في ظهيرة أحد الأيام الصيفية الحارة (صيف 2021) وصل الخبر المرتقب إلى القرية* الواقعة في مركز نجع حمادي بمحافظة قنا جنوب مصر: العثور على جثة امرأة غارقة في نهر النيل بالقرية، أو "البحر" بالتعبير المحلي. لم يكن الخبر مفاجئاً، فالمصير معروف للجميع هنا في مثل هذه الحالات. كانت المرأة التي ظلت ألسنة الناس بالقرية تلوك سيرتها طوال الفترة التي سبقت مصرعها، في العشرين من عمرها، وقد قتلها شقيقها "لشكه في سلوكها" كما ذكرت الأخبار المنشورة عن الحادثة. وقد ألقي القبض عليه، وما لبث أن أفرج عنه بعد أسابيع (1)، ليعود للقرية ويستأنف أنشطته الاجتماعية المعتادة، التي كان قد توارى عنها، ويستقبله الجميع بالقبول والتقدير باعتباره "رجلاً"، غسل عاره واسترد شرفه، وتحوّل رأسه من الطأطأة إلى الارتفاع.
في توقيت مقارب من العام الأسبق (2020) كانت القرية نفسها على موعد مع جريمة مماثلة، وإن كانت الضحية هذه المرة من القبيلة الأخرى، حيث ينقسم سكان القرية بشكل أساسي إلى قبيلتين هما العرب والهوارة: العثور على جثة شابة في الثالثة والعشرين من عمرها مبلّغ بغيابها منذ يومين ملفوفة في بطانية وملقاة على شاطيء النيل بالقرية، وكان شقيقها كذلك وراء الجريمة.
تاريخ شفهي
إذا تتبعنا تاريخ مثل هذه الجرائم في هذه القرية وحدها، يمكن أن نستمع للعديد من القصص المشابهة لا سيما من أفواه النساء المسنّات، بينها قصة معروفة وقعت قبل نحو خمسين عاما، ضحيتها ثلاث نساء: امرأة وابنتها المراهقة وشقيقتها، كن قد ذهبن مع أخ لهما إلى قرية مجاورة، وكان الأخ يمتهن الغناء في الأفراح بمشاركة رفاق له بالطبلة والمزمار، وانتشر الخبر في قريتهن: "قالوا رقصوا وكانوا عما يشربوا سجاير ويتكلّموا مع رجالة"، تقول السيدة السبعينية. كان ذلك كافياً بالنسبة لرجال العائلة كي يقرروا التخلص منهن. في بعض الحالات لم تكن الجثة تظهر إذ يتم إثقالها بالحجارة فتغوص إلى عمق النهر وتختفي..
لماذا النيل؟
تباينت إجابات الأهالي ما بين كونه وسيلة للإخفاء أو للإعلان للناس. يقول موظف أربعيني إن الهدف ألا تظهر الجثة، أو تظهر في مكان بعيد ولا يتم التعرف على هويتها، أو أن تعتبر الجريمة غرقاً طبيعياً. بينما يقول شاب عشريني من القرية نفسها إن هناك طرقاً مختلفة للتخلص من المرأة في هذه الحالات وإن كان "النيل أكتر حاجة عشان لما تطلع الجثة الناس بتعرف.. سمعوا بالفضيحة فلازم يسمعوا إنها ماتت". ويضيف الشاب أنها تكون قد قُتِلت بالفعل قبل إلقائها، وأنه يتم اختيار مكان الإلقاء من الزراعات المطلة على النيل وليس المساكن "الزراعات أكتر من المساكن ع النيل هنا.. تبقى الدنيا متدارية"، وأن ذلك لا بد أن يتم ليلاً. وقال إن القاتل يكون معروفا لديهم ويفخر بذلك أمام أهل قريته، أمّا أمام المركز أو النيابة فينكر تجنباً للعقوبة. بينما ذكر آخرون أن القتل يكون أيضا بالإغراق.
على مستوى أعم
يمكن تتبع العديد من الأخبار عن جرائم قتل النساء في قرى ومراكز ومحافظات أخرى، نسبة كبيرة منها في الصعيد:
العثور على جثة امرأة مجهولة الهوية طافية بنهر النيل بكامل ملابسها خلف محكمة أسيوط، متغيبة عن منزلها منذ عشرين يوماً دون أن يكون هناك بلاغ بتغيبها أو اختفائها، وتبين أنها في الثلاثين من عمرها وأن وراء قتلها أشقاءها الثلاثة لشكهم في سلوكها حيث قاموا بوضع السم لها ثم ألقوا جثتها من أعلى كوبري الواسطي بأسيوط حسب أقوالهم بعد ضبطهم (البوابة نيوز، تشرين الأول/ أكتوبر 2021)
العثور على جثة فتاة فى العقد الثاني من عمرها على ضفة النيل بجزيرة المعابدة بمنفلوط/أسيوط، مصابة برش خرطوش، وتوصلت الشرطة إلى أن وراء الجريمة والد المجني عليها وعمها وابن عمها بسبب سوء سلوكها حسب أقوالهم بعد ضبطهم، حيث قاموا باصطحابها عنوة تحت تهديد السلاح إلى هذا المكان وقاموا بإطلاق عيار ناري صوبها مما أحدث إصابة أودت بحياتها وقاموا بإلقائها بالنيل "انتقاماً لشرفهم" (الأهرام، آذار/ مارس 2016).
العثور على جثة فتاة ملقاة داخل "جوال" (كيس كبير من الخيش) بنهر النيل، بمركز نقادة بقنا بالقرب من جزيرة الزوايدة، وبها آثار خنق بالرقبة وغير واضحة المعالم، وتبين أن قاتلها هو ابن عمها، مزارع 28 سنة، لوجود شائعات حولها فقرر التخلص منها لإنهاء معايرة الناس له على حد قوله، حيث أعد خطة لإستدراجها إلى الدور الثاني من منزلها، وقام بخنقها بـ"إيشارب" ثم وضع الجثة في جوال كبير وأحضر أمام المنزل الآله المستخدمة في نقل مواد البناء ووضع بها الجوال وسار لأكثر من كيلومتر وسط الزراعات حتى وصل إلى الجزيرة، وكان قد أعد مركباً صغيراً، ووضع الجثة بداخله وسار مسافة قريبة بالمياه، ملقياً الجثة واضعاً بداخل الجوال حجراً كبيراً كي لا تطفو على سطح المياه، إلا أنه بعد أيام عثر الأهالي على الجثة، وكانت غير واضحة المعالم بعد أن قامت الأسماك بالتهامها، وقررت النيابة حبسه على ذمة التحقيقات (صوت الأمة، كانون الأول/ديسمبر 2017).
ثلاثة أشقاء عمال زراعيون في العشرينيات من العمر ينهون حياة شقيقتهم 18 عاماً بمركز أطسا بالفيوم بسبب الشك في سلوكها وخروجها المتكرر من المنزل أثناء ذهابهم للعمل بالحقول، حيث غافلوها بعد دخولها حمام المنزل وقام شقيقها الأكبر بتوثيقها من قدميها ويديها بالحبال وإلقاء مياه على رأسها وقام الشقيقان التوأم بوضع سلك كهرباء بين أصابع قدميها ثم توصيل التيار الكهربائي ما اسفر عن وفاتها صعقاً بالكهرباء، بينما أشاعت الأم وفاة ابنتها أثناء استخدامها غسالة المنزل. إلا أن مناظرة طبيب الصحة بيّنت وجود شبهة جنائية (المصري اليوم، آب/ أغسطس 2022).
بالإضافة إلى العديد من الأخبار حول العثور على جثث نساء في النيل أو جثة امرأة مذبوحة أو مطعونة داخل منزلها أو توفيت جراء حريق شبّ فيه أو سقطت من أعلى.. وهذه لا يمكن الجزم بكونها "جرائم شرف" ما لم تتضمن إشارات صريحة، إلا إنها تظل مثيرة للتساؤل.
جرائم قتل النساء المرتبطة بالنوع
تنضوي جرائم "الشرف" ضمن طائفة أوسع من الجرائم تُعرف بـ "جرام قتل النساء المرتبطة بالنوع"، وتعد أكثر مظاهر العنف ضد المرأة تطرفاً ووحشية، وهي تطال كل المناطق والبلدان على مستوى العالم، وفقا للأمم المتحدة. وقد تضمنت وثيقة صادرة مؤخراً (آذار/مارس 2022) من إعداد "مكتب الأمم المتحدة المعني بالجريمة والمخدرات" و"هيئة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة"، بعنوان "إطار إحصائي لقياس قتل النساء المرتبط بالنوع" (2)- يُطلق عليه بالإنجليزية Femicide أو Feminicide- أربعة معايير لتحديده: قتل المرأة بواسطة شخص آخر (معيار موضوعي)، نية الجاني في قتل الضحية (معيار شخصي)، عدم شرعية القتل (معيار قانوني) - وهي معايير القتل العمد الذي تعد هذه الجرائم مجموعة فرعية منه - ثم معيار رابع يتمثل في الدافع الجنساني للقتل. وهو يشير إلى مجموعة عوامل تمثل أسباباً جذرية كامنة وراء الجريمة وتميّز السياق الذي تقع فيه، مثل أيديولوجية استحقاق الرجل وامتيازه على المرأة، الحاجة لتأكيد سيطرة الذكور أو سلطتهم، منع أو تثبيط أو معاقبة ما يُعتبر سلوكاً غير مقبول من جانب المرأة حيث يُنظر له على أنه غير متماش مع الأعراف الاجتماعية أو يخالف الأدوار النمطية للجنسين..
في مصر صعوبة كبيرة في الوصول إلى إحصائيات الجرائم بوجه عام. وإذا كانت وزارة الداخلية تصدر تقريراً سنوياً يتضمن بيانات تفصيلية على مستوى كل محافظة عن مختلف أنواع الجرائم بما في ذلك جرائم القتل والشروع فيه وجرائم العنف الأسري، فإن الاطلاع على التقرير ومنذ نهاية التسعينيات الفائتة صار مقصوراً على القيادات الأمنية، ومُنِع من التداول العام للصحافة والباحثين والجمهور.
تفرقة القانون في جريمة الزنا بين الزوج والزوجة تعكس مفهوم العقل الجمعي للمجتمع للشرف المرتبط بالمرأة والتي يجب عليها الحفاظ عليه. والرجل هو المخول بالانتقام له. فإذا ضبط الزوج زوجته متلبسة بزنا وقتلها ومن معها تُخفف عقوبته ويمكن أن تقتصر على الحبس سنة مع إيقاف التنفيذ. لكن يمكن أن تصل عقوبة المرأة القاتلة للإعدام، حيث تطبّق عليها عقوبة القتل العمد.
ووفقاً للوثيقة، فإن هذه النوعية من الجرائم يمكن أن تحدث في مدى واسع من الحالات في المجالين العام والخاص، وباختلاف طبيعة العلاقة بين الجاني والضحية، وأن الأدلة وافرة على أن غالبيتها قد ارتكبها شركاء حميميون حاليون أو سابقون، أو افراد الأسرة الآخرون كالآباء والإخوة والأعمام، كما في جرائم "الشرف" والقتل بسبب المهر (3). كما يمكن أن تحدث في حالات تكون فيها علاقة القوة بين الضحية والجاني غير متكافئة حيث يكون الأخير في موقع سلطة أو رعاية بالنسبة للضحية (طبيبها، معلمها، ضابط شرطة أو موظف عمومي أو رجل دين له علاقة مباشرة معها)..
وقد شهدت مصر ودول عربية عدة جرائم قتل مروّعة ضد نساء في الفترة الأخيرة، وكانت ردود الفعل عليها واسعة ومتباينة، فضحت ثقافة التمييز الراسخة لدى قطاعات من الرأي العام ضد النساء، إلى درجة وصم الضحية والتعاطف مع القاتل.
إحصاء الجريمة
وفقاً للوثيقة الأممية، فإن جرائم قتل النساء المرتبطة بالنوع، وبخلاف الأشكال الأخرى للعنف ضد المرأة، لا يوجد حتى الآن نهج إحصائي موحد عالمي أو إقليمي لحصرها، والإحصائيات حولها نادرة وغير قابلة للمقارنة على مستوى دولي بسبب اختلاف التعريفات والتطبيقات القانونية بين الدول اختلافاً كبيراً، وهو ما عملت الوثيقة على مواجهته.
رأسي أسفل الأريكة".. ندبة اعتداء جنسي
01-09-2020
إحصاء جرائم قتل النساء بدافع جنساني يواجه إشكاليات على مستوى دولي، وفي حالة مصر تحديداً توجد صعوبة كبيرة في الوصول أصلاً إلى إحصائيات الجرائم بوجه عام. وإذا كانت إدارة المتابعة والإحصاء الجنائي بقطاع الأمن العام بوزارة الداخلية تصدر تقريراً سنوياً ضخماُ يتضمن بيانات تفصيلية عن مختلف أنواع الجرائم من جنايات وجنح بما في ذلك جرائم القتل والشروع فيه وجرائم العنف الأسري، وذلك على مستوى كل محافظة، فإن الاطلاع على هذا التقرير ومنذ نهاية التسعينيات صار مقصوراً على القيادات الأمنية ومُنِع من التداول العام للصحافة والباحثين والجمهور (4)، ومن ثم تصبح إجابات أسئلة مثل عدد جرائم الشرف التي تقع كل عام، أو خريطة توزيعها، أو عدد حالات العثور على جثث لنساء في النيل.. عسيرة المنال، مما يجعل النقاش العام حول الجريمة وتحليلها على غير أساس معلوماتي راسخ، ويضاد حق المجتمع في المعرفة.
وعلى الصعيد العالمي، تشير البيانات المنشورة في تشرين الثاني / نوفمبر 2021 من قِبَل مكتب الأمم المتحدة المعني بالجريمة والمخدرات، إلى أن 81 ألف امرأة وفتاة قُتِلن خلال عام 2020، حوالي 47 ألف منهن (أي بنسبة 58 في المئة) توفين على يد شريك حميم أو أحد أفراد الأسرة، وهو ما يعادل مقتل امرأة أو فتاة كل 11 دقيقة في نطاق الأسرة أو الفضاء الخاص، وذلك اعتماداً على بيانات من 95 دولة حول جرائم قتل النساء والفتيات المرتبطة بالنوع على يد شركاء حميميين أو أعضاء من العائلة: وكان أكبر عدد من الضحايا في آسيا (18600 ضحية بنسبة تقترب من 40 في المئة)، ولكن أفريقيا كان لديها أعلى معدل بالنسبة لعدد السكان من الإناث (2.7 لكل 100 ألف امرأة)، بينما سجلت أوروبا المعدل الأدنى (0.7 لكل 100 ألف امرأة) (5).
رد فعل مجتمع القرية
ما إن يتسرّب خبر يتعلق بسلوك امرأة حتى تتناقله الألسن وينتشر بسرعة على نطاق واسع، خاصة مع طبيعة المجتمع القروي الذي يعرف فيه الجميع بعضهم بعضاً وتنعدم الخصوصية وتمتد العلاقات بين العائلات والقبائل عبر القرى. تقول مدرّسة أربعينية "بيتكلموا ويزوّدوا.. ده ينقل لده وده ينقل لده وكل واحد برواية مختلفة". وفي كل قصة كنت أحاول التقصي حولها (من 4 جرائم وقعت في ثلاث قرى على مدار السنوات الماضية وراح ضحيتها 5 نساء بينهن امرأة وابنتها الشابة ) (6) كنت أحصل على روايات مختلفة في تفاصيلها إلى حد بعيد. "تلقي الناس أكدوا الموضوع كأنهم شافوه.. مش عايزين يصدقوا إلا الحاجة دي (وقوع المرأة في الزنا).. أي واحدة تخش بيتنا تلقيها حكت" تقول فتاة ثلاثينية. ويمكن أن يطال الكلام أدق الخصوصيات، ويشمل الأسرة بأكملها. ولا يقتصر الأمر بالطبع على النساء، بل يمكن أن يكون الرجال هم المصدر الأول للخبر.
الاتجاه العام في القرية مؤيد وبشدة لقتل هؤلاء النسوة، بل إن ضغوط الناس هي التي تدفع بقوة لتنفيذ الجريمة "لولا المعايرة ماكانتش واحدة ماتت" تقول شابة عشرينية. "ده أسهل حاجة هو القتل حدانا في البلد.. قطع الرقبة أحسن حاجة لأبوها وليها وللكل" تقول سيدة سبعينية. وتضيف أخرى خمسينية "موضوع الشرف حدانا مفيش غير كده خصوصاً لو واحدة متجوزة (7).. أنا كواحدة ست مش المفروض يتعمل أقل من كده.. ما تكتبيش عنها.. مهما اتكلمتوا فيه مش هايتغير.. ولو سنة 3000" .. "طالما هي عايشة الحكاية عايشة".. "اتقتلت كله بيرتاح".. بينما يؤكد أحدهم أن قتلها من شأنه إنقاذ الكثير من الأرواح حال وقوع معايرة بين الرجال والعائلات. وذكر آخرون أنه ضروري لتحقيق "الردع" للنساء الآخريات وإلا "دي تعمل ودي تعمل ودي تعمل تبقى مهزلة".. بينما قالت طالبة جامعية بصوت رقيق إنه بالتأكيد هناك حل آخر وإن كانت لا تعرفه، "أكيد في القرآن فيه حل.. بس هنا بيقتلوا على طول". وأبدى البعض اقتناعهم بأن قتل النسوة المخطئات لا يتناقض مع التشريعات الدينية (8)، أو أن أهلهن أولى بتنفيذ العقوبة "الحكومة هاتكون أكتر منه في أخته أو بتّه؟!"، وقال شاب ثلاثيني من دائرة أصدقاء أحد المتهمين بقتل شقيقته: أنا ماليش دعوة بالدين أنا لي دعوة بالعادات والتقاليد".
كان وقع الخبر على الشابّات خصوصاً أشد وطأة، وقد عبَّرن عن شعورهن بالرعب والصدمة، ومعاناتهن من الأرق والبكاء وفقدان الشعور بالأمان.. وبعضهن تحدثن عن تضييق آبائهن عليهن في الخروج في أعقاب هذه الحوادث. كما خشيت فتيات من عائلة المرأة الضحية أن يؤثر ذلك على فرصهن في الزواج. وقالت امرأة من قبيلتها نفسها إنها كانت تشعر - قبل مقتلها - بالوصم كلما خرجت للشارع. بينما أكد الشاب آلعشريني أن القتل سوف يستمر "طول ما فيه بنات مش ملتزمة".
وقال مزارع أربعيني إن مجتمعه غير متسامح مع خطيئة المرأة "حتى لو تابت وربنا أنزل عليها قرآن تاني من السما، برضه لازم القتل".
وبينما أكد كثيرون أنه لا بد من التأكد وتوفر أدلة قبل قتل أي امرأة "لازم يكون فيه دليل قاطع ولازم يكون الناس كلها عرفت ولازم تكون اتأكدت، وهي نفسها تكون حامل"، وأنه فقط إذا وصل الأمر للعلاقة الجسدية فـ"العلاج معروف" خاصة إذا تخلى عنها الرجل ورفض الزواج منها، قال آخرون إن هناك ضحايا يُقتلن لمجرد إتيانهن سلوكاً غير مقبول من قِبَل الأهل.
ضد مجهول
يقول صدّيق عبد الساتر المحامي بالنقض بنجع حمادي إن نسبة من هذه الجرائم تقيّد ضد مجهول، وذلك في حالات عدم التعرف على الجثة لضياع معالمها نتيجة طول مدة بقائها في المياه، ومن ثم لا تكون هناك بصمات لأخذها أو ملامح للوجه. ويزداد الأمر صعوبة إذا كانت المياه قد جرفت الجثة لعشرات الكيلومترات، خاصة مع نقص أو غياب الإمكانيات الفنية الحديثة التي تسهّل التحرّي الشرطي، وعدم وجود قاعدة بيانات DNA لكل المواطنين. وقد لا يكون هناك بلاغ باختفائها من الأصل، وقد لا يكون للشخص بيانات مسجلة لدى الحكومة، كما في أطراف القرى والمناطق التي ترتفع فيها نسبة الأمية.
ما إن يتسرّب خبر يتعلق بسلوك امرأة حتى تتناقله الألسن وينتشر بسرعة على نطاق واسع، خاصة مع طبيعة المجتمع القروي الذي يعرف فيه الجميع بعضهم بعضاً وتنعدم الخصوصية وتمتد العلاقات بين العائلات والقبائل عبر القرى. تقول مدرّسة أربعينية "بيتكلموا ويزوّدوا.. ده ينقل لده وده ينقل لده وكل واحد برواية مختلفة".
يؤكد أحدهم أن قتل المرأة من شأنه إنقاذ الكثير من الأرواح حال وقوع معايرة بين الرجال والعائلات. وذكر آخرون أنه ضروري لتحقيق "الردع" للنساء الآخريات وإلا "دي تعمل ودي تعمل ودي تعمل.. تبقى مهزلة". وقال شاب ثلاثيني من دائرة أصدقاء أحد المتهمين بقتل شقيقته: "أنا ماليش دعوة بالدين، أنا لي دعوة بالعادات والتقاليد".
ويشير أيضاً إلى عدم تناسب حجم الوجود الشرطي في المراكز مقارنة بعدد سكانها، فمركز مثل نجع حمادي الذي يبلغ عدد سكانه حوالي نصف مليون نسمة يخدمه مركز شرطة واحد، مما يجعل الضغوط على أفراد الشرطة كبيرة، وبالتالي لا تحظى جرائم وبلاغات بالاهتمام الكامل. بالإضافة إلى الموقف الشخصي لبعضهم، خاصة إذا كانوا من أبناء الصعيد "ده أنا لو مكانه كنت عملت كده"، وحتى إن كانوا من خارج الصعيد فإنهم يعرفون الثقافة المحلية وأعرافها.
وفقاً للأرقام الرسمية (9)، تضم محافظة قنا 9 مراكز يقطنها أكثر من 3.5 مليون نسمة وتنقسم إلى 9 مدن و41 قرية رئيسية و111 قرية تابعة و1466 من العزب والنجوع، ويخدمها 10 مراكز وأقسام شرطة.
نتائج مسح عام 2015 الذي أجراه "الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء" على القرى المصرية في الوجهين القبلي والبحري (باستثناء محافظتي شمال وجنوب سيناء)، يبيّن إن 83.6 في المئة من هذه القرى، البالغ عددها 4655 قرية، لا يوجد بها نقطة أو مركز شرطة.
وقد أكد كثيرون ممن تحدثتُ معهم - بينهم مرشحة برلمانية سابقة - وجود دور للأعضاء للبرلمانيين عن القرية، أو لذوي المناصب من أبنائها، في جرائم "الشرف"، بحيث لا يدين المحضر المتهم أو يفضي إلى مساءلته، ويعتبرها الأهالي خدمة من النائب لهم، مشيرين لطبيعة المجتمع الصعيدي القائم على العلاقات والمصالح بين العائلات وذوي السلطة والنفوذ.
وفي حديث مع أحد الضباط بالقرية طلب عدم ذكر اسمه، وهو يحمل رتبة شرطية عليا، قال إن ضحايا جرائم الشرف هم عادة من النساء، لأنهن من يُعايَر بهن الأهل، ولأن الرجال يستطيعون الهرب خارج القرية. وإن مثل هذه الجرائم لا تقتصر على محافظات الصعيد بل توجد أيضاً في محافظات الوجه البحري كالبحيرة وكفر الشيخ والشرقية، فالدافع وراءها "إحساس إنساني" على حد وصفه. وبخلاف جرائم القتل الأخرى، يكون هناك تعاطف مع الجاني. وقال إن "الحكومة" تتساهل مع من يقتل أخته أو ابنته التي زنت على أساس أن هذا رجل تعرض لضغوط من الناس، وإن هذه القضايا لا تلقى لديهم كبير اهتمام. إلا أنه أكد عدم وجود تدخلات من أي طرف في تحريات الشرطة، وقال إن الأمر متعلق بأهل القتيلة الذين يشهدون لتبرئة ابنهم، لأنها سببت لهم الفضيحة وبالتأكيد هم من قاموا بتحريضه، وذلك بالتنسيق مع محاميه.
الإجرام الخفي بحق النساء
"الإجرام الخفي" مصطلح معروف في الأدبيات القانونية وعلم الجريمة وهو يعني الجرائم التي لا يتم إبلاغ الشرطة عنها وبالتالي لا تُسجل في الوثائق الرسمية ولا يتم التحقيق فيها، وهي موجودة في كل مجتمع لأسباب مختلفة، منها إحجام الضحايا أو المحيطين بهم عن الإبلاغ نظراً لحساسية الجريمة، أو لعدم الثقة في الشرطة والرغبة في الانتقام بأنفسهم، ومنها المتعلقة بثقافة رجال الشرطة، بما في ذلك موقفهم من المرأة، وتقديرهم لأهمية الجريمة واستحقاقها للتسجيل، بالإضافة إلى الوضع أو المكانة الاجتماعية للجناة أو المجني عليهم. ويرتبط هذا أيضاً بكفاية عدد أفراد الشرطة وكفاءتهم وتوفّر التقنيات المساعدة.
من الواضح من خلال ما قاله الأهالي - وبينهم المصدر الشرطي - أن هناك الكثير من جرائم قتل النساء باسم "الشرف" يُرتكب دون توثيق. يقول هذا المصدر "لو بنت وناسها قتلوها هم بيتصرفوا مع نفسهم، يدفنوها، يطلعوا لها تصريح دفن.." وهي مسئولية "الصحة" كما يقول، أما المركز فما دام لم يقدّم له بلاغ فلا يُتوقّع منه أن يعلم بالجريمة أو يحقق فيها.
وقال أحد الأهالي إن فتاة من دائرة جيرانه كانت في سن المراهقة وحدث أن جالست شاباً في أحد الافراح أو قامت بالرقص معه، فتم تصويرها وإرسال صورتها لأخيها، فقام بالاشتراك مع الأب بقتلها، وسجلت كوفاة طبيعية في تقرير الوفاة. وأشار لحالة أخرى تمّ التخلص من رضيعها فور ولادته ثم منها هي بعد أيام ولم يحاسب أحد أيضاً، على حد قوله.
نساء الصعيد: التقاليد "مقدسة أكثر من الدين"
13-03-2017
ويقول مزارع أربعيني من قرية أخرى إن أي فتاة تغيب أو تختفي ويسبق ذلك أقاويل حولها يكون الأمر معروفاً للجيران ولأهل البلد عموماً أن أهلها قد تخلصوا منها "غابت يبقى فيه شرف على طول"، وإن الأسرة تختار الطريقة المناسبة للتنفيذ "هم وراحتهم" سواء بشكل فردي أو بالاتفاق مع آخرين "أهم حاجة تتاوى وخلاص".. ".. يعني لو أنا جار (بجانب) بيتي بالضبط.. لو جاري بالحيطة مثلاً ما أقدرش أسأل ولا أقول راحت فين". ويضيف أنه في حالات يُقتَل الرجل الشريك أيضاً دون اعتراض أهله أو إبلاغهم في المركز أو حتى أخذهم بالثأر.
أكد كثيرون ممن تحدثتُ معهم - بينهم مرشحة برلمانية سابقة - وجود دور للأعضاء للبرلمانيين عن القرية، أو لذوي المناصب من أبنائها، في جرائم "الشرف"، بحيث لا يُدين المحضر المتهم أو يفضي إلى مساءلته، ويعتبرها الأهالي خدمة من النائب لهم، مشيرين لطبيعة المجتمع الصعيدي القائم على العلاقات والمصالح بين العائلات وذوي السلطة والنفوذ.
السلوكيات غير المقبولة اجتماعياً موجودة في كل الطبقات وكل المستويات التعليمية، لكن قد تلجأ العائلات الغنية لبدائل أخرى، فهي تحرص على سمعتها، وقتل المرأة سوف يوحي بأن هناك شيئاً بشأنها أو يؤكد الأقاويل حولها، لذلك تتجه العائلات الكبيرة والثرية للتكتم والإنكار وتقوم بتزويجها أو إبعادها إلى محافظة أخرى خارج الصعيد.
ووفقا لمجمل ما أكده الأهالي، فإن جرائم الشرف يتواطأ الجميع على التكتم عليها أو عدم إظهار الحقيقة فيها، بدءاً من الأسرة التي لا تذكر في شهادتها ما من شأنه كشف الجريمة لرغبتها في إنقاذ ابنها من العقاب الجنائي، مروراً بأطراف أخرى يمكن أن تتدخل في الأمر بشكل يعيق كشف الحقيقة، فالجميع يعملون على "إماتة القصة" على حد تعبير أحدهم.
الانتقام في القتل - المرأة التي أحرقت مع طفلتيها
تعود الواقعة لأكثر من عشر سنوات مضت. كان خبر قد نُشِر على بعض المواقع عن إعادة فتح طريق رئيسي كان قد أغلق بإحدى القرى من قِبل عشرات الأهالي اعتراضاًعلى اختطاف ربة منزل من قبل مجهولين، وذلك بعد تمكّن الأجهزة الأمنية من إعادتها، وفقاً لنص الخبر. بعدها بأيام، نُشِر خبر آخر عن العثور على جثث ربة منزل وطفلتيها متفحمة داخل المنزل في ظروف غامضة، بعد اختفائها فترة، وأن التحقيق جارٍ عما إذا كان هناك شبهة جنائية من عدمه.
كانت الضحية أرملة ثلاثينية غادرت منزل أسرتها بالاتفاق مع شريكها (10). وبعد ادعاء اختطافها وقيام أسرتها بقطع الطريق تم إيقافهما من قبل الشرطة، وعمل المركز على حل الموضوع بصورة ودية بعد استدعاء أهلها (11). وعلى الرغم من الشكوك القوية في تعرضها للخطر، سُلّمت المرأة لرجال عائلتها بعد تعهدهم بعدم إيذائها، وعادوا بها للقرية، وفقا لمصدر محلي من دائرة أقارب المرأة، بينما الشريك ما لبث أن لاذ بالفرار ولم يره أحد من وقتها، "لو مات وعرفوا ادّفن فين راح يكحتوا قبره ويجيبوه".
يقول الرجل إن ذوي المرأة اختاروا الحرق بسبب رغبتهم في الانتقام منها بعد شعورهم بالانكسار أمام الناس "الحرق هو اللي كان هايشفي غليلهم ويهدّي نارهم ويمحي العار ويخلي الناس تبطل تتكلم عنهم"، وإنهم قرروا حرق البنات الصغيرات معها حتى لا يتعرضن للمعايرة مستقبلاً.
ويضيف أن قرار إحراقهن كان شائعاً في القرية قبل تنفيذه "بس كانوا عايزين واحد (من العائلة) يكون عنده الشجاعة والجسارة" للتنفيذ، "اتحطت في أوضة في بيت أهلها وبعلمهم وهو دخل عليها الأوضة كبّ عليها البنزين ولّع فيهم لغاية لما الجثث اتفحمت، وجه المركز".
جريمة الثأر، نيران الغضب والحزن
10-03-2022
في النهاية "مفيش حد اتسأل"، مشيراً إلى أن عائلتها كبيرة ذات أملاك وإن كانت منخفضة المستوى التعليمي، وتملك دائرة واسعة من المعارف والأنصار داخل القرية وخارجها مما يعطيها ثقلاً ومقدرة على الأرض. إلا أنه يؤكد أنه بغض النظر عن وضع العائلات، فإن عدم المساءلة أو صدور أحكام هو المعتاد لديهم في مثل هذه الجرائم، وهو ما أكده كثيرون غيره.
ذوي المرأة اختاروا الحرق بسبب رغبتهم في الانتقام منها بعد شعورهم بالانكسار أمام الناس "الحرق هو اللي كان هايشفي غليلهم ويهدّي نارهم ويمحي العار ويخلي الناس تبطل تتكلم عنهم"، وإنهم قرروا حرق البنات الصغيرات معها حتى لا يتعرضن للمعايرة مستقبلاً.
ووفقا للمصادر المحلية اعتُبِر الحريق غير عمدي، رغم أنه كان هناك آثار تقييد على الجثث. وتحدث البعض عن أن وقوع الحادث في توقيت مقارب للانتخابات البرلمانية قد يكون له أثره في الطريقة التي تعاملت بها عائلة المرأة مع الأمر نظراً للحساسيات القبلية (بين العرب والهوارة) التي تكون على أشدها في هذه المناسبات.
أسباب اعتماد النساء على سلوكيات مدانة بنظر المجتمع
قد لا يقتنع كثيرون هنا بأن ثمة أسبابا قد تدفع المرأة الى تلك السلوكيات، ولكن البعض عند استطلاع آرائهم ذكروا - من خلال حالات ضحايا جرائم الشرف التي وقعت في قريتهم أو بوجه عام حيث يرون أن مظاهر "الانفلات الأخلاقي" باتت منتشرة لديهم - انخفاض المستوى التعليمي للمرأة (جميع الضحايا تقريباً في جرائم الشرف الأربعة التي عملتُ عليها كنّ بمستوى تعليمي منخفض: حاصلة على دبلوم/ لم تكمل تعليمها/ لم تلتحق بالمدارس- وفقا للمصادر المحلية)، قلة وعيها ووقوعها ضحية استغلال أو ابتزاز، سفر الأزواج لفترات طويلة وشعور المرأة بالحرمان الجنسي والعاطفي، فارق السن الكبير نسبياً بين الزوجين أو ضعفه الجنسي، غياب دور الأسرة وخاصة الأم في التوعية والرقابة دون كبت، عدم احتواء الأسرة لابنتها إذا ارتكبت خطأ ما قبل أن يفضي إلى خطأ أكبر، التأثير السلبي للدراما، غياب الوازع الديني، الفقر حيث أكد الموظف الأربعيني وهو ناشط في العمل الخيري أن الفتيات الفقيرات يدفعن ضريبة ارتفاع تكاليف الزواج ومن ثم بحث الشاب عن عروس يستطيع أهلها تجهيزها فيزهد فيهن الخُطّاب، ويقول إنه في الغالب تكون الضحايا فتيات غير متزوجات حملن نتيجة علاقة غير شرعية ويكون القاتل الأخ.
شملت القضايا الأخرى نساء قُتلن بواسطة أقاربهن بسب "سوء السمعة"، أو لحمْلهن دون زواج وأحياناُ كانت أمهاتهن يُقْتلن أيضاً إذا قمن بالتغطية على صنيع بناتهن. في جميع الحالات تمّ تطبيق المادة 17. وباستثناء الحالتين السابقتين، كانت أقصى عقوبة صدرت بالسجن 4 سنوات.
حددت الشريعة إجراءات صارمة لإثبات جريمة الزنا، ونصت على توفر ضمانات المحاكمة العادلة، وأن تكون المحاكمة والعقوبة بيد السلطة المختصة في الدولة دون السماح للأفراد مطلقاً بتنفيذها. وإن جرائم الشرف تنتهك حقوقاً أساسية في كل من الشريعة والقانون.
وتحدثت سيدة ثلاثينية عن أن ذكور العائلة عليهم أولا أن يكفوا قريباتهن مادياً قبل أن يقوموا بقتلهن عند "الانحراف"، تأثير الاتصال الهاتفي "التليفون محور كل حاجة.. الزن ع الودان أمر من السحر" والإنترنت الذي سهّل العلاقات غير الشرعية "النسّ اللي خرب الدنيا" تقول سيدة ثمانينية قاصدة النت/الإنترنت. وهناك تعليقات مثل "فراغة عين"، "مش مرباية"، "مسكينة.. ديرة راس.. مكتوب لها في القورة (وتشير إلى جبينها) عشان تغور البحر"..
البُعد الطبقي
ومع وجود أكثر من حالة كانت فيها المرأة الضحية من الأسر الفقيرة برز السؤال عن تأثير الوضع الطبقي أو الاجتماعي للمرأة على تعرضها للقتل من عدمه. وأشار من تحدثتُ معهم الى أن السلوكيات غير المقبولة اجتماعياً موجودة في كل الطبقات وكل المستويات التعليمية، لكن قد تلجأ العائلات الغنية لبدائل أخرى، فهي تحرص على سمعتها، وقتل المرأة سوف يوحي بأن هناك شيئاً بشأنها أو يؤكد الأقاويل حولها، لذلك تتجه العائلات الكبيرة للتكتم والإنكار وتقوم بتزويجها أو إبعادها إلى محافظة أخرى خارج الصعيد عند بعض اقاربها مثلاً، كما أن الناس ربما تكون أقل جرأة على لوك سيرتها، وذلك بخلاف ما يحدث لنساء الأسر الفقيرة التي يغلب عليها الأمية والجهل وتعمد إلى الحفاظ على بقائها الاجتماعي بالقتل.
التمييز في القانون
يقول المحامي صدّيق عبد الساتر إنه في حالة العثور على جثة امرأة سواء في النيل أو في أي مكان آخر، وكانت هناك شكوك أو ملابسات توحي بأنها "جريمة شرف"، فإنها تتعرض إلى جانب الفحص الطبيعي المعتاد للجثة، وإلى فحص مهبلي لمعرفة ما إذا كانت بكراً أو لا، أو أقامت علاقة جنسية قريبة، وهذا من شأنه أن يؤثر في عقوبة الجاني فيما بعد، فالقانون في جرائم قتل النساء باسم "الشرف" يعطي مزية نسبية لأقارب المرأة الذكور وعلى رأسهم الزوج ويليه الأب والأخ.. بإباحة النزول بالعقوبة درجة أو درجتين، هذا إلى جانب تأثير الثقافة الصعيدية/ الذكورية لجهات التحقيق والحكم.
ويرى عبد الساتر أن تفرقة القانون في جريمة الزنا بين الرجل/ الزوج والمرأة/ الزوجة تعكس مفهوم العقل الجمعي للمجتمع للشرف، حيث الشرف مرتبط بالمرأة ويجب عليها الحفاظ عليه، والرجل - لا المرأة - هو المخول بالانتقام له، فإذا ضبط الزوج زوجته متلبسة بزنا في مسكن الزوجية (أو خارجه) وقتلها ومن معها تُخفف عقوبته ويمكن أن تقتصر مثلا على الحبس سنة مع إيقاف التنفيذ (المادة 237 من قانون العقوبات)، لكن في الموقف العكسي، يمكن أن تصل عقوبة المرأة للإعدام، حيث تطبّق عليها عقوبة القتل العمد:
("من فاجأ زوجته حال تلبسها بالزنا وقتلها في الحال هي ومن يزنى بها يعاقب بالحبس بدلاً من العقوبات المقررة في المادتين 234، 236") وفق نص المادة 237 من قانون العقوبات المصري.
عقوبة الزنا للمرأة المتزوجة في القانون المصري الحبس مدة لا تزيد عن عامين، وبتنازل الزوج يتم إيقاف العقوبة، وللزوج مدة لا تزيد عن 6 أشهر، على أن يكون زناه قد وقع في مسكن الزوجية. ويعتبر البعض هذه المواد غير دستورية لتفريقها في العقوبة بين الرجل والمرأة على الجريمة ذاتها.
ووفقاً لما تضمنته الورقة التي أعدتها "فاطمة خفاجي" من "جمعية المساعدة القانونية للنساء" بالقاهرة (CEWLA) عن "جرائم الشرف في مصر" (12) لاجتماع فريق الخبراء الذي نظمه "قسم الأمم المتحدة للنهوض بالمرأة" بالتعاون مع "مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة" (أيار/ مايو 2005 فيينا/النمسا) فإن جرائم الشرف غير منصوص عليها صراحة في قانون العقوبات المصري، ولكن المادة 17 من هذا القانون عادة تستخدم لتخفيف العقوبة على مرتكبي هذه الجرائم:
("يجوز في مواد الجنايات إذا اقتضت أحوال الجريمة المقامة من أجلها الدعوى العمومية رأفة القضاة تبديل العقوبة على الوجه الآتي: عقوبة الإعدام بعقوبة السجن المؤبد أو المشدد.
عقوبة السجن المؤبد بعقوبة السجن المشدد أو السجن.
عقوبة السجن المشدد بعقوبة السجن أو الحبس الذي لا يجوز أن ينقص عن ستة شهور.
عقوبة السجن بعقوبة الحبس التي لا يجوز أن تنقص عن ثلاثة شهور"). وفق المادة 17 من قانون العقوبات المصري
أحكام القضاء
تضمنت الورقة فحصاً لعشر قضايا جرائم قتل بسبب "الشرف" نظرتها محكمة قنا وأصدرت فيها أحكاماً. منها القضية رقم 831 لسنة 1998 لفتاة متخلّفة عقلياً وتعاني اضطرابات نفسية، قتلها والدها وشقيقها بعد وفاة أمها، لقلقهما العميق وخشيتهما من أن تتورط مع شخص غريب مع خروجها المتكرر من المنزل دون إذن على حد قولهم.. استخدم القاضي المادة 17 من قانون العقوبات وحكم على الأب بالسجن 10 سنوات فقط (لم تذكر الورقة الحكم الذي صدر ضد الأخ الشريك في القتل).
قضية أخرى هي رقم 2331 لسنة 1991 لفتاة قتلها خطيبها السابق بعد أن فسخت خطوبتها معه وتزوجت من آخر من خارج العائلة ودون موافقتها. أخذ الجاني بندقيته وتربص بها على طريق عملها وقام بقتلها بالرصاص. نص حكم المحكمة على أن زواج الفتاة كان شرعياً ولكن حدوثه دون موافقة الأسرة والقبيلة والمجتمع المحلي الذي عاشت فيه وهروبها إلى القاهرة هو أمر مخالف للتقاليد الريفية ويسبب العار للعائلة والقبيلة، وأن الفتاة أفقدت أهلها الاحترام والتقدير. ذكر الحكم كذلك أن شقيق الفتاة عفا عن القاتل، وتمّ تطبيق المادة 17 أيضاً وصدر على الجاني حكما بالسجن سبع سنوات.
شملت القضايا الأخرى نساء قُتلن بواسطة أقاربهن بسب "سوء السمعة"، أو لحملهن دون زواج وأحياناُ كانت أمهاتهن يُقتلن أيضا إذا قمن بالتغطية على صنيع بناتهن. في جميع الحالات تم تطبيق المادة 17. وباستثناء الحالتين السابقتين، كانت أقصى عقوبة صدرت بالسجن 4 سنوات.
إلا أن باحثين آخرين يرون أن فرضية تساهل القضاء المصري الدائم تجاه قضايا "الشرف" السائدة في معظم الأدبيات تظل بحاجة إلى المزيد من الاختبار لتأكيدها، من خلال فحص عدد أكبر من القضايا (13).
وثمة أحكام قضائية منشورة بعقوبات مشددة في جرائم كهذه، منها حكم محكمة جنايات نجع حمادي بمحافظة قنا بالإعدام شنقاً لعامل قتل شقيقته بعدة طلقات نارية من بندقية آلية لشكه في سلوكها بسبب شائعات، في واقعة تعود لحزيران/ يونيو 2020 بقرية أبو حزام (موقع الشروق تموز/ يوليو 2021)، وحكم آخر صادر عن محكمة جنايات قنا بالإعدام شنقاً لمدرس قتل زوجته وهي نائمة ب14 طعنة نافذة بسلاح أبيض بعد أن تأخرت دورتها الشهرية لثمانية أيام فشكّ أنها حامل بينما هو يعاني من العقم، وهي واقعة تعود لآب/أغسطس 2017 بمركز قوص جنوب قنا، وأوضحت التحريات أن المجني عليها حسنة السير والسلوك (موقع الوطن، أيلول/ سبتمبر 2019).
يعلّق المحامي صدّيق عبد الساتر بأن الأمر قد يختلف من قاض لآخر، وأن بعض الظروف قد تقتضي التشديد مثل حيازة سلاح آلي أو القتل أثناء النوم.. ويرجّح أن استخدام أقصى عقوبة في هذه الحالات جاء بعد أن أثبت الطب الشرعي عذرية الفتاة، أو أن الضحية حسنة السمعة ولم تكن حاملاً في حالة المرأة المتزوجة، أي أن دواعي التخفيف غير متوافرة.
هرب الفتيات
يحدث في القرى أن تهرب فتيات مع شباب إلى مركز آخر أو إلى القاهرة، يمكن أن يكون من قبيلة مختلفة ومن ثم يحرم زواجها منه، أو يكون غير جاهز مادياً للزواج كي تقبل به الأسرة، أو تكون الأسرة راغبة في تزويجها من ابن عمها مثلاً بعكس رغبتها. تحكي ناشطة مجتمعية بالقرية عن إحدى الفتيات في التاسعة عشر من عمرها كانت قد تواصلت معها تشكو من أن أخاها يحبسها في المنزل، دون أن توضح الأسباب، لاحقاً تواصل معها هذا الأخ ليخبرها أن أخته هربت مع أحدهم وقام بإعادتها من "أبو تشت" (مركز مجاور) واضطر لترك عمله في مدينة الغردقة ليحرسها "عشان ما تعملش مصيبة وتتقتل"، وأن أعمام الفتاة بالفعل كانوا يريدون قتلها. تضيف الناشطة أنها تواصلت بعدها مع هذه الفتاة تلومها لما تسببه من ضغوط لأسرتها، وكان ردها أنها بالفعل لو تركوها سوف تعاود الهرب، وتعلق الناشطة أنه في بعض الحالات تنساق الفتاة وراء أهوائها دون تروّ.
الضحية الناطقة: كدت أُقتَل لولا كشف العذريّة
قسوة الأب، تعنيفه اللفظي والجسدي للأم، رحيلها المبكر، الشعور بالفراغ والوحدة مع الاحتياج العاطفي الفطري.. كانت هذه إجمالاً الظروف التي عاشت فيها إحدى الشابات التي تحدثتُ معها. عندما أقدمت على مغادرة القرية لم تكن كما تصف نفسها في كامل اتزانها "زي ما يكون حد مسيطر عليّا.. مش مخّي اللي مشيت بيه". وقد تنظر الآن إلى ما فعلته على أنه "طيش"، أو أنها ضحية لظروف هي التي تدفع الفتيات إلى ذلك كما تقول.
تغيُّب فتاة من شأنه أن يقلب القرية رأساً على عقب. وكانت الفتاة هي التي اتصلت بأهلها بعد فترة وجيزة من وصولها للقاهرة لمساعدتها في العودة للقرية. كانت في حالة من الانهيار النفسي والجسدي. ولكن بعد إعادتها، واجهت أياماً أشد قسوة.
"أول ما نزلت (القرية) خدوني (رجال العائلة).. 3 عربيات.. خدوني ع البحر عشان يقتلوني.. مش عارفة أكّلَّم.. ما مشتش مع حد.. ضربوا عليّ نار في القصب.. ع البحر.. تلاتة أربعة الفجر عز الشتا.. بقى بيطفي السجاير في يدي (تريني أثر ذلك على ذراعها).. ربطوا لي يدّي هايرموني في البحر.. أغمي عليا" ولم تفق إلا في بيت أحدهم.. خدوا التليفون ما لقوش حد (كانت قد تواصلت معه).. ضربوني بخرزانة.. اتجمعوا عليا كذا راجل ضربوني.. أقول لهم ما عملتش حاجة..".
تقول إنها خضعت لكشف عذرية ووجدوا أنها "بنت بنوت". "بعد الكشف برضه كانوا عايزين يقتلوني، (قالوا) طلعت ودخلت وراحت مصر" لكن أحد كبار العائلة كان الوحيد اللي قال أنه "بريء من ذنبها بنت بنوت ومفيش مكالمات".
إلا أن العقاب الذي طالها لم ينته عند هذا الحد. فقد تعرّضت لعقاب عائلي ومجتمعي قاس وممتد.
"حبسوني (في البيت) قعدت 3 سنين بيتنا ما طلعتش منه ما شفتش الشارع ما اشتريتش جلابية"، وكانت نساء العائلة يعايرنها "يا بت يا اللي هربتي مع الفلّاحي ..(14) يا بت يا بتاعت الألو.. يا بتاعت التليفونات.."، قريباتها لم يكن يأتين لزيارتها، أقاربها الذكور كانوا يرفضون حتى السلام عليها. كما كانت تتعرض للضرب. وكان عليها أن تقضي نهارها في أداء المهام المنزلية المرهقة "لحد ما أقوم الصبح لحد ما أنام أعمل خَتَا (إعداد روث البهائم ليتحول لوقود).. وَقيد (قشّ يستخدم أيضا في إعداد الوقود).. أعمل وَكْل البيت.. أغسل".
وفي المجتمع الأوسع، تعرضت للتجنّب والنبذ والازدراء، والخوض في سيرتها "الناس كلّها حكت عليّ"، ووهنت علاقات كانت قوية مع دوائر الجيران والصديقات منذ الطفولة. تحكي أن إحدى الجارات التي كانت تعتبرها أماً لها بعد وفاة أمها "قالت فيّ كلام شوم" وطلبت ألا تأتي لزيارتهم في بيتهم مرة أخرى خوفاً على بناتها، بينما كانت كل ما تحتاجه هو المواساة والطبطبة في وقت الشدة (وتمسح بيدها على صدرها).
"كل اللي ياجي يخطبني لا ده راحت مصر.. حالي وقف". إلى أن تزوجت مؤخراً مما حسّن حياتها، على الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة، وحسّن معاملة الآخرين لها "الناس بقت تحترمني.. محدش كان يحترمني.. الحمد لله على ذمّة راجل وباخرج أجيب خَلَج (ملابس).. ليّا بيت مستقل.. باب وردّ الكلاب".
حقوق منتهكة وضروريات للمواجهة
في دراستها (15) عن "جرائم الشرف بين حقوق الإنسان والشريعة في مصر" تقول "رشا الشهاوي" إن الشريعة حددت إجراءات صارمة لإثبات جريمة الزنا، ونصت على توفر ضمانات المحاكمة العادلة، وأن تكون المحاكمة والعقوبة بيد السلطة المختصة في الدولة دون السماح للأفراد مطلقاً بتنفيذها. وإن جرائم الشرف تنتهك حقوقاً أساسية في كل من الشريعة والقانون الدولي لحقوق الإنسان على السواء، على رأسها الحق في الحياة، والحق في عدم التعرض للتعذيب أو للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، والحق في المساواة بين الجنسين أمام القانون وعدم التمييز. وإن الشريعة جرّمت النشاط الجنسي خارج الزواج، ووازنت بين احترام الحياة الخاصة والأخلاق العامة في المجتمع، ولكنها - بعكس الأعراف الاجتماعية - لم تفرق في العقوبة بين الرجل والمرأة، وجعلت قتل إنسان كقتل البشرية جمعاء، وجرّمت القتل بالشك، ونهت عن التجسس، وشددت العقوبة في جريمة "القذف". وتقول الباحثة إن أي تقنين لهذه الجرائم، وإن بشكل غير مباشر بإتاحة تخفيف العقوبة فيها كما في القانون المصري، يناقض الدستور والشريعة والاتفاقيات الدولية، وهي مصادر أساسية للقانون الوطني. وأكدت الباحثة على مسئولية الدولة في القضاء على جرائم "الشرف" بالاعتراف بالمشكلة أولاً وبضرورة التعامل معها بشكل عاجل، من خلال إصلاحات قانونية وقضائية، وتوفير الحماية للضحايا المحتملات وفاء بالالتزامات الدولية، ونشر التوعية المجتمعية.
*ركّز عملي على 4 جرائم "شرف" وقعتْ في ثلاث قرى متقاربة جغرافياً جميعها في مركز نجع حمادي بمحافظة قنا جنوب مصر. وبناء على طلب الأهالي، ونظراً لحساسية الموضوع، لا أذكر أسماء القرى، كما لا أذكر أسماء الأشخاص.
1- لم يتسنَ لي معرفة وضعه القانوني في القضية وتطورات سيرها. إلا أنه وحتى كتابة هذا البحث، أي على مدار أكثر من عام، مطلَق السراح.
2-https://bit.ly/3ErkHjl
3- في الهند ودول أخرى.
4- راجع: أكرم القصاص، الجريمة والوعي في مجتمع الـ105 ملايين، اليوم السابع، 24 حزيران/ يونيو 2022،
أكرم القصاص، عودة تقرير الأمن العام.. مواجهة الجريمة بالنشر والمعلومات، اليوم السابع، 9 أيلول/ سبتمبر 2018،
أحمد عبد اللطيف، تقرير الأمن العام.. منجم معلومات محظور من التداول، الوطن، 18 كانون الثاني/ يناير 2018
ماجد عثمان، تقرير الأمن العام، موقع جريدة الشروق، 10 شباط/ فبراير 2013.
6-تعود الواقعة لسنوات مضت حيث قُتِلَتا بالإغراق في النيل، وكان وراء الجريمة أحد رجال فرع العائلة من ذوي المناصب بعد أن ساءه معايرة الناس له بالمرأتين المتهمتين بممارسات انحرافية داخل منزلهما - وفقا لمصادر محليّة. ولم أجد لهذه الحادثة خبراً منشوراً.
8- لا تقتصر هذه الجرائم على المسلمات. ووفقا لرجل مسنّ مسيحي من القرية فإن الأسر المسيحية أيضا تتخلص من بناتها المخطئات ولكن بطرق مختلفة كالسم.
9-الموقع الرسمي لمحافظة قنا، الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء.
10- كانت على علاقة سابقة ومستمرة معه.
11- بعقد قرانهما في المركز، وفقا لما ذكره المصدر.
12-https://bit.ly/3ek4p12
13-راجع مثلا أطروحة ماجستير للباحث محمد ضياء الدين زيد من الجامعة الأمريكية بالقاهرة بعنوان”The
Lenient treatment of honor crimes in Egypt” (كانون الاول/ ديسمبر 2015)
https://fount.aucegypt.edu/cgi/viewcontent.cgi?article=1168&context=etds
وتطبّق المادة (17) في عدة جرائم منها القتل (لأسباب أخرى) وحيازة المخدرات أو السلاح والرشوة وغيرها.
14- من خارج قبيلتها "الهوّارة".
15- أطروحة ماجستير من جامعة لوند بالسويد بعنوان “Justice Denied in the Name of 'Honour': A Study of Honour Killing between Human Rights and 'Shari'a' in Egypt” (خريف 2009)
https://bit.ly/3yrbjIs