في تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، وأثناء فعاليات مهرجان الجونة السينمائي، أثار الفيلم المصري "ريش" (1) جدلاً واسعاً، حتى أنه أظهر فريقين متحاربين: الأول يعارض وبقوة "ريش"، ومنهم ممثلون مشهورون ومسئولون حكوميون، انتقدوا الفيلم لأنه يصوِّر مصر بشكل مسيء - حسب وصفهم - بينما الآخر تمثّل في جمهور السوشيال ميديا وجماعات من المثقفين والنشطاء، وظهر مؤيداً للفيلم، حيث صور الفقر في مصر من خلال امرأة مسيحية من الصعيد، تكافح من أجل تغطية نفقاتها بعد أن تحول زوجها إلى "دجاجة"، واصفين الفيلم بأنه عمل يمتاز بالواقعية السحرية التي تعبر عن آلام الوطن وفقرائه.
وما بين الفريقين يحضر واقع المصريين ومعتقداتهم/ فالفريق الأول والذي ظهر مؤيداً للنظام، رأى أن مصر تتقدم نحو الجمهورية الجديدة، وتبني مدناً مثل العاصمة الإدارية، وتدشن مشروعات واستثمارات ضخمة، بينما الفريق الثاني والذي ظهر مؤيداً للمهمشين والفقراء، رأى أن مصر تزحف إلى الهاوية وأن الفقراء يزدادون فقراً. فيما يظهر دوماً فريق ثالث يتفرع عن القضية الأساسية، منحازاً إلى آرائه المستمدة غالباً من منظور ديني، ويعارض أن يكون هناك أسرة مسيحية واقعة في هذا النوع من الفقر المدقع، باعتبار أن الصورة العامة المتخيلة عن المسيحيين أنهم أغنياء و"مموَلين" من الخارج.
هكذا هو الحال في مصر، ما بين الواقع والمعتقد، خاصة إذا كان التصور يدور حول مجموعات من الأقليات الدينية، وعلى رأسها المسيحيون باختلاف طوائفهم. فالمسلمون - "الأغلبية" - الذين لا يعرفون الكثير عن عالم المسيحيين "الغامض"، نتيجة سنوات من التهميش والاستبعاد، يرون أن "ليس هناك مسيحي فقير" (2). وتنتشر صورة ذهنية عززتها الجماعات الإسلامية توحي بأن المسيحيين، ويمثلون حسب آخر تعداد رسمي 5.7 في المئة من إجمالي المصريين (بينما حسب تصريحات كنسية فهم يمثلون 10 في المئة من حجم السكان)، يسيطرون على 40 - 50 في المئة من الاقتصاد الوطني ورؤوس الأموال في البنوك والأصول العقارية والأراضي الزراعية (من واقع التقديرات على الأرض فإن عائلات مسيحية بعينها تسيطر على صناعات هامة، وقد تصل حصتهم من الاقتصاد الوطني إلى 50 في المئة بالفعل ) (3).
وتمتنع المؤسسات الرسمية عن إظهار التعداد (4) الحقيقي للأقليات الدينية، خاصة المسيحيين، وهم يمثلون أكبر الأقليات الدينية في مصر، مبررة أن ذلك موضوع أمن قومي (على الرغم من التمسك بفرض خانة الديانة في بطاقة الهوية). ويترتب على ذلك سرية البيانات والأرقام الخاصة بالحالة الاجتماعية والاقتصادية للمسيحيين أيضاً، ما يترك الباب مفتوحاً أمام الأرقام المغلوطة، المبالغ في تقديراتها، والتي تصف المسيحيين تارة بأنهم أقلية لا يتخطون 5 ملايين مواطن، وتارة أخرى تصل بهم إلى حاجز الـ20 مليوناً.
ويطرح الكاتب هاني لبيب في كتابه "الكنيسة المصرية.. توازنات الدين والدولة"، مسألة الفراغ الذي تركته سرّية البيانات والمعلومات حول المسيحيين وأنشطتهم في مصر، فيقول إن أخطر المفاهيم التي يتم الترويج لها في مسألة أن المسيحيين أقلية "مدللة" هي مسألة الثروة، فتنتشر الشائعات التي تقرر أن ثلث الثروة في مصر يمتلكها رجال أعمال ومستثمرون مسيحيون، وهو ما يزيد عن نسبتهم العددية في المجتمع المصري، ومما يؤكد التصور الخاص بأنهم يمتلكون ثروة مقابل ما لا يحصلون عليه من حقوق (الثروة مقابل الحقوق المدنية).
عن التصورات الذهنية الرائجة: يرى المسلمون - "الأغلبية" - الذين لا يعرفون الكثير عن عالم المسيحيين "الغامض" نتيجة سنوات من التهميش والاستبعاد، أن "ليس هناك مسيحي فقير"!
وربما أكد السيناريست الساخر يوسف معاطي في فيلمه "حسن ومرقص" نظرة المسلمين أنفسهم وشعورهم بأنهم هم المضطهَدون في الوطن، حينما عبّر مستخدمًا كلمات: "مضطهَدين ايه يا شيخ جاد، ده احنا اللي مضطهَدين!"، وأن المسيحيين يسيطرون على القطاعات الهامة والغنية (3/4 فلوس البلد معاهم، كلهم مديرين بنوك ورؤساء مجالس إدارات).. لكن ما الذي رسّخ تلك الصورة الذهنية لدى المصريين من المسلمين عن أقرانهم.. كيف بدأت القصة؟
تاريخ الثروة والسلطة
أظهرت أبحاث التاريخ الاقتصادي على مدار عقود سابقة أن الأقليات المحلية غير المسلمة في مصر (المسيحيين واليهود)، تمتعت بنتائج اجتماعية واقتصادية أفضل من الأغلبية المسلمة، فحصلت على مستويات تعليمية ومهنية أفضل. لكن تلك الابحاث لم تتناول توصيفاً متكاملاً للظروف الاجتماعية والاقتصادية بين الطوائف الفرعية من أصحاب الديانة الواحدة، وربما جاء ذلك كنتيجة لحساسية الموضوع ولاعتباره "أمن قومي". ترتب على ذلك الافتقار لمصادر البيانات داخل الدوائر البحثية، لتنتج مخرجات غير مكتملة، لا تتطرق للحقائق الأساسية حول عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية بين الأديان، وبين أبناء الدين نفسه، وتُترك للتكهنات حول ما يمتلكه الآخر، وما نتج عنها من تقديرات غير دقيقة. فمثلا تتصور الأغلبية المسلمة أن المسيحيين كجماعة دينية "غنية" في مجملها، فيما يعتقد فقراء المسلمين والمسيحيين أيضاً أن الإخوان المسلمين والسلفيين "أثرياء" بالضرورة، بينما يرى المسيحيون أن المنتمين إلى الطائفة الإنجيلية أو الكاثوليكية أكثر مالاً من المنتمين للطائفة الأرثوذكسية... وهكذا دواليك.
عودة لتناول إشكالية الاندماج الوطني للأقباط
21-11-2012
وتكشف مخطوطات التعداد السكاني (5) في مصر للعامين 1848 و1868 (أُجريا في عهد محمد علي باشا وحفيده إسماعيل على التوالي)، واللذان أدرجا معلومات عن جميع شرائح المجتمع المصري حينذاك، بما في ذلك النساء والأطفال والعبيد، أن غير المسلمين في مصر شكلوا 7 في المئة من السكان في كل من التعدادين. وكانت الغالبية العظمى من غير المسلمين في مصر من المسيحيين الأقباط (94 في المئة)، يليها المسيحيون غير الأقباط بنسبة 4 في المئة (من بلاد الشام واليونان والأرمن)، واليهود الربانيون والقرّائون بنسبة 2 في المئة. فيما تظهر الوثائق الرسمية أن هناك ارتفاع مؤقت في نسبة غير المسلمين بين العامين 1868 و1947، بسبب تدفق مسيحيي بلاد الشام والمهاجرين من جنسيات أجنبية للعمل في مصر، نتيجة تحسن الأوضاع الاقتصادية والرواج التجاري وقتئذ.
تمتنع المؤسسات الرسمية عن إظهار التعداد الحقيقي للأقليات الدينية، وخاصة المسيحيين، أكبر الأقليات الدينية في مصر، مبررة ذلك ب"الأمن القومي"، على الرغم من التمسك بفرض خانة الديانة في بطاقة الهوية. وسرية البيانات تترك الباب أمام التصورات والأرقام المغلوطة..
وكان غير المسلمين من المسيحيين واليهود بين عامي التعدادين، الأكثر في شغل وظائف "ذوي الياقات البيضاء" (6)، وربما جاء ذلك لتحسن فرصهم في الالتحاق بالمدارس (7) والتطور في مراحل تعليمية أعلى. وبرع المسيحيون الأقباط في الوظائف المالية للدولة، والحرفية (من واقع التاريخ: استعان العرب بعد دخولهم مصر بالمسيحيين واليهود في الوظائف الإدارية والمحاسبية أيضاً). وصعدوا طبقياً على نحو بارز منذ عهد محمد علي باشا، فكان منهم مسّاحو الأرض والصيارفة وكتبة الحسابات وجُباة الضرائب، وارتفعت نسبتهم في منصب عُمَدْات القرى. واستمر هذا الوضع حتى النصف الثاني من حكمه، ليبدأ في تعيين خريجي المدارس والبعثات التعليمية (8)، وكان منهم أبناء المماليك والشراكسة واليونان والألبان، ومنهم المصريون (مسيحيون ومسلمون)، ليتراجع مركز الأقباط المسيحيين قليلاً، لكنه عاد بقوة في عهد الخديوي إسماعيل وظل مزدهراً حتى مطلع الأربعينات من القرن الماضي، حتى حدث التوسع اللاحق في التعليم الابتدائي الجماهيري العام بين العامين 1951 و1953، مما نتج عنه تحسين الفرص أمام المسلمين، وخاصة بعد تأسيس جامعة الأزهر بموجب القرار رقم 103 في تموز/يوليو للعام 1961 (إعادة تنظيم الأزهر"، وما تلاه من سياسة التوظيف الحكومي لخريجي المدارس والجامعات حتى العام 1983، ما أدى لتقارب مهني بين الأقلية المسيحية والأغلبية المسلمة.
وكان عهد الاحتلال الإنجليزي، بمثابة محطة ظاهرة في بروز المسيحيين الأقباط ضمن النخب البرجوازية وطبقة كبار التجّار، ما ساهم في تكوين طبقة وسطى قبطية، على الرغم من بقاء نسبة أكبر منهم ضمن جموع الفقراء الفلاحين. ووفق إحصاءات العقد الأول من القرن العشرين، حسبما أورد الباحث المختص في التاريخ المصري الحديث، "بول سيدرا" في بحث له، فأن المسيحيين الأقباط سيطروا على 20 في المئة من الثروة، فيما كانوا لا يتجاوزن نسبة 7 في المئة من السكان.
الاشتراكية وفقدان الامتياز
مع صعود نظام الحكم الاشتراكي في مصر مع ثورة تموز/يوليو 1952، اتجه النظام نحو تطبيق سياسة التأميم والإصلاح الزراعي، ما أدّى إلى إفقاد المسيحيين كثير من الامتيازات التي حازوها منذ أواخر العصر العثماني وخلال العهد الاستعماري، وأدى إلى إلحاق الضرر بمكانتهم الاقتصادية، وما يمتلكون.
ففي الستينات من القرن الماضي، حددت الملكية الزراعية كحد أقصى بنحو 200 فدان (أممت آلاف الأفدنة من عائلات دوس وأندراوس وويصا وخياط، وهي عائلات مسيحية إقطاعية)، وسيطر النظام أيضاً على منظومة الأوقاف بما يشمل الأوقاف المسيحية والتي كانت مصدراً هاماً للإنفاق على كثير من فقراء المسيحيين في القرى والنجوع. وبعد إنشاء هيئة الأوقاف القبطية استطاعت أن تستعيد 1474 فداناَ تحت ولايتها، غير الأديرة والشركات والعقارات.
أيضاً، أمم النظام كثير من رؤوس الأموال والتي كانت عائدة لمسيحيين، وتسيطر على قطاعات هامة مثل النقل (كان هناك 70 في المئة من هذا النشاط في حيازتهم)، وشملت إجراءات التأميم شركات مثل: إخوان مقار، والأسيوطى للنقل، وحكيم مرجان. وشملت أيضاً 44 في المئة من المصانع، فأخضعت للتأميم مصانع مثل: فؤاد جرجس ومصانع عطية شنودة وكحلا، وبنوك مثل: بنك القاهرة والذي ساهم فيه بشكل رئيس موريس موسى المسيحي القبطي.
.. لكن ومع فقدان المسيحيين للكثير من الامتيازات التي وضعتهم سابقاً في حيز الاتهام بالثروة من الأغلبية المسلمة، كيف لا تزال الأغلبية تتحدث عن ثراء الأقلية؟
تدور الشائعات، والتي غالباً ما يطلقها الإسلاميون في بعض التقارير حول امتلاك المسيحيين ثلث إجمالي ثروة مصر، وسيطرتهم على 30 -40 في المئة من الاقتصاد، بينما تقدر جهات غير رسمية أن 22 في المئة من شركات القطاع الخاص المصري، التي تأسست في منتصف السبعينيات وحتى منتصف التسعينيات، مملوكة لرجال أعمال مسيحيين (مثل شركات عائلات ساويرس، غبور، غالي، بشاي، برزي، باسيلي، فلتس، بباوي). كما يحتل ثلاثة من المسيحيين رأس قائمة أغنى أغنياء مصر، بعد نشأة "دولة رجال الأعمال"، حسب التصنيف السنوي الذي تصدره مجلة فوربس.
ولكن، هل تعني سيطرةُ مسيحيين على حصة كبيرة من الثروة والاقتصاد أن جميع المسيحيين في مصر أغنياء؟
قدم الدكتور محمد صالح - المختص في التاريخ الاقتصادي لمصر - دراسة للعلاقة بين الدين ومقياس المستوى الاجتماعي، مستعيناً بتعداد العام 1897، واستخلص أن في الريف المصري لا توجد فروقات إحصائية مميزة بين المسلمين والمسيحيين من حيث المستويات الاجتماعية والاقتصادية (هناك مسيحيون في ريف الوجه البحري، وإنما فوجودهم في الوجه القبلي بنسبة أكبر)، معلناً أن متوسط قياس المستوى الاجتماعي (9) للمسلمين وقتها كان 5 بينما للمسيحيين 5.8 بانحراف معياري 0.8 فقط، بينما في المراكز الحضرية ظهر الفارق بين المجموعتين، فمستوى القياس بالنسبة للمسلمين كان 5.4 بينما للمسيحيين جاء 7.7 بانحراف معياري يمثل أكثر من درجتين، ما يظهر التفوق المالي لسكان الحضر من المسيحيين.
أخطر المفاهيم التي يتم الترويج لها في أن المسيحيين أقلية "مدللة"، هي مسألة الثروة. تنتشر الشائعات التي تقرر أن ثلث الثروة في مصر يمتلكها رجال أعمال ومستثمرون مسيحيون، وهو ما يزيد عن نسبتهم العددية في المجتمع المصري. ومن جهة ثانية يؤكد ذلك التصور الخاص بأنهم يمتلكون ثروة مقابل ما لا يحصلون عليه من حقوق!
هنا أيضاً تتركز الثروة في يد عدد قليل من العائلات المنتشرة عبر محافظات مصر، خاصة العاصمة القاهرة والصعيد، حيث أن ما يوازي 90 في المئة من ثروة المسيحيين الأقباط في يد ما يزيد قليلاً عن 10 عائلات مسيحية، وأن 10 بالمئة من الثروة تتوزع على ملايين المسيحيين، بينما تظل الحصة الأضخم في يد بضعة آلاف.
وعلى الرغم من التغيرات المتتابعة بعد هذا التعداد التاريخي، إلا أن علماء الاجتماع أكدوا في معظم دراساتهم الحديثة أن مصر من الدول ذات التحول الاقتصادي والاجتماعي البطئ، لذا فإنه في المتوسط، يكون الفقر والثراء متوارثان في ريف وحضر مصر، بنسبة كبيرة، ما يعني أن كثير من الأسر المسيحية ما زالت تعاني من الفقر، وأن الثروة تتركز في يد عدد قليل من العائلات المنتشرة عبر محافظات مصر، خاصة العاصمة القاهرة والصعيد، حيث أن ما يوازي 90 في المئة من ثروة المسيحيين الأقباط في يد ما يزيد قليلاً عن 10 عائلات مسيحية، وأن 10 بالمئة من الثروة تتوزع على ملايين المسيحيين، بينما تظل الحصة الأضخم في يد بضعة آلاف.
وينتشر المسيحيون في جميع محافظات مصر، إلا أن هناك تمركزات رئيسية في العاصمة القاهرة، وخاصة في أحياء بعينها (منشأة ناصر والمقطم والظاهر وشبرا والعباسية ومصر الجديدة)، علاوة على صعيد مصر. وهم يتوزعون في القاهرة على مختلف الشرائح الاجتماعية. وكمثال، نورد حالة جامعي القمامة (الزبّالين) الفقراء في حي منشأة ناصر التي تقع تحت سفح جبل المقطم الشهير، والتي تعرف ب"مدينة الزبالين"، وقد تأسست بسبب هجرة المسيحيين من صعيد مصر إليها في أواخر أربعينات القرن الماضي، وكانوا يهتمون بتربية الماشية والخنازير أولاً، ثم عملوا في جمع النفايات إلى أن أصبحت المنطقة أكبر مركز رئيسي لجمع وإعادة تدوير النفايات على مستوى العاصمة (40-80 بالمئة من نفايات القاهرة). وعلى الرغم من ذلك، لا تحصل الأغلبية العاملة في مهنة جمع النفايات إلا على النذر اليسير، ويعيشون في ظروف شديدة الصعوبة وفي مساكن بدائية. وتتركز الثروة في يد مجموعات قليلة ممن يديرون هذه الأعمال مثل: يسرية ناصيف لوزا، وهي والدة الإخوة ساويرس، وتعمل من خلال جمعيات وشركات أنشأتها لهذا الغرض، مثل جمعية "روح الحياة". بينما تتمثل الطبقة المتوسطة في وظائف حكومية أو أخرى غير رسمية مثل الطب والهندسة والصيدلة، ويمثل قمة الهرم المسيحي عائلات الميسورين أمثال بطرس غالي وكبار الأثرياء مثل نجيب ساويرس.
أما في صعيد مصر حيث 60 في المئة من القرى الأكثر فقراً على مستوى مصر، والتي يصل فيها الفقر إلى حد 90 في المئة من سكانها، وتتمركز (10) بها النسبة الأكبر من عدد المسيحيين الأقباط، يسكنون أيضاً المحافظات الأكثر فقراً (11)، وهي سوهاج والمنيا وقنا وأسيوط، بالإضافة إلى بني سويف، فإنهم يعانون وبشدة، حيث يمتهن معظمهم مهنة الزراعة والرعي أو العمالة الموسمية.
ويشكل المسيحيون حسب مصادر كنسية، نسبة تقارب النصف من سكان أسيوط (حسب بعض المصادر يصل المسيحيون إلى مليون ونصف مليون مواطن من إجمالي سكان يزيد عن 3 ملايين مواطن)، بينما في المنيا تصل نسبتهم إلى حوالي 35 في المئة من عدد السكان (حسب تصريحات سابقة للأنبا مكاريوس أسقف المنيا، يصل عدد المسيحيين إلى 2 مليون مسيحي من إجمالي سكان يقارب 6 مليون مواطن ) (12).
استخلصت دراسة للعلاقة بين الدين ومقياس المستوى الاجتماعي أنه لا توجد في الريف المصري فروقات إحصائية مميزة بين المسلمين والمسيحيين من حيث المستويات الاجتماعية والاقتصادية. وفي المتوسط، يكون الفقر والثراء متوارثان في ريف وحضر مصر، بنسبة كبيرة.
وعلى الرغم من الفقر الكبير بين مسيحيي محافظتي المنيا وأسيوط، إلا أن الكاتب القبطي والباحث في شئون الأقليات سليمان شفيق، عرض في دراسة له، أن المسيحيين في المنيا يمتلكون 32- 35 في المئة من الثروة الموجودة، ما بين الثروة العقارية والزراعية. وتشتهر أسيوط بامتلاك عائلات مسيحية ثروة طائلة أيضاً، ما يعني الاستمرار في انحسار الثروة في يد عائلات قليلة بالمقارنة بالمجموعة الدينية الكبيرة في كلتا المحافظتين.
أما في محافظات الشمال، فتمركزات المسيحيين أقل نسبياً من الجنوب، لكن هذا لا يمنع وجود مناطق يزيد فيها التعداد المسيحي، مثل قرية شاطئ النصارى في محافظة دمياط، والتي تقع على بحيرة المنزلة، ويمتهن أغلب سكانها مهنة الصيد، ومدينة وادي النطرون والتي يحجّ إليها المسيحيون، حيث تعتبر من أكبر المناطق التي تشمل أديرة مسيحية في مصر، ويعمل سكانها في صناعة الملح وفي الزراعة وتربية الحيوانات والتصنيع.
وبعيداً عن دور الدولة في تنمية المناطق الفقيرة، والتي تعلن دوماً عن وقوفها على قدم المساواة بين جميع المواطنين (مسلمين/ مسيحيين)، ماذا عن دور الكنيسة في مواجهة فقر إخوة الرب؟
دور كنسي.. لا يكفي
تعلن الكنيسة القبطية بشكل مستمر عن أنشطتها الخيرية الداعمة للمسيحيين من الفقراء داخل مصر، والذين تطلق عليهم "إخوة الرب". وتظهر بعض الأرقام المعلنة في مجلة الكرازة، وهي الناطقة باسم الكنيسة رسمياً، حجم الأموال التي تنفقها على تقديم دروس محو الأمية والعيادات الصحية وبرامج الأطفال وأنشطة التوعية والتدريب الزراعي، إلى جانب الإعانات المالية والعينية، وقد طالب البابا تواضروس - بابا الأقباط - أن تخصص 30 في المئة من ميزانية (13) كل كنيسة للإنفاق على الخدمات المقدمة للفقراء في العام 2021، حيث أطلقت الكنيسة برنامجها للرعاية الاجتماعية، بعد أن لاحظ أن التبرعات لا تصل إلى مستحقيها بشكل كامل. وتخضع المسألة لنظام جديد منذ العام 2013، حيث تم تأسيس قاعدة بيانات محكمة تضم كشوفًا بأسماء الفقراء، ويتم توزيع المعونات عليهم بنظام يسمى "كشوف البركة"، فيحصل المحتاج على التبرع سواء أكان مادياً أم عينياً.
في مركز أوسيم بمحافظة الجيزة، قابلنا "مريم" (14)، سيدة عجوز، تتولى الكنيسة إعالتها منذ 23 عاماً، عن طريق "مطرانية الجيزة". وهي وصفت حالتها بشديدة السوء، وكل ما تحصل عليه شهرياً راتباً يقدر بـ300 جنيه مصري، ومساعدات غذائية تقدر بـ300 جنيه، وأدوية بما يوازي 200 جنيه. أما "محروس" وهو أربعيني من منطقة البصراوي في الحي الشعبي الأشهر بالجيزة، "إمبابة"، فيتلقى مساعدات كنسية منذ العام 2014، بعدما تعرض لحادث سير، ما تسبب في إعاقته عن الحركة تماماً، لتقدم له كنيسة "الملاك ميخائيل"، مساعدات غذائية شهرية بما يوازي 500 جنيه مصري، ولا تقدم مساعدات مالية مباشرة. أما "أمل" الخمسينية، فتتلقى مساعدات دوائية تقدر بـ700 جنيه، وغذائية تقدر بـ300 جنيه، من كنيسة "السيدة العذراء" بشارع الوحدة في إمبابة، وذلك منذ خمس سنوات، وساعدتها الكنيسة في استخراج معاش تكافل وكرامة من وزارة التضامن الاجتماعي، لابنها المريض.
يضم صعيد مصر 60 في المئة من القرى الأكثر فقراً على مستوى البلاد، حيث يصل الفقر إلى حد 90 في المئة من سكانه، وتتمركز هناك النسبة الأكبر من عدد المسيحيين الأقباط، يسكنون المحافظات الأكثر فقراً، وهي سوهاج والمنيا وقنا وأسيوط، بالإضافة إلى بني سويف، ويعانون بشدة، ويمتهن معظمهم مهنة الزراعة والرعي أو العمالة الموسمية.
وعلى الرغم من المعونات التي تقدمها الكنيسة لرعاياها، إلا أن كثير من الحالات التي تحدثنا إليها ترى أنها لا تكفي، كما في حالة "هاني"، من مسيحيي العريش الذي اختار الهجرة من مسكنه، حفاظاً على حياته وأسرته، بعد اشتداد هجمات التنظيمات الإرهابية والتي استهدفت العائلات السيناوية، ولم تفرق بين المسيحيين والمسلمين، لكنها أعطت تحذيراً شديد اللهجة للمسيحيين خاصة في العريش.
ويظهر هاني مستاءاً من تركهم منازلهم وأعمالهم دون تعويض، شارحاً أنه على الرغم من مرور خمس سنوات على التهجير، فإنه يعيش مثل باقي المهجرين في بطالة، خاصة وأن مدخراتهم لم تعد تكفي العاصمة والتي يعاني سكانها من ارتفاع مستوى النفقات، ويحاولون استجداء تعاطف الكنيسة أو وزارة التضامن الاجتماعي والتي لم تقدم لأسرته سوى طاولة صغيرة ومبلغ 300 جنيه، مضيفًا: "حاولت الحصول على موافقة حكومية لتحويل بطاقة التموين إلى القاهرة (15)، وعانيت من الروتين الحكومي حتى تمت الموافقة بعد عام كامل من التهجير، استأجر منزلاً في حي شعبي بقيمة إيجارية 2000 جنيه، أما عن مساعدات الكنيسة، فتمنح ما بين 500- 1000 جنيه إعانات شهرية، حسب حالة كل أسرة، بينما كنائس أخرى تمنح مساعدات عينية في الأعياد فقط"، مظهراً امتعاضه من المنظومة الكنسية والحكومية على حد السواء، فأسرته تحيا في فقر ولم تمتد لهم الأيد بمساعدات كافية تكفل لهم حياة كريمة.
.. ويبقى السؤال: ما الذي سينقذ مسيحيو مصر من الفقر: جهود حكومية أم معونات كنسية زهيدة؟
1- عُرض للمرة الأولى في مهرجان "كان" السينمائي الدولي، ونال جائزة "أسبوع النقاد".
2- المقولة كانت طرفة أطلقها الشيخ "كشك" في إحدى خطبه.
3- وفق مقابلات شخصية مع مصادر كنسية ومنتمين إلى التيار العلماني داخل الكنيسة.
4- حجبت مصر رقم الدين في تعدادي 2006 و1996 وأعلنته في تعداد العام 2012. ويعد الحصول على أرقام الدين في التعدادات السابقة عملا معقدا يتطلب الحصول على موافقة للدخول الى محتويات دار المحفوظات عن التعداد والاطلاع عليها.
5- محمد صالح، "ظهور سكان ما قبل الاستعمار في النور: رقمنة التعدادات المصرية في القرن التاسع عشر، الأساليب التاريخية" - مجلة التاريخ الكمي ومتعدد التخصصات، 2013.
6- أطلق الكاتب الأمريكي أبتون سنكلير مصطلح “ذوي الياقات البيضاء” على الموظفين الذين يمارسون أعمالاً مكتبية ويحتلون وظائف إدارية.
7- Saleh, M. ‘Public Mass Modern Education, Religion, and Human Capital in Twentieth-Century, Egypt Journal of Economic History; 2016, 697-735
8- خالد زيادة، "كاتب السلطان: حرفة الفقهاء والمثقفين"، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020.
9- المقياس يقيس الحالة الاجتماعية والاقتصادية من درجة إلى 12 درجة.
10- يذكر الكاتب القبطي سليمان شفيق في مقابلة على شاشة "الأقباط متحدون" أن من 70 أو 75 في المئة من إجمالي تعداد المسيحيين في مصر موجود بالصعيد، و25 في المئة موزعين في باقي مصر، منهم 4 بالمئة فقط في المحافظات الشمالية (الدلتا).
11- حسب بيانات الدخل والإنفاق لجهاز الإحصاء الرسمي للعام 2018، وتأتي محافظة أسيوط في صدارة أفقر المحافظات المصرية بنسبة 66.7 في المئة من سكانها، تليها محافظة سوهاج بنسبة 59.6 في المئة، ثم الأقصر بنسبة 55.3 في المئة، ثم المنيا بنسبة 54.7 في المئة، بينما صنفت محافظة قنا في العام 2017 كثالث أفقر محافظة بنسبة 57.8 في المئة من سكانها.
12- يرى بعض العلمانيين المسيحيين أن التقديرات الكنسية المعلن عنها مبالغ فيها وأنه ليس هناك حصر دقيق لدى الكنيسة الأم بعدد المسيحيين الحقيقي فعلياً.
13- أوصى البابا بتوزيع إيرادات كل كنيسة على النحو التالي: 30 في المئة لخدمة الرعاية الاجتماعية، و30 في المئة للإدارة والمرتبات و30 في المئة للمباني، و 10 في المئة للطوارئ.
14- جميع الأسماء مستعارة، نظراً لسرية البيانات وحفاظاً على خصوصية المتعاونين.
15- بطاقة تمنح للأسر الفقيرة لصرف منتجات غذائية تموينية مدعومة من الدولة بأسعار زهيدة.