تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.
I. صنعتْ تاريخاً.. إيفا هابيل أول امرأة عمدة في مصر
العمدة إيفا في أسيوط، هي أول امرأة في الصعيد تتولى هذا المنصب، وتنال حقها في ميراثها من الأرض، وتعالج مشكلات مجتمعها فتصل إلى حل النزاعات سلمياً وإلى إلغاء عادة الثأر. والعمدة مسيحية الديانة وأغلبية سكان قريتها الساحقة مسيحيون. وهي ما زالت تنادى بلقب العمدة مع أنها تركت المنصب سنة 2010!
كان المصري القديم مولعاً بالطبيعة. على أطراف النهر نمت سنابل القمح الذهبي وكان فخراً أن تنتج أرض أحدهم قمحاً، حتى إنه ارتبط بالطب وتحديد نوع الجنين. فكانت السيدة تتبول في وعائين أحدهما يحمل قمحاً والثاني يحمل شعيراً، فإذا نما الشعير فالمولود حتماً سيكون ذكراً، أما إذا نما القمح فإن المولود أنثى.
تذكرت القصة والقطار يعبر حقول القمح الممتدة على جانبيه، قاطعاً مسافة 380 كلم من القاهرة إلى مركز ديروط التاريخي في محافظة أسيوط وسط الصعيد.
ارتبط القمح بالأنثى مثلما ظن أجدادنا القدماء، وأسماه المصري المعاصر "عيشاً" لارتباطه بالحياة اليومية. قطعنا الطريق إلى قرية "كمبوها بحري" مركز زراعة القمح في المحافظة، حيث السيدة الأكثر شهرة في أسيوط.. العمدة إيفا هابيل، التي استطاعت أن تكون السيدة الأولى التي تتقلد المنصب، بعد مرور ما يقرب من مئتي عام على نظام الإدارة المحلية الذي استحدثه محمد علي باشا.
كانت تجربة "إيفا" في العمودية - التي استمرت من العام 2008 إلى العام 2010 - فعالةً، بدّلت بعض المفاهيم الثقافية والاجتماعية الموروثة في مجتمع القرية الصعيدي شديد الانغلاق.
في قرية "كمبوها بحري" بمركز ديروط (1) ، تسود السكينة، الطرقات هادئة والفلاحون يشرعون في ريّ الأراضي بكل همّة. أجراس الكنائس تدق وخلفها يعلو صوت المؤذن في مسجد القرية الوحيد. فالقرية ذات الأغلبية المسيحية الساحقة يصل عدد سكانها بالداخل (2) وفق أحدث الإحصاءات الرسمية 8762 مواطناً، ولا يمثل المسلمون سوى 2 في المئة من إجمالي عدد السكان. وفي القرية 11 كنيسة ما بين أثرية وقيد الإنشاء، تمثل الطوائف الثلاث الرئيسية (أرثوذكس، كاثوليك، بروتستانت)، جميعهم يعيشون في تآلف بعيداً عن الخلافات الطائفية أو الملّية التي تميز بعضاً من محافظات الصعيد.
لقاء
في مقابلتها المصورة المرفقة، عرّفت إيفا هابيل نفسها على أنها "حتشبسوت" (3) العصر الحديث. خرجت من رحم الصعيد وأدارت مجتمع "كمبوها" الصغير بعد توليها منصب العُمودية. عملت منذ العام 1990 في العمل العام، فبدايتها كانت في المجلس المحلي للقرية، ثم أصبحت المرأة الوحيدة في الإدارة المحلية لمركز ديروط وهو إدارياً المركز الرئيسي الذي تتبعه القرية، وذلك عبر الانتخاب المباشر، لتحصل على أعلى أصوات انتخابية في الصعيد وقتها. وفي العام 2008، عُينت كأول عمدة من النساء، وفي الوقت نفسه من الأقلية المسيحية، تجلس على ذلك المقعد (4). نافسها خمسة رجال منهم شقيقها، لكن نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك ارتأى أنها الأحق بالمنصب والأكثر فاعلية.
كانت تجربة "إيفا" في العمودية - التي استمرت من العام 2008 إلى العام 2010 (استقالت بعد أن اختيرت بالتعيين لعضوية مجلس الشورى المصري في العام 2010) – فعّالة، بدّلت بعض المفاهيم الثقافية والاجتماعية الموروثة في مجتمع القرية الصعيدي شديد الانغلاق. ولعل أبرز تجاربها التي أثرت بشكل كبير على نساء القرية، كانت محاربتها للحصول على الميراث.
المرأة لا ترث.. إيفا فعلت
المرأة في أغلب إقليم صعيد مصر ما زالت تعاني الحرمان من الميراث (5)، لأسباب ارتبطت بالأعراف والتقاليد في مناخ اجتماعي غلب عليه التشدد في تسيير حياة النساء، وفقاً لمنظومة ذكورية ساهمت المرأة نفسها في تدعيمها عبر أجيال ممتدة.
وعلى الرغم من مخالفة تلك الأعراف للقانون المصري، ظل ميراث النساء في الصعيد كما يصفه حقوقيون، "فريضةً غائبة". فطبقاً للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، تنظر المحاكم سنوياً في 144 ألف قضية تنازل عن الميراث ، و95 في المئة من النساء والفتيات يُحرمن من الميراث في محافظتي قنا وسوهاج على سبيل المثال، وهما المحافظتان التاليتان في الصعيد بعد أسيوط، بينما في أسيوط نفسها فإن هناك حوالي 73 في المئة من النساء لا يرثن. ومع تزايد قضايا الميراث في العقد الأخير، وجّهت السلطات المصرية المشرّع إلى تعديلات في قانون المواريث (6) بهدف تجريم الامتناع عن تسليم التركة لمستحقيها، وفق القانون رقم 2019 لسنة 2017. فيعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وغرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه، ولا تجاوز مئة ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من امتنع عمداً عن تسليم أحد الورثة نصيبه من الميراث.
تقول إيفا: "تُحرم المرأة من الميراث، سواء كان أرضاً أو عقارات أو أصولاً ومشروعات تجارية، لأسباب تتعلق بـ موروثات ثقافية واجتماعية خاطئة، كي لا يتبدد الميراث ويبقى محفوظاً باسم العائلة بدلاً من أن يذهب إلى المرأة التي لا يحمل زوجها اسم العائلة. هذه عقيدة راسخة لدى رجال الصعيد، باعتبار أن الأرض تمثل العِرض والشرف".
النساء اللاتي تحدثنا معهنَّ في "كمبوها بحري"، سواء كنَّ من الفلاحات أو المكتفيات بالعمل المنزلي، تؤكدن أن رجال القرية يحرمون المرأة من الميراث. النساء اللاتي يمثلن 4291 سيدةً من أصل 8762 هم عدد سكان القرية، حسب أحدث الإحصاءات الرسمية للعام الجاري، لا يجب أن يحصلن على أنصبتهنَّ الشرعية والقانونية، وفقاً للأعراف.
على الرغم من أن غالبية نساء القرية تمارسن تربية الطيور والمواشي بشكل موسع في منازلهنَّ، إلا أن ذلك يخرج، حسب مفهوم رجال القرية عن إطار العمل. فالخدمة المنزلية والمشاريع الصغيرة التي تمارسها النساء من المنزل لا تحتسب عملاً.
لكن ظهور "إيفا" في القرية خلق نوعاً من الحراك الاجتماعي، وزعزع النظام الذكوري المتواصل منذ زمن سحيق في القدم. فقد استطاعت نساء من القرية أن يرفعن شعار: "عاوزة ميراثي"، لكن لم تحصل أيٌّ منهنَّ بعد على حق ميراث الأرض، وربما سنحت الفرصة لإحداهنَّ أن تحصل على نصيبٍ في منزل أبيها، شريطة ألا يكون لها الحق في بيعه لاحقاً. ربما أيضاً استطاعت أعداد من النساء من جيل الشابات اللاتي عاصرن فترة تقلّد "إيفا" لمنصب العمدة، أن يطبقن قانون عرفي هو "الرضوى" (7) بدلاً عن الأرض والأصول الثابتة، ويرين أنها مكتسبات جديدة استطعن أن تحققنها للقرية الصغيرة من خلال أنفسهنَّ و"إيفا".
عمالة رجالية وبطالة نسائية
ترتفع نسبة التعليم بالقرية إلى أكثر من 90 في المئة من مختلف المؤهلات، وعلى الرغم من ذلك، لا يسعى سكانها إلى الانتظام في عمل حكومي. ومنذ ستينيات القرن الماضي قرر الأهالي إنشاء مزارع للثروة الداجنة. تضم القرية أكثر من 200 مزرعة دواجن و150 معملاً للتفريخ. وقد تبلورت الفكرة بمرور الوقت لتصبح القرية حسب التصنيف الحكومي لوزارة التنمية المحلية "قريةً منتجة"، وتخطّى إنتاجها حيز الاكتفاء الذاتي المحلي للقرية، لتُصّدر الفائض إلى كافة محافظات الصعيد، وتعد الأفضل استثماراً بين القرى في المشروعات الصغيرة والمتوسطة والمتناهية الصغر بثروة داجنة تبلغ أكثر من 90 في المئة من الثروة الداجنة لمحافظات الصعيد، كما تعد المورّد الأول للكتاكيت في المحافظة، وذلك في العشرين عاماً الأخيرة.
وحسبما تروي العمدة "إيفا" في حديثها المصوَّر مع فريق "السفير العربي"، فإن القرية بلا بطالة: الجميع يعمل، منهم من يمارس مهنة الفلاحة (القرية تمتلك 300 فدان صالحة للزراعة فقط، وتتقلص المساحات المزروعة تدريجياً بمرور الوقت)، أو أعمالاً أخرى خاصة، وقليل من يمتهن وظائفَ حكومية، لكن الأغلبية تعمل في صناعة الدواجن. وعلى الرغم من أن غالبية نساء القرية تمارسن تربية الطيور والمواشي بشكل موسع في منازلهنَّ، إلا أن ذلك يخرج، حسب مفهوم رجال القرية عن إطار العمل. فالخدمة المنزلية والمشاريع الصغيرة التي تمارسها النساء من المنزل لا تحتسب عملاً. ولا يعمل من النساء في القرية سوى طبيبتين بشريتين بالوحدة الصحية الصغيرة، وثلاث محاميات، وبضع مدرّسات فقط.
في قرية "كمبوها" يفرض الواقع تساؤلاً آخر: لماذا يخشى رجال القرية من ضياع الميراث في عائلة أخرى، رغم أن عائلات القرية المسيحية جميعها تربطها صلات قرابة؟ تجيب إيفا: "العادات الصعيدية غلبت الدين، فالرجل في الصعيد سواء كان مسلماً أم مسيحياً يظل هو هو. الدين هنا أمرٌ ثانوي".
حاولت "إيفا" منذ توليها منصب العمدة أن تخلق نوعاً من التوازن بين النساء والرجال، وأن تشجعهن على ضرورة العمل، وتحقيق ذمة مالية منفصلة عن ذويهم من رجال العائلة، رافعةً شعار "أنا امرأة وأستطيع". كان ذلك صعباً في البداية، لكن النساء تشجعن قليلاً بعد أن رأوا العمدة بنفسها تدير مطحن والدها، وتؤسس مصنعاً صغيراً لحياكة الملابس عملت به نساء من القرية. هنا أصابت بعض الغيرة الإيجابية النساء، وأردن خلق مشروعات صغيرة لأنفسهنّ.
لا مكان للثأر
تفتخر "إيفا" بأن قريتها الآن أصبحت قريةً خالية من عادة الثأر. لم تحدث وفقاً لشهادتها عملية ثأر إلا بعد أن تركت المنصب، وكان خلافاً دبَّ بين فردين من العائلة نفسها، لكنها تدخلت لإنهاء الأزمة. ومنذ ذلك الوقت لم تظهر في القرية أيُّ حالة ثأر نهائياً، كانت هذه هي الطريقة التي تدير بها مشكلات القرية، فرجال الشرطة آخر طرق الحل في أي أزمة.
جريمة الثأر، نيران الغضب والحزن
10-03-2022
وعلى الرغم من تركها للمنصب منذ العام 2010، إلا أن الجميع ما زال يناديها بلقب "العمدة"، يلجأون إليها في حل مشكلاتهم الاجتماعية والقانونية، وتلجأ إليها النساء في مسائل الإرث والعمل والتعليم، ليؤكد الجميع أن تجربتها الرائدة، ساهمت في تغيير بعضٍ من عادات وأعراف مجتمع شديد الانغلاق والخصوصية مثل مجتمع "كمبوها" الصعيدي.
II. نضال المسيحيات المصريات للخروج من سجن الزواج الأبدي
جهود تقودها النساء المصريات المسيحيات للمطالبة بقانون مدني يكون طوق نجاة وخلاص من القيد الاجباري للزواج الدائم الذي تفرضه الكنيسة القبطية على المسيحيين. قصصٌ مؤلمة لنساء أفراد، وقصص مؤسسات تسعى لتحقيق هذه الغاية.
تتزايد الدعوات بين المسيحيات المصريات، المطالِبةُ بخروج قانون الأحوال الشخصية الموحد لغير المسلمين إلى النور بعد تعثره لسنوات طويلة، ربما تصل لنحو ثلاثين عاماً، أملاً في أن يكون طوق النجاة والخلاص من قيد الزواج الإجباري والدائم الذي تفرضه الكنيسة القبطية. وفيما تدور المناقشات بين السلطات المصرية والكنيسة من ناحية (1)، وكذلك بين ممثلي الكنائس المصرية بين بعضهم البعض (2) من ناحية أخرى منذ العام 2014، كانت هناك معارك أخرى غير رسمية، ربما في أغلبها جاءت فردية، كما كان هناك أيضاً محاولات للضغط على الكنيسة وطرح الأزمة أمام الرأي العام المصري، لتكون بمثابة أداة قوية لفضح المستور طوال عقود، والتمرد على النظام الكنسي.
وحسب المحامي والباحث في القانون الجنائي سعيد فايز، فإنه في العام 1938، صدرت لائحة للأقباط الأرثوذكس، أصّلت في عدد من موادها لتسعة أسباب للطلاق (من المادة 50- 58). غير أنه مع صعود البابا شنودة الثالث إلى كرسي البابوية في العام 1971، بدأت الأزمة، حينما اختزل الطلاق في سبب وحيد، "الزنا"، مرجعاً ذلك إلى تفسيره لنص في الكتاب المقدس. ثم أمر بعدم منح تصريح الزواج الثاني لمن حصل على طلاق بموجب لائحة 38، إلا في حالة الزنا فقط.
ونجح البابا في العام2008 من خلال مستشاريه القانونيين في تعديل اللائحة القديمة، بما يؤكد أن "لا طلاق إلا لعلة الزنا". وحسب المحامي "فايز"، فإن المتضررين لجأوا لمجموعة من الحلول وقتها، أبرزها التحول لطائفة أخرى، مستفيدين من نص القانون المصري الذي يبيح اللجوء للقضاء الوطني إن اختلفت الملة/ الطائفة بين الزوجين (3). لكن البابا شنودة تدخل مع رؤساء الكنائس الأخرى لمنع إصدار مثل تلك الشهادات للأرثوذكس، لتتعمق الأزمة. ولم يبق أمام المتضررين سوى طريقين: إما اللجوء لمكاتب سمسرة تغيير الملة في مصر أو الخارج، أو التحول إلى الإسلام، للهروب من قبضة الكنيسة نهائياً. لكن ذلك خلق أزمةً أكبر وهي أزمة "العائدين إلى المسيحية" بعد الطلاق.
ساهم الحراك الاجتماعي والسياسي المتصاعد قبيل ثورة كانون الثاني/ يناير 2011، وما تلاها، في إبراز الإنترنت كمساحة جديدة للتنظيم الاجتماعي، تستطيع القوى الساعية للتغيير استخدامه لطرح خطاباتها والوصول لقواعد جماهيرية أوسع. فانتقلت المجموعة إلى الشارع من خلال رابطة "ادعموا حق الأقباط في الطلاق".
ورأى "فايز" أن طرقاً أخرى انتهجها أفراد ومجموعات أو مؤسسات، من خلال مبادرات ظهرت قبيل ثورة 2011 وحتى الآن، كأدوات ضغط هامة لطرح الأزمة خارج إطار الكنيسة، لكن رئيس المجلس الملّي لعب دوراً في تفتيت تلك المبادرات من خلال حل مشكلات بعض من أصحابها بشكل فردي، حتى تتفرق الجهود (4).
ليلى وماريا من بين غيرهنَّ
"ليلى"، المصرية الأرثوذكسية، خاضت حرباً طويلة استمرت 8 سنوات للحصول على طلاق مدني معترف به من الكنيسة، وحرباً أخرى للموافقة على منحها تصريح زواجٍ ثان. تقول: "اكتشفت أن زوجي يستخدم زواجنا في جرائم النصب والاحتيال. قبض عليه وسجن مدة 3 سنوات. توجهت إلى الكاتدرائية في القاهرة لفتح ملف في المجلس الإكليريكي وتقديم طلب للحصول على الطلاق، لكن الكاهن المسؤول قال لي إن زوجي صليبي ولا بد لي من تحمله". بعد محاولات استمرت لـ3 سنوات، وعدة لجان للمصالحة بين الزوجين، توجهتْ إلى القضاء الوطني للحصول على حكم بالنفقة، لإثبات حالة الانفصال مدة 3 سنوات بسبب سجن الزوج، كي يكون سنداً أمام لجنة الكنيسة.
اختزل البابا شنودة الثالث، مع صعوده إلى كرسي البابوية في العام 1971، الطلاق في سبب وحيد، هو "الزنا"، مرجِعاً ذلك إلى تفسيره لنص في الكتاب المقدس. ثم أمر بعدم منح تصريح الزواج الثاني لمن حصل على طلاق بموجب اللائحة رقم 38، إلا في حالة الزنا فقط.
بالفعل، تقدمت للجنة الكنسية بما يثبت الانفصال وسجن الزوج، لكنها لم تبت في الأمر، لتلجأ في النهاية للحصول على الخلع من خلال القضاء نفسه، ولأن القانون يحيل مسائل الطلاق إلى شريعة المتقاضين في حال اتحاد الملة، تحايلت ليلى من خلال الحصول على شهادة تغيير الطائفة (مقابل 75 ألف جنيه وقتها)، وظلت مدة 4 سنوات بين أروقة المحاكم للحصول على حكم الخلع، وعام ونصف بعد صدوره للحصول على اعتراف كنسي بالطلاق ومنحها تصريح زواجٍ ثان.
وفيما استطاعت "ليلى" الإبقاء على مسيحيتها من خلال تغيير الطائفة، لم تستطع "ماريا" الكاثوليكية الصمود أكثر، فهي لم تمتلك الأموال اللازمة للحصول على الشهادة، وعلى الرغم من فداحة حالتها حيث هجرها زوجها مغادراً إلى الولايات المتحدة الأمريكية، تاركاً ابنةً صغيرة، إلا أن الكنيسة لم تمنحها الطلاق، لتلجأ في النهاية للتحول من المسيحية إلى الإسلام، كحل جذري لأزمتها التي استمرت خمس سنوات. ومن هنا حصلت على الطلاق الفوري، وبعد سنوات تزوجت وسافرت مع زوجها مهاجِرة إلى الخارج نهائياً (5).
مبادرات نسوية
ساهم الحراك الاجتماعي والسياسي المتصاعد قبيل ثورة كانون الثاني/ يناير من العام 2011، وما تلاها، في إبراز الإنترنت كمساحة جديدة للتنظيم الاجتماعي، تستطيع القوى الساعية للتغيير استخدامه لطرح خطاباتها والوصول لقواعد جماهيرية أوسع. وهو ما كان له صدى في التنظيم النسوي المسيحي خاصة (6)، خلال العقد والنصف الأخيرين، ما أنتج صفحة على "فيسبوك" أسستها ناشطة مسيحية، "أميرة جمال"، تدعو إلى حق الطلاق للمسيحيين والزواج الثاني، كان ذلك في العام 2010، ثم انتقلت المجموعة إلى الشارع من خلال رابطة "ادعموا حق الأقباط في الطلاق". وتقود الرابطةَ نساءٌ بمشاركة رجال متضررين. أما الإطار الثاني فهو "مؤسسة قضايا المرأة المصرية" ("سيولا") والتي أسستها منذ تسعينيات القرن الماضي المحاميةُ الحقوقية عزة سليمان.
• ادعموا حق الأقباط في الطلاق
في أيار/ مايو من العام 2010، حصل مجدي وليم طليق الفنانة هالة صدقي على حكم من القضاء الوطني يلزم الكنيسة بمنحه تصريح الزواج الثاني. وتسبب الحكم في صدام بين الكنيسة والدولة، انتهى بتدخل الرئاسة لمناقشة قانون موحد للأحوال الشخصية للمسيحيين. وخلال المناقشات غير المعلنة وقتها، ظهرت رابطة "ادعموا حق الأقباط في الطلاق والزواج المدني"، وكانت أول حركة مسيحية للعمل الميداني حيال أزمة الطلاق بالكنيسة. تظاهروا أمام وزارة العدل، رافعين لافتات تطالب الكنيسة بالسماح للأقباط المتضررين بالطلاق والزواج الثاني واستعادة العمل بلائحة 38 التي أقرت تسعة أسباب للحصول على الطلاق.
تلاها وقفة أمام مجلس الوزراء المصري في آب/ أغسطس من العام 2010. بعدها عُقِدَ مؤتمرٌ صحافي لعرض رؤيتها وأهدافها، بـ"مركز هشام مبارك الحقوقي"، حمل عنوان "هل يتسع صدر المسيحية للقانون المدني؟". وكانت الفرصة ذهبية أمام الرابطة، حسبما رأت منسّقتها "أميرة جمال" بعد بدء الدولة المناقشة حول قانون مدني للأحوال الشخصية في كانون الأول/ ديسمبر 2010.
بدأت مؤسسة "قضايا المرأة المصرية" ("سيولا") العمل على قضايا المسيحيات في مصر منذ العام 1997 حين لجأت مسيحيات للمؤسسة لإنقاذهن من أزواجهنَّ الذين تآمروا للخروج من الزواج بشكل ديني عبر اتهام زوجاتهنَّ بالزنا.
وفي تموز/ يوليو من العام 2011، بدأت الرابطة باتخاذ مواقفَ معارِضة للكنيسة، كما نظمت مؤتمراً صحافياً للرد على اتهامات "ساويرس" لأعضائها بالخروج عن الدين المسيحي. وقالت المؤسِسة أميرة جمال، المتحدثة باسم الرابطة وقتها، إنها وزميلاتها "مستمرات في المطالبة بحق الحصول على الطلاق، وأن الكنيسة تكفرهن لمطالبتهن بهذا الحق، ونطالب الدولة بالحق في الطلاق المدني فنحن مصريات لا يجب ترك جميع شؤوننا للكنيسة".
تظاهر أعضاء الرابطة أيضاً ضد المجلس الإكليريكي، متعاونين مع مجموعات أخرى سميت فيما بعد بـ"أقباط 38". بعدها وفي آب/ أغسطس من العام 2012، دعت الرابطة إلى صلاة أمام القصر الجمهوري للمتضررين من قانون الأحوال الشخصية. وحظيت مطالبها بدعم عدد من المنظمات الحقوقية وقتها، لكن تلك الرابطة اختفت بعد ذلك تدريجياً من الساحة.
• مؤسسة قضايا المرأة المصرية
تتبنى مؤسسة قضايا المرأة المصرية ("سيولا") (7) التي أسستها المحامية الحقوقية عزة سليمان، نشر الوعي القانوني بين النساء، خاصةً في المناطق الفقيرة وبين الأقليات الدينية. وتعمل المؤسسة وفق 3 برامج رئيسية: مناهضة العنف ضد المرأة والوصول للعدالة، تنمية المجتمعات المحلية، وحدة حملات تغيير القوانين والحملات الدولية. وبدأت المؤسسة العمل على قضايا المسيحيات في مصر منذ العام 1997، حينما تولى القس إبراهيم عبد السيد (8) تدريب النساء العاملات بالمؤسسة على مسائل الأحوال الشخصية للمسيحيين وما يتصل بها من لوائحَ كنسية، ثم أصدرت المؤسسة دراسة تحليلية في العام 2001 "عامان على الخلع"، وقتها كانت المطالبات بتفعيل لائحة 38 التي أوقف البابا شنودة العمل بها. وقد لجأت مسيحيات للمؤسسة لإنقاذهنَّ من أزواجهنَّ الذين تآمروا للخروج من الزواج بشكل ديني عبر اتهام زوجاتهنَّ بالزنا. تقول عزة سليمان: "ساعدنا كثيراً من النساء للحصول على أحكام خلع ضد أزواجهنَّ منذ ذلك الوقت وقدمنا الدعم القانوني".
قدمت المؤسسة أطروحات مرتبطة بالقضية، بالتعاون مع الدكتورة نادية حليم (9) والقس إكرام لمعي (10)، ما ساهم في تغلغل المؤسسة داخل الكنيسة والسماح لها بتقديم مقترحات وفتح حوارات مجتمعية حول قضايا الطلاق واللائحة، حتى إن محاولاتها اجتذبت الكنيسة الأرثوذكسية في العام 2008، حينما حضر نائب البابا شنودة، الأنبا بيشوي، أحد مؤتمرات المؤسسة، وصرح للمرة الأولى أن الكنيسة بصدد إخراج لائحة جديدة للأحوال الشخصية. تقول عزة "تعاونّا مع عدد من المبادرات المسيحية، وأجرينا موائد حوارية مع الكنيسة لدعم حق المسيحيين في قانون أحوال شخصية عادل، كما قدمّنا في العام 2003 مقترح قانون أحوال شخصية أكثر عدالة، وأجرينا مناقشات ومبادرات على مدار سنوات طويلة مع الطوائف المسيحية الثلاث من أجل الوصول إلى مقترح لمشروع قانون موحد للأحوال الشخصية".
وعلى الرغم من اختفاء القائمات على رابطة "ادعموا حق الأقباط في الطلاق" بعد العام 2012، إلا أن تحركاتهم الميدانية أسفرت عن حالة من الجدل (11)، نتج عنها حراك داخل مجتمع الكنيسة نفسه، وإن كان محدوداً وقتها. لكن الأكثر تأثيراً كان تفاعلات "مؤسسة المرأة الجديدة" التي خاطبت الدولة والكنيسة والمجتمع على حد سواء، وكان لمبادراتها آثار كبيرة، سواء على النساء المسيحيات أنفسهنَّ، أو بسبب ما فرضته من حالة الحوار المجتمعي بشأن القانون المنتظر وكثير من قضايا المسيحيات في مصر.
محتوى هذه المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.
هوامش القسم الأول
______________________
1- تنتسب إلى ديروط الشريف وهي أشهر مناطقها، سميت باللغة القبطية "تيروت سارابام" وتعني الشجرة الكثيفة أو الأم المرضعة، وحرّفها العرب إلى ديروط.
2- هاجر كثير من أبناء القرية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وتعمل مجموعات كبيرة في دولة الكويت، لذا لا يدرجون ضمن التعداد الإحصائي الرسمي، هو فقط يمثل عدد السكان المقيمين.
3- ملكة واشهر حاكمة فرعونية (1508 ق.م) تَحدّت البلاط والكهنة الذين كانوا لا يقبلون بتنصيب امرأة حاكماً.
4- منصب العمدة في مصر يتم عن طريق الترشح وتقديم الأوراق إلى الجهات المختصة، ثم يختار وزير الداخلية بالتعيين العمدة من بين المرشحين.
5- تشير النسب، وفق أصحاب الدعاوى المقدمة للمحاكم، إلى أن 50 في المئة من الحرمان من الميراث يكون عن طريق الأشقاء الذكور و25 في المئة بسبب تعنت الأمهات، ورفضهن حصول بناتهن على حقوقهن و25 في المئة عن طريق الآباء الذين يكتبون وهم أحياء كل شىء لأبنائهم الذكور
6- لمزيد من المعلومات عن القانون، مراجعة الرابط: https://bit.ly/3NdNCcJ
7 - عرف اجتماعي استحدثته بعض من محافظات الصعيد، وينص على أن يقدم الوارثون الرجال مبلغاً مالياً للوارثات النساء مقابل التنازل عن حقهن في الميراث، وهو أقل من القيمة الفعلية لميراثهن.
هوامش القسم الثاني
______________________
1 - مجلس الكنائس المصرية يضم خمس كنائس هى الأرثوذكسية والكاثوليكية والإنجيلية والروم الأرثوذكس والأسقفية.
2 - تسربت أنباء تفيد بأن مشروع القانون الآن وصل إلى مجلس الدولة المصري لمناقشته وإقراره وربما يصدر قريباً.
3 - تنصّ المادّة 17 من القانون رقم 1 لسنة 2000 الخاص بالأحوال الشخصية على أنه "لا تُقبل دعوى الطلاق بين الزوجين متّحدي الطائفة والملّة إلا إذا كانت شريعتهما تجيزه"، الأمر الذي يعني أنه في حالة اختلاف ملة أحد الطرفين، حتّى في تاريخ لاحق على عقد الزواج، تُعتبر أحكام الشريعة الإسلامية هي الواجبة التطبيق.
4 - مع صعود البابا تواضروس الثاني، حدثت انفراجة يسيرة حينما بدأت المناقشات حول قانون الأسر المسيحية في العام 2014، وكان على رأس أولوياته أمور الطلاق والزواج الثاني، وتمت مناقشة القانون منذ ذلك الوقت بين الكنائس، ولم يصدر حتى الآن.
5 - بناء على طلب من الحالتين، تم استخدام أسماء مستعارة.
6 - جاءت المادة الثالثة من الدستور المصري والتي أضيفت للمرة الأولى خلال العام 2012، لتحتج بشأنها بعض الناشطات النسويات ورأين أنه بوجودها تنصِّب الكنيسة نفسها صاحبة الحل والعقد في أمور الأحوال الشخصية للمسيحيين ومنها الطلاق والزواج.
7 - منظمة غير حكومية، تأسست في العام 1995، في منطقة بولاق والتي تصنف من المناطق العشوائية في قلب العاصمة القاهرة.
8 - عُرِف براعي الإصلاح داخل الكنيسة القبطية، وتولى كنيسة مارجرجس بمنطقة حدائق المعادي بالعاصمة القاهرة.
9 - أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية.
10- المتحدث باسم الكنيسة الإنجيلية وأستاذ علم الأديان.
11- ظهرت مبادرات وحركات محدودة يقودها في الغالب رجال متضررين من قانون الأحوال الشخصية، لم يستطع أغلبها الصمود، إما نتيجة محدودية أعضائها أو بسبب صفقات سرية مع الكنيسة بمنحهم الطلاق أو الزواج الثاني، مع التخلي عن موقفهم والتزام الصمت.