صمت الشيخ طويلاً، فتكلم، فرأيناه، فأحرج شباب الجماعة الذين لهم قشرة حداثية وطلائعية. إليكم معجم الرجل الأول في جماعة العدل والإحسان: انتقد المُلك الجبري القائم في المغرب واقترح بديله وهو إقامة خلافة إسلامية في ثلاثة أيام. ونفى أن تكون استعادة الخلافة خرافة. الخلافة واجب شرعي. الكل يتمنى عودة الخلافة على منهاج النبوة. من دون خلافة سنبقى بلا سقف. قريباً سنرى راية الإسلام خفّاقة على العالم. لا يحل للمسلمين أن يبيتوا ثلاثة أيام من دون حكومة إسلامية. الخلافة مسألة حياة أو موت. الخلافة أم المقاصد. إنها الفريضة الكبرى... لمّا طُعن عمر أوصى بإقامة الخلافة في ثلاثة أيام ومن اعترض يُضرب عنقه.
ولا يجوز أن يُعقد لخليفتين. وإن وُجد فلا بد من قتل أحدهما. واستدل الشيخ بكتاب "الصواعق المحرقة" في الرد على أهل الضلال في دعوتهم لقتال الطائفة الباغية وخاصة النجدات. وقد نهى عن التشبه بأهل الجحيم من اليهود والمسيحيين (يقصد أن الجنة مخصصة للمسلمين).
خطبة لو ألقيت في ألف هجرية لما لاحظ أحد الفرق الزمني. ولا كلمة واحدة فيها عن المغرب 2016. وبما أن اللغة حمّالة وعي والمرء مخبوء تحت لسانه، فقد كشف الشيخ محمد العبادي مدى انقطاع صلته باللحظة التاريخية.
كان ذلك علامة أخرى عن أزمة الإسلام السياسي الذي يفترس نفسه في المغرب وغزة وحلب والرمادي وبروكسل. وفي ردود فعل المغاربة، كثرت المقارنات بين خطاب داعش وخطاب الشيخ.
وعلى مواقع التواصل الاجتماعي قال المؤيدون:
بارك الله في سيدي العلاّمة المربي الأستاذ العبادي. كلام جميل وبلسم يطيّب القلوب، والخلافة موعود رسول الله وبشارته. شيء عادي جداً أن ينتقدك الحثالة من العلمانيين الكفار، إنهم أعداء يتحينون "الفرص" ليهاجموا كل ما يمت للإسلام بصلة.. الحمد لله، الفاروق تخافه الشياطين حياً وميتاً. والخلافة إسلامية قائمة في الشام وشمال أفريقيا وستدخل المغرب لطرد اليهود والمرتدين.. (يظن المعلِّق أن شيخ الجماعة يعني خلافة داعش، بينما هو يريد تأسيس خلافة ثانية تقضي على داعش وعلى كل الدول).
كتب معارضو الشيخ:
جماعة الخرافة والتحنيط، من يريد الخلافة فليتجه لدولة داعش الإجرامية. تكفير المخالِف منهج الجهلاء والدواعش. نشر الجهل والفوضى.. روح يا شيخ إلى داعش وأعلن خلافتك مثلما يحلو لك. لو حصل هؤلاء على الحكم لتجاوزوا داعش.. يجب اعتقال الشيخ. يبدو أنه ينتظر قومة أخرى كما في 2006.
العدل والإحسان مثل من يريد بيع الماء للسقاء. سي الفقيه.. البشرية تحررت منذ زمن. هل تعيش خارج التاريخ؟ أكثرت من الكتب الصفراء.. غيّر النظارات يا شيخ. أيها الكاهن: حتى المبشَّرون بالجنة نتفوا ريش بعضهم بعضاً.
العدل و اﻹحسان لا تعرف الديموقراطية. كتب الشاعر صلاح الوديع غاضباً ساخراً "ترفض الخلافة على منهج النبوة؟ يُقطع رأسك بلا رحمة. انتهى الكلام". كتب معلق ساخر "الفرق بين داعش والعدل والإحسان هو أن هذه ستعقّم السيف قبل قطع رأسك".
يعتبر الشيخ الخلافة هي سقف الإسلام السياسي ولا يرى ما حققه تنظيم صار دولة (داعش). الشيخ منقطعٌ عن الواقع ينظر في النصوص ولا ينظر لما يجري حوله. يتحدث بأسلوب يفتقر للكاريزما، يؤمن أن الدويلات مذمومة شرعاً، وهذا حقه. ثم يقفز ويتحدث بيقين عن تجاوز الدولة القومية. يريد تصدير الخلافة ليصير العالم كله ولايات تابعة للخليفة الأوحد. لا يرى الحدود ولا يرى الجبال والبحار التي تفصل الدار البيضاء وجاكارتا، يرى المساحة منبسطة ليطأها كاملة... السؤال الاستنكاري هو: هل يتوقع شيخ جماعة العدل والإحسان أن يتنازل له الحكام الحاليون بين كازابلانكا وجاكارتا عن مقاعدهم طوعاً ليصير الخليفة الأوحد؟ بل يجب أن يتنازل له بوتين وأوباما وزعيم كوريا الجنوبية وزعيم زيمبابوي؟
أقترح عليه أن يحل مشكلته مع الخليفة البغدادي أولاً ثم نرى. وقد يتمكن البغدادي من دق عنق الخليفة الجديد.
لو توبع الشيخ بتهمة الإرهاب للَبس ثوب الضحية، لكن السلطة تجاهلته لنراه. في الوقت نفسه تعدّل الدولة مناهج التعليم لمكافحة التطرف المنتشر بين الشباب المغاربة، بدليل ورود اسمهم في كل عملية إرهابية بأوروبا. وقد نشرت جريدة مغربية خبراً يقول إن بلجيكا سترسل أطباء نفسيين لشمال المغرب لفهم شباب المنطقة الذين يعشقون الجهاد في بروكسيل.
كيف تؤسس خلافة عالمية في ثلاثة أيام؟ ما سيناريو تحقُق هذا الخطاب؟ يستحسن أن يكون فيه خيال ديني يقدم عبر رسوم متحركة ليجري ما يتمناه الشيخ.
دخلنا مرحلة العبث. قف.
وفي انتظار الأمنية، لنر السياق الذي نزل فيه خطاب الشيخ.
بينما ينهي حزب العدالة والتنمية ولايته الحكومية ويستعد للثانية، تجد جماعة العدل والإحسان نفسها في وضع حرج. لقد تحركت الجماعة بحذر في صفوف "حركة عشرين فبراير 2011". وكانت الحركة تطالب بإسقاط النظام والفساد وإقامة ملكية برلمانية. وقد كتب موقع حركة فبراير يدافع عن الجماعة في وجه خصومها. ومع تطور الصراع وتمكّن السلطة في المغرب من طرح دستور جديد ووصول حزب العدالة والتنمية لرئاسة الحكومة، تبدد الزخم حول الحركة. وقد كانت الجماعة هي القوة الضاربة في الاحتجاج، لبلاغة نشطائها وكثرتهم في مهاجمة النظام. وكانت الجماعة في نقدها للفساد والاستبداد قريبة من مواقف اليسار الجذري المغربي الذي يريد تحويل المغرب إلى جمهورية.
كانت الجماعة تهاجم، وهذا وضع مريح. حديث الشيخ كشف ما تدافع عنه، وهو الخلافة على منهج النبوة التي تأخرت كثيراً مع أنه كان ينبغي ألا يزيد التأخر عن ثلاثة أيام. هذا الموقف له تبعات:
- أولاً، سيباعد حلم الخلافة بين الجماعة وحلم جمهورية اليسار الجذري الذي صار يعتبر "النظام المخزني" أرحم من الإسلاميين.
- ثانياً، سيمكّن النظام من تصنيف الجماعة. عادة يوصف انتقاد الجماعة بأنه تملق للسلطة. لكن مع خطاب الشيخ، سيصير التسامح مع مواقف الجماعة مستحيلاً من طرف من يبحث عن توظيفها لصالحه ضد السلطة.
- ثالثاً، تطرح الخلافة الكونية تحديات على شبيبة الجماعة الذين بلغوا سن الأربعين. على هؤلاء الشباب التبرؤ من هذا الخطاب أو تحمل وزره والانقطاع عن الواقع. كانت نادية ياسين صلة وصل بين الجماعة واللحظة. منذ مات الزعيم والدها وحاميها اختفت من المشهد دفعة واحدة. فرجال الجماعة لا يريدون امرأة في الواجهة.
طيب، ما خيارات شباب الجماعة الذكور الذين أزال الشيخ العبادي قشرتهم الحداثية؟
مِن هؤلاء، رئيس الدائرة السياسية للجماعة الذي يعتبر النظام السياسي المغربي مستبداً ويستخدم ديموقراطية الواجهة. وكأن خلافة دق الأعناق غاية في الديموقراطية. يبدو أن هناك أزمة معجم لدى الجماعة. ومنهم الكاتب العام للقطاع الشبابي لجماعة العدل والإحسان الذي يعتبر نفسه طليعياً.
ما معنى الطليعة؟ إبحثوا من فضلكم.
من خلال ردود فعل شباب الجماعة، نجد فريقاً يوضح ويزعم أن الشيخ معجم، الشيخ لم يفهم صح. وهو لا يقصد ما قال في خطبته بالعربية الفصحى. قد أصدر الشيخ توضيحاً منذ أيام، في 14 الشهر الجاري، يتهم المغرضين الذين قادوا حملة مسعورة على الجماعة. (لهذا صلة بالمعجم السابق: مسعورة من السعار وهو مرض كلبي). وفي اليوم التالي نشر موقع الجماعة تصريح الشيخ "الخلافة لا تأتي من فوق ولا تتحقق بالعنف"، ولا بد من أجيال لتحقيق ذلك. أي موعدنا بعد قرن لا بعد ثلاثة أيام.
وفريق آخر يلجأ للصمت عن التناقضات التي تشل الجماعة. الصمت وتجميد العضوية لعدم الجرأة على إعلان الانسحاب. فالانسحاب أو الانشقاق سيضعف جماعة العدل والإحسان، وهذا أمر يفتح الباب لشماتة الخصوم، خاصة الإخواني عبد الإله بنكيران رئيس الوزراء الذي يقدم نصائح علنية للجماعة. والنصيحة العلنية شتيمة كما يقال.
في العمق لن يحصل انشقاق لأن الشباب متفقون على ضرورة خلافة واحدة تخفق رايتها على العالم أجمع. وللرد على الحملة "المسعورة" تنظم الجماعة حوار الشهر مع الكاتب العام للقطاع الشبابي لجماعة العدل والإحسان حول "الشباب وأدواره الطلائعية في التغيير". جلّ شباب الجماعة طيب مؤدب ومسالم، وقد مكنتهم هذه الصفات من تحسين وضعهم الاقتصادي، وصاروا ناعمين، وهم لا يملكون شراسة شباب داعش. لكنهم شباب يظنون أنفسهم طلائعيين. حسب إريك هابسباوم في كتابه "عصر الإمبراطورية"، فالطليعية فن جديد يعبّر عن عدم الرضى عن الماضي. يبدو أن المعنى المعجمي للطليعية مناقض لما عند جماعة العدل والإحسان!