذافي.
تراجع سريع يكشف النوايا..
فور العودة إلى ليبيا، حرص المشري على طمأنة أنصاره بتصريحات لافتة عندما قال أن نقطة ترشح مزدوجي الجنسية والعسكريين إلى الرئاسة والبرلمان لم تُحسم بعد.
فكلا الرجلين يواجه ضغوطاً دولية قوية من أجل الإسراع بتطبيق القاعدة الدستورية ما يمهد الطريق أمام الانتخابات البرلمانية والرئاسية المتعثرة منذ أكثر من سنة، وهما يدركان أن بإمكان البعثة الأممية التي لم ترسل أي إشارة إيجابية تجاه حديثهما عن قرب التوصل لتفاهم، أن تؤسس لجسم جديد يقود حواراً بشأن ذلك.
في ليبيا، حكم العائلة لم ينته بسقوط القذافي
20-07-2022
وكانت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا قد دعت في 25 كانون الأول/ ديسمبر 2022 عقيلة صالح وخالد المشري إلى عقد لقاء برعاية أممية من أجل الاتفاق على أساس دستوري لاجراء الانتخابات. لكن الأهم في البيان الذي أصدرته الدول المذكورة هو التلويح باللجوء إلى ما أسمتها بآليات بديلة حال إخفاق رئيسي المجلسين في التفاهم على قاعدة دستورية ما يعني أن عقيلة صالح وخالد المشري استشعرا خطر فقدان مجلسيهما لأدوارهما.
دعت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا في 25 كانون الأول/ ديسمبر 2022 رئيس البرلمان عقيلة صالح، ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري إلى عقد لقاء برعاية أممية من أجل الاتفاق على أساس دستوري لاجراء الانتخابات. ولوح البيان الى اللجوء إلى "آليات بديلة" حال إخفاق رئيسي المجلسين في التفاهم على قاعدة دستورية.
وملتقى الحوار السياسي نجح في ما أخفق فيه المجلسان عندما قاد حواراً برعاية أممية في مدينة جنيف السويسرية أفضى إلى تشكيل مجلس رئاسي بقيادة محمد المنفي وحكومة جديدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة.
عادت ليبيا بحكم الأمر الواقع إلى مربع الانقسام المؤسساتي بوجود حكومتين: الأولى برئاسة الدبيبة وتسيطر على طرابلس وأجزاء قليلة من غرب البلاد والثانية برئاسة فتحي باشاغا تسيطر على أجزاء واسعة من ليبيا لكنها لا تحظى بشرعية دولية وليس لها موارد مالية، حيث ليس لها أي سلطة لا على المصرف المركزي ولا على المؤسسة الوطنية للنفط المتحالفين مع حكومة الوحدة.
نحو إقصاء نجل القذافي
الضغط الدولي القوي على صالح والمشري جعلهما يفكران في التضحية بأحد الأطراف المثيرة للجدل في سياق تسوية تقود إلى الإيهام بتقدم في العملية السياسية بحيث يتم التخفيف من هذا الضغط.
استبق الفريق السياسي لحملة المرشح إلى رئاسة ليبيا، سيف الإسلام القذافي، أي تطور يصب في هذا الاتجاه بتدشين حملة واسعة رافضة لإقصائه، حيث أصدر بياناً في الثامن والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر 2022 يرفض فيه إقصاء أي طرف ويحذر من تبعات ذلك.
وأعقب ذلك خروج آخر لمحامي القذافي، خالد الزايدي، في كلمة متلفزة مطلع كانون الثاني/ يناير 2023 دافع خلاله عن قانونية ترشح موكله مشدداً على أن هناك مصادر من داخل البرلمان ومجلس الدولة أبلغتهم بوجود توجه نحو إقصاء سيف الإسلام.
وعلى الرغم من تواريه عن الأنظار منذ أكثر من عام، أي من تاريخ تقديم أوراق ترشحه إلى الانتخابات الرئاسية، إلا أن سيف الإسلام ظل حاضراً بقوة من خلال محاميه وفريقه السياسي الذي أصدر العديد من البيانات منها الداعي إلى انسحاب كافة الشخصيات الجدلية من المشهد لتعبيد الطريق أمام حل الأزمة السياسية في ليبيا.
لكن هذا الحضور يصطدم برفض قوي من الغرب لترشحه. على الرغم من أن عشر سنوات من الفوضى الأمنية والسياسية تدفع الكثير من الليبيين إلى التفكير في نجل القذافي كمنقذ، لاسيما في ظل تبعية كل الأطراف المتصارعة حالياً لقوى أجنبية.
غير أن سيف الإسلام ليس استثناء كما قد يراه البعض. فتحركه في ليبيا وتحديداً في جنوبها بكل حرية يبدو تحت حماية روسية قوية، وحتى الدبيبة عندما سُئل عن إمكانية تسليمه إلى محكمة الجنايات الدولية في حوار بثته قناة "العربية" قال "نجل القذافي ليس تحت سلطة الدولة الليبية حالياً حتى نسلّمه".
وقد عزز فشل القادة الليبيين في تحقيق انتقال ديمقراطي سلس في العقد الأخير من شعبية سيف الإسلام الذي كان نشطاً سياسياً حتى قبل سقوط أبيه في 2011 إثر انتفاضة شعبية، حيث كان له مشروع من أجل وضع دستور للبلاد قبل أن يجهضه والده.
وإلى حد الآن لا تزال مدينة بني وليد على سبيل المثال حيث معقل قبيلة ورفلة الموالية لنظام القذافي تحلم برؤية طيفه مجدداً في السلطة، حيث تتزين المدينة بالرايات الخضراء رمز النظام الجماهيري السابق شأنها شأن صور العقيد الراحل الذي أزيح عن السلطة بعد أن قضى فيها أكثر من 42 عاماً.
أما وصول القذافي أو إقصاؤه من عدمه فقد يدخل البلاد في دوامة عنف جديدة حيث يرفضه الإسلاميون فيما يتشبث أنصاره بترشحه، ولما لا برؤيته في السلطة.
فن الحرب: تفكيك أوصال ليبيا
12-02-2014
ولا يخفي معسكر "الإسلاميين" إمكانية اللجوء للسلاح في حال وصول أحد المرشحين من خصومهم إلى رئاسة ليبيا، سواء كان حفتر أو القذافي. وكان المشري واضحاً في ذلك عندما قال على حفتر مثلا "لن يتولى الرئاسة ولو على جثثنا، وصوله سيعني الحرب الأهلية". وعندما يتحدث المشري عن حفتر بهذه اللهجة فهذا يعني أنها رسالة أيضاً إلى القذافي الذي يرى فيه مجرم حرب يجب أن يخضع إلى مذكرة التوقيف الصادرة بحقه من محكمة الجنايات الدولية.
انتخابات في مهب الرياح..
بالسعي إلى إقصاء سيف الإسلام القذافي وحفتر، وهما يسعيان بدورهما لعرقلة تولّي "الإسلاميين" للسلطة تكون الانتخابات الليبية قد دخلت مرحلة جديدة من الغموض لا يمكن التكهن بمآلاتها. فالواضح أن المشري وصالح لا يريدان أن يبرحا مواقعهما على الرغم من اتساع دائرة الانتقادات الموجهة إليهما سواء داخلياً أو خارجياً.
قضى الرجلان قرابة العقد في السلطة ولا يزالان مهووسين بها. فالخطوط العريضة للوثيقة الدستورية التي توصلا إليها يمكن أن تبين ذلك، حيث تنص على أنه سيتم استحداث برلمان من غرفتين، الأولى متمثلة في مجلس نواب في بنغازي شرق البلاد، والثانية كونغرس في العاصمة طرابلس.
سيف الإسلام ليس استثناء من ناحية الارتباط بجهات أجنبية – كما سائر السياسيين. فتحركه في ليبيا وتحديداً في جنوبها بكل حرية يبدو تحت حماية روسية قوية. وحتى الدبيبة عندما سُئل عن إمكانية تسليمه إلى محكمة الجنايات الدولية قال "نجل القذافي ليس تحت سلطة الدولة الليبية حالياً حتى نسلّمه".
لا يخفي معسكر "الإسلاميين" إمكانية اللجوء للسلاح في حال وصول أحد المرشحين من خصومهم إلى رئاسة ليبيا، سواء أكان حفتر أو القذافي. وكان المشري واضحاً في ذلك عندما قال عن حفتر مثلاً "لن يتولى الرئاسة ولو على جثثنا، وصوله سيعني الحرب الأهلية". وعندما يتحدث المشري عن حفتر بهذه اللهجة فهذا يعني أنها رسالة أيضاً إلى القذافي.
يُعطي ذلك لمحة كافية عن سعي المشري وصالح إلى ربح المزيد من الوقت في السلطة عوض السعي إلى إجراء انتخابات عامة قد تقود إلى استبعادهما من المشهد السياسي أو على الأقل من السلطة بامتيازاتها التي جعلتهما في منأى عن أي مساءلة في السنوات الأخيرة.
في ليبيا، حنينٌ للعودة إلى الملكية؟!
01-11-2022
وبذلك تكون الانتخابات الليبية في مهب الريح في ظل تشابك الأجندة الدولية مع الرغبة المحلية في الإبقاء على الوضع كما هو على الرغم من المخاطر التي يمثلها ذلك على غرار الاحتكاكات العسكرية المستمرة بين الميليشيات وتعثّر إنجاز المصالحة وعودة المهجرين إلى ديارهم، والأهم انهيار أغلب القطاعات الحيوية كالصحة والتعليم..