لبنان ذاك لم يعد موجوداً

لماذا استقالة سعد الحريري تحصيل حاصل؟ لقد انحطت النخبة اليوم إلى الدرك الأسفل، وصار من السخف انتظار أي شيء منها، ومن السخف أكثر اعتبار أن استبدالها كأفراد هو الحل. وقد سبق ذلك عجز آبائها عن رؤية انسداد الأفق بعد 15 سنة من الحرب الأهلية المدمرة، تغيّر في أثنائها العالم والمنطقة، فكانت التسوية التي أخرجت لبنان من الحرب الأهلية ليست نضوجاً لرؤيا، وإنما مجرد إجراءات هشّة.
2022-01-27

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
ضياء العزاوي - العراق

لو جاءت استقالة سعد الحريري من الحياة السياسية في سياقٍ عام آخر، لأمكن التعامل معها بحدود ما تعنيه، من دلالة على خيار شخصي يمكن أن يكون متنوع الأسباب. وهي - ولِمَ لا؟ - يمكن أن تعني أن الرجل قد ضجر مثلاً من نمط حياة لا يرغب في الاستمرار به، وهي حالة نادرة تماماً وإجمالاً لدى السياسيين، وفي بلادنا بالأخص... ولكنها تبقى واردةً على الرغم من ذلك.

وقد يكون من السهل نسبياً تلمّس أسباب انكفاء سعد الحريري المباشرة: تخلّي السعودية العنيد والمتعدد عنه، وافتقاده للمصدر المالي الذي يمكن أن يغطي نشاطاته كلها، بل وما يبدو أنه غضبٌ من الرئيس الفرنسي عليه، وهو الذي أنقذه مرة من براثن محمد بن سلمان.. ثم – وهذا أيضاً بالغ الأهمية - شعوره بأن العلاقة "المسالمة" التي بناها مع الطرف الشيعي، برأسيه، لم تعد ممكنةً، أو أنها ليست على ما يرام، وأنه لم ينل ما كان يَفترض من جزاء له على الرغم من قبوله – بناءً أيضاً على نصائح دولية - بحكم المحكمة الدولية الخاصة بلبنان (1)، المكلفة بالتحقيق في اغتيال والده، الرئيس رفيق الحريري، ومن قضى معه في 14 شباط/ فبراير 2005.

وإنما يُنبئ قرار سعد الحريري بأشياءَ أخطر من هذا البعد الذي يبقى شخصياً على الرغم من كل شيء. فهو بالمحصلة يُخل بالتوزيع الطائفي للتمثيل السياسي كما رسا بعد أفول الشخصيات السنية التاريخية... ليس لأن الرجل يمتلك صفات استثنائية بأي حال، ولكن بسبب بؤس حضور سائر الطامحين إلى احتلال المكان الذي أخلاه.

مقالات ذات صلة

 فبقية الطوائف الكبرى في لبنان تمكنت منذ زمن، أو على الأقل أثناء الحرب الأهلية 1975- 1990، من تجديد تمثيلها السياسي من ضمن شروط نظام التمثيل والمحاصصة السائدين. بل إن الطائفتين الأُخريين، المارونية والشيعية، قد انتجتا تمثيلاً جديداً بالمعنى الاجتماعي/ الطبقي، وبالنظر إلى الأدوات المعتمَدة في اشتغالها. فهل ننسى أن حركة أمل هي وريثة ظاهرة يمكن، من شدة أهميتها وثقل دلالاتها، نعتها بأنها حالةٌ "موضوعية"، اقتلعت تماماً، وصفّت الإقطاع السياسي الشيعي التقليدي، وأنشأت "حركة المحرومين" التي أطلقها السيد موسى الصدر قبيل الحرب الأهلية في 1974، كمطالبة بتعديل توازن النظام السياسي الطائفي في لبنان (تحت مسمى إصلاحه) وكتمرد على تهميش فقراء الشيعة، وهم كانوا (وما زالوا إلى حد بعيد) الأغلبيةَ الساحقة من أبناء هذه الطائفة، ولكنه أيضاً مؤشر إلى ازدهار جرى في ديموغرافيتها كما في شروط حياتها، يتيح التمرد (فالمسحوقون تماماً لا يثورون (2))، والسعي لتعديل الموقع والمكانة. وينطبق الأمر نفسه على حزب الله، الذي أضاف إلى هذا المعنى بعداً سياسياً وجيواسترتيجياً يتعلق بالثورة الإسلامية في إيران، وحكم البلاد من قبل الخميني وصحبه، مع ما يعنيه ذلك من تغيّر مهول في المشهد العام للمنطقة.

كما حدث تطور مشابه في تمثيل الموارنة ولو بسياقات أقل راديكالية بكثير، وهو جاء كردة فعل على تهديدٍ للمكانة التقليدية والتاريخية، حفّزه وجود جيش المقاومة الفلسطينية في لبنان، مع ما عناه ذلك من اختلال في التركيبة المعروفة – والمأزومة بصورة دائمة على أي حال، والمرتهنة لأي تبدل في المنطقة. فظهرت مثلاً "القوات اللبنانية" من قلب الحزب السياسي الأكبر، "الكتائب" – وهو كان من الأصل يمثل تجاوزاً للزعامات المارونية التقليدية ومشيخاتها. و"القوات" ليست مجرد تشكيل ميليشياوي مسلح، بل هي بلورت خطاباً مثّل التجاوز الثاني لخطاب الكتائب نفسه، وضمت أيضاً فئات اجتماعية متواضعة الأصول ومن فقراء الموارنة، وصل بعضها إلى مراتب عليا في التنظيم... وقد كرس اتفاق الطائف في بعض جوانبه هذه التغييرات الاجتماعية والسياسية الكبرى، بينما بدا التغيير الأبرز في تمثيل الطائفة السنية، أي بروز رفيق الحريري كهندسة لتدبير سياسي خليجي – دولي، يعتمد على ترسيخ مكانة هذه الطائفة في مؤسسة "الدولة" اللبنانية.

حسناً، كل ذلك اندثر، بالاغتيالات والتصفيات وبالتردي العام والشامل أيضاً، وليس فحسب لأحوال "النخبة" اللبنانية (3) التي أدقعت اليوم بشكل يثير الاشمئزاز، تتلهى بخناقاتها التافهة وتنافساتها الإجرامية، غير آبهة بشيء، بل متنطحةً بوقاحة إلى المناصب (وتريد إجراء انتخابات عامة!)، ولا تبحث عن أي أفق لصيغة مخرجٍ ما من مأساة البلد، ولا يعنيها أن يموت الناس بالمعنى الحرفي من الافتقاد لكل شيء: الغذاء والدواء وسائر أساسيات الحياة كلها بلا استثناء.

هناك بالتأكيد أسباب تقف خلف هذا التردي المذهل. ومنها ما يتعلق بالأوضاع الدولية التي تشهد تفككاً للنظام العالمي المؤسَّس بعد الحرب الثانية، والذي صار يُطلق عليه "الفوضى العالمية" أو "اللانظام"، وكذلك وبالارتباط به، تبدلاً مخيفاً في ميكانيزمات الاقتصاد والسياسة وتعريفها ومفاهيمها على مستوى العالم. وينعكس كل هذا على الأوضاع الإقليمية في منطقتنا التي تعيش اضطرابات كبرى، وتبدلاً تاماً في كل ركائزها، وقد كانت الحرب المدمرة على العراق 1990 ثم في 2003 نذيرها ورمزها الجلي.

مقالات ذات صلة

وهناك أيضاً أن هذه النخبة التي انحطت اليوم إلى الدرك الأسفل، وصار من السخف انتظار أي شيء منها - ومن السخف أكثر اعتبار أن استبدالها كأفراد هو الحل، وأن "دماً جديداً" أو شباباً متحذلقاً يمكن أن يفيا بالغرض - سبقها عجز آبائها عن رؤية انسداد الأفق بعد 15 سنة من الحرب الأهلية المدمرة، تغير في أثنائها العالم والمنطقة، فكانت التسوية التي أخرجت لبنان من الحرب الأهلية ليست نضوجاً لرؤيا، وإنما مجرد إجراءات هشّة. وبدل الإدراك بأن لبنان القديم، القائم على التوسط المالي والتجاري و الكوميسيونات، والخدمات المتنوعة و العمل المصرفي والسياحة الخ.. لم يعد بصيغته تلك التي تأسس عليها وظيفيّاً بالنسبة للمنطقة، وبدلاً من البحث عن صيغة جديدة ممكنة، تماماً كما كانت صيغة "الميثاق الوطني" وتقاسم السلطة والثروة بناءً على نظام الطائفية السياسية، ممكنةً في وقتها ومرتبطةً بتلك الوظيفة، بدلاً من ذلك، جرى الإمعان في محاولة إحياء الجثة! كان يمكن إعادة تعريف لبنان الصغير بناءً على "موارد" لا يستخفُّ بها، ويمتلكها كتراكم معرفي عريق ومتين - في مهارات التعليم والعناية الصحية والسياحة، وهي عوالم ممتدة، تليها قطاعات أخرى أيضاً كالطباعة مثلاً والتصميم والإعلان الخ... إن لم نقل النشر الذي يواجه صداً وعراقيلَ بناء على الاهتزازات السياسية الجارية - ولكن لا! اختير "إعادة إعمار وسط البلد" بطريقة استفزازية ومنفصلة عن الواقع، ونُفِّذت مشاريع لا تقل هلاميةً واستنزافاً وفوقية، وبدأت السلطة تستدين من المصارف بناءً على هندسة إجرامية لا تفعل إلا زيادة التضخم وانكشاف المديونية. وصار النهب الممارس بلا مواراة هو القاعدة، إيذاناً بأن هذه النخبة لا تؤمن إلا بجيوبها.

وهناك الوجود المدجج بالسلاح لحزب الله الذي حل محل وجود المقاومة الفلسطينية. ولكن هذا المعطى الهام والمُخل بالطبع بكل التوازنات البديهية في البلد، لا يبرر تلك الاستقالة الجماعية عن البحث عن أفق ومخارج من انهيار الدور المألوف للبنان... بل لو طرح ذلك التصور التوافقي البديل وتبلور، لكان من الممكن لمضمون الصراع مع حزب الله أن يختلف تماماً عما طبعه كتناحرٍ طائفي على الحصص، أو كاستجابة للسياسة والموقف الأمريكيين، مع ما في ذلك من خدمة لإسرائيل!

ولذا فانسحاب سعد الحريري من الحياة السياسية ليس سوى.. تحصيل حاصل! 

______________

  1 - أُنشأت بقرار من مجلس الأمن في 2009، وأصدرت حكمها في 18 آب/اغسطس 2020 والقاضي بأنه لا دليل ملموس على تورط قيادة حزب الله أو سوريا بالاغتيال، مكتفيةً بإدانة فرد واحد غيابياً، على الرغم من إشارتها إلى أنه ينتمي لحزب الله. وقد صدر الحكم بعد 15 سنة من الاغتيال، وبعد أسبوعين على انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس 2020، وبعد ما يقرب من سنتين من الانهيار الاقتصادي الشامل في البلاد، فامتصت كل تلك العوامل أي ردة فعل محتملة عليه، إذ كنا قد أصبحنا في وادٍ آخر!
 2  - تقول روزا لوكسمبورغ في نص قصير لامع نشر بالإنجليزية والفرنسية بعنوان "في حرية أن تكون حراً" إنه "لا يوجد بتاتاً ثورة، مهما فتحت أبوابها للجماهير والبائسين – التعساء، البؤساء، معذبي الأرض – قد أُطلقت من قبل هؤلاء".
 3  - يكفي أن يُنظر إلى تقرير البنك الدولي الأخير الخاص بلبنان، وهو صادر عن مؤسسة لا يمكن أن يقال فيها أنها رؤوفة، كما أن مقاييسها إشكالية، وعلى الرغم من ذلك، يقول تقريرها إن هذه النخبة تتعمد دفع البلد إلى الهاوية لتوفر لنفسها أعلى المكاسب المالية المباشرة من خلال الاستيلاء على السلطة، وأنها لم تفعل سوى التخطيط للاستحواذ على ما يمكن الاستيلاء عليه من إيرادات البلد ومؤسساته. هنا تتجسد مسألة الارتباط الوثيق بين السلطة والثروة المعهود في منطقتنا، وإنما بطريقة بدائية ومبتذلة. ولا يقول التقرير عن النخبة السياسية اللبنانية إنها عصابة مافياوية، ولكن التوصيف الذي يقدمه يطابق تماماً هذه التسمية.
هنا رابط بالبيان الصحافي للتقرير بالعربية: https://bit.ly/3H8pkNI
والنص كاملاً بالإنجليزية: https://bit.ly/33P3FvH

مقالات من لبنان

كلنا مستهدفون، كلنا HVT

خوف الناس من وحشية آلة الحرب الإسرائيلية قد تحوّل إلى خوف من بعضهم البعض. وصار هاجسهم ألا يكون الشخص الذي يقف إلى جانبهم، أو ذاك الذي يقود السيارة التي تسير...

للكاتب نفسه

كنيساً يهودياً في باحة "الأقصى"

تتجسد معاني "خروج الحسين"، لمواجهة الطغيان، هو وأهله وكل من يخصه - مع معرفتهم المؤكدة بما يقال له اليوم في اللغة السياسية الحديثة "اختلال موازين القوى" لغير صالحه - في...