المظاهرات التي تجوب الشوارع في مصر وتهتف بسقوط "حكم العسكر"، حدث لم يسبق له مثيل منذ سنتين. وهي تؤكد مجدداً أن "الشعب يريد". تنازل السيسي عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية صار قشة قسمت ظهر البعير، ليتهاوى حاجز الخوف وينفجر الغضب. فهل يمكن استشراف احتمالات تطور هذه الحركة؟ صحيح أن أزمة الجزيرتين هي ما أطلقها، لكن عوامل كثيرة تتضافر لتشكل مخاضها وآفاقها، على رأسها قضايا الحريات وانسداد المجال السياسي، وأيضا، وبالقطع، الأزمة الاقتصادية المتفاقمة.
أزمة النظام
شهدنا في مصر على امتداد الشهور الأخيرة حالات من التذمر والغضب وسط قطاعات اجتماعية مختلفة. مؤخراً وبوضوح، أشارت أحداث وأحاديث كثيرة إلى تخبط أجهزة الدولة ومؤسساتها، والى صراعات بينها وداخلها. وهذا، بكشفه عن ضعف النظام شجع على التحرك ضده. وتدور تكهنات الجميع، المؤيدين والمعارضين على حد سواء، حول احتمالات اندلاع موجة من الاضطرابات الاجتماعية - المنفلتة في الأغلب - بسبب الانهيار الاقتصادي والتدهور الحاد في مستويات المعيشة.
ما جرى في مصر بعد "يوليو 2013" كشف عن العفن الذي باتت عليه دولة يوليو الشمولية بعد ركود 30 عاماً من حكم مبارك. لم نعد أمام دولة موحدة بالمعنى الحديث التقليدي، وإنما في مواجهة ما يشبه دولة المماليك، حيث طغمة من أمراء الحرب يديرون أجهزة سيادية كإقطاعيات منعزلة تتصارع على مناطق النفوذ ومواقع النهب. هذا مثلا ما أظهره بجلاء استشهاد الباحث الإيطالي جوليو ريجيني، الذي تعرض لتعذيب وحشي أدى إلى مصرعه. فقد بات معروفاً، ومعلناً على ألسنة بعض الإعلاميين ذوي الحظوة، أن الصراع بين الأجهزة السيادية هو السبب في عدم الإعلان عن حقيقة ما جرى.
هناك نكتة سرت وسط الشباب بعد هزيمة الثورة: أن مبارك أشبه بغطاء "بكابورت" (البئر الممتلئ بالغائط) وكانت إطاحته بمثابة انتزاع لهذا الغطاء، ما أدى إلى انفجار ماسورة الغائط في وجه الجميع! ربما تحمل النكتة تشبيها صادماً وغير لائق، لكنه إلى درجة كبيرة ملائم لوصف الحالة. الفشل الذريع، التدهور الحاد، انعدام الكفاءة، الضحالة التي تقترب من العته، الكذب المفضوح والدعاية البلهاء.. إلخ، صارت العناوين المتسقة مع أداء الدولة وأجهزتها ورموزها.
هكذا يأتون بفني معمل، يعطونه زياً عسكرياً للواء جيش، ويضعونه أمام الكاميرات في مؤتمر صحافي عالمي، ليعلن اختراعه لجهاز يقضي على الإيدز! والصادم أن من أخرج المشهد، والمسؤول بالتالي عن الفضيحة، هو جهاز المخابرات الذي أعلن أحد رجاله (برتبة لواء أيضاً) في برنامج تلفزيوني أن هناك مجلساً سرياً لإدارة العالم يقوم بتنظيم المناخ وإدارة المؤامرات الكونية! هذا المستوى من التردي أصبح سمة كل الأداء الحكومي في مصر، التي باتت تحتل واحدا من المواقع الخمسة الأخيرة بين كل بلاد العالم، طبقا لتقارير التنمية البشرية الصادرة عن الأمم المتحدة، في مؤشرات التعليم، والصحة، والسكن، والبيئة، والشفافية، وغيرها.
لقد أحرق نظام السيسي مراكبه بأسرع مما كان يتوقع أحد. تآكلت شعبيته، وانحصرت في قطاع ضيق من المنتفعين والجمهور المذعور من شبح الثورة. بينما بات أنصاره داخل مصر وخارجها يرونه عبئاً، بسبب فشله في مواجهة الفساد وتحقيق أي انجاز اقتصادي ملموس، أو حتى وقف التدهور. بل عمقت سياساته من الفساد وتدهور الأحوال. هذا غير عجزه عن السيطرة على سيناء واتساع نطاق الحرب الأهلية داخلها، وهو أمر مزعج جدا لحلفائه الغربيين وقيادات جيشه. بالإضافة طبعا إلى ممارساته الدموية المفضوحة عالميا بدرجة لا يمكن لأحد أن يغض الطرف عنها.
البدائل؟
هذا في مجمله فتح الباب طوال الأسابيع الأخيرة للحديث عن البدائل، وهو سؤال دائم الإلحاح في مصر، عادة ما يرفعه أنصار النظام منذ عهد مبارك، لتعجيز الطامحين في التغيير بوضعهم أمام معضلته. وهم يتجاهلون حقيقة أن غياب البدائل هو نتيجة سطوة النظام الاستبدادية وإغلاقه للمجال العام، أي أن هذا الغياب هو سبب للنقمة عليه. لكن على جانب آخر يبقى السؤال مركزيا أمام قوى الثورة، بمختلف أجنحتها، حيث لا توجد فرصة لانتصار الثورة من دون تقديم إجابة عملية وملموسة عليه.
لقد أطاحت سنوات الثورة والثورة المضادة القوتين الفاعلتين ذات الوزن داخل الساحة السياسية في عصر مبارك: الحزب الوطني، والإخوان المسلمين. انهار وتفكك مع الثورة الحزب الوطني، حزب الدولة المجسد لشبكة البيروقراطية ورجال الأعمال ورؤوس العائلات الريفية، ولم يعد قابلاً للاستعادة تحت أي مسمى، بعد تحول الدولة إلى إقطاعيات متناحرة، وهو ما ظهر بجلاء في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. أما الإخوان فأصيبوا بضربات قاصمة: قمع الثورة المضادة من ناحية، والعداء الجماهيري المستحَق من ناحية أخرى، وصراعهم الداخلي المحتدم من ناحية ثالثة، ولم يعودوا يشكلون بديلا اليوم بأي معنى. وإلى جانب فلول الوطني والإخوان يوجد السلفيون. بعضهم مجرد مجموعات مباحثية مرتبطة بالنظام وتدار من مكاتب الأمن. والبعض الآخر، جهاديون انخرطوا في تحالف الإخوان، وتعرضوا لضربات قاصمة.
أما حركة التغيير التي لعبت الدور المركزي في كل النضالات طوال العقد الأول للألفية الثالثة وصولاً إلى الثورة، فلم تسْلم هي الأخرى من عواصفها. حاولت أطرافها استقطاب جموع الشباب، إلا أنها لم تحقق سوى نجاحات محدودة، وظل الشباب بالملايين غير منتمين وغير منظمين، على الرغم من الزخم السياسي الكبير الذي انخرطوا فيه. وهكذا، فشلت الحركة، وهي محورية، في توليد أحزاب جماهيرية. بينما تسببت منعطفات الثورة في انقسام كبير داخلها ما بين جناحين، من الصعب أن يلتقيا ثانية تحت راية واحدة، وإن كانا بالطبع مستمران في النضال المشترك حول بعض القضايا، كمعركة الجزيرتين.
الجناح الأول وسطي، يضم الناصريين والقوى الليبرالية واليسار التقليدي القديم. وهو جناح تواطأ مع الثورة المضادة، وغض الطرف عن المذابح والقمع حتى يتخلص من الإخوان. ويحاول اليوم استعادة دوره النضالي في مواجهة النظام وطرح نفسه كبديل، إلا أنه فقد الكثير من بريقه وشعبيته. الجناح الثاني ديموقراطي جذري، يضم تيارات اليسار الثوري، والمجموعات الشبابية، والفوضويين، والكتل الراديكالية المنشقة عن الأحزاب الوسطية. هذا الجناح حافظ على استقامة مواقفه ضد الثورة المضادة والحكم العسكري، وأيضا ضد الإخوان. ويعيبه حلقية أطرافه، التي فشلت حتى اليوم في التجمع حول راية واحدة يمكن أن تطرح نفسها كبديل.
لكن حديث البدائل لا يمكنه الاقتصار على القوى المنظمة. فنحن لسنا في 2005 أو 2010. لقد حدثت ثورة كبيرة استمرت عواصفها لسنتين متواصلتين، وشارك فيها ملايين الشباب الذين تسيسوا بلا شك، وإن لم ينتموا تنظيميا. ورغم انسداد المجال العام واستبداد النظام، إلا أن براكين مشتعلة تعتمل تحت القشرة الصلبة، تلقي بحممها بين حين وآخر إلى السطح. ليس فقط فيما يتعلق بقضايا السياسة وصراعاتها، وإنما بصدد كل المحظورات: الدين، الحريات الشخصية، الإبداع الحر، العلاقات الجنسية، اضطهاد النساء، الخ. والمؤكّد أن ضمن أولئك الملايين هناك بضع مئات الآلاف من الشباب، ما زالوا منحازين للثورة وضد العسكر والإخوان. وتظهر مؤشرات على وجودهم بين حين وآخر في أحداث ومعارك وحملات متنوعة. لديهم ميل عفوي لطرح مسألة السلطة، وأفكار غضّة حول إعاده هيكلة دولة الاستبداد وبناء جمهورية ديموقراطية. يمثل هؤلاء البديل الأهم، وإن كانوا ما زلوا في حاجة إلى راية يلتفون حولها.
حديث البدائل الذي انفتح في مصر مؤخراً، هو ما أعطى وزناً خاصا للحركة الشعبية الوليدة ضد بيع الجزيرتين. فخبرة ثورة يناير المحفورة في أذهان الطبقة الحاكمة وقوى الثورة على حد سواء، أن سؤال ما البديل يمكن أن ينهار فجأة من دون مقدمات. عندما يقرر النّاس في لحظة عاصفة أن استمرار النظام أكثر كُلفة من مغامرة إطاحته في غياب بديل، وأن البديل يمكن أن يتشكل في خضم المعركة. هذه الفكرة لم تعد نظرية ننقلها من كتب التاريخ، وإنما هي اليوم خبرة حية في أدمغة ملايين المصريين.