على الرّغم من الأوضاع الأمنيّة المتردّية في ليبيا، والانقسامات العنيفة والتي قد تكون مهدِّدة لوحدة البلاد، إلا أن وجود نية للإعلان عن دستور جديد للبلاد يحفز العديد من الهيئات المدنية على الاستعداد له، لو تحقق. وفي هذا الإطار نظّم "منبر المرأة اللّيبيّة من أجل السّلام" ندوة بعنوان "حقوق المرأة في الدستور، بين الشريعة والمعاهدات الدّوليّة" عُقدت في القاهرة بتاريخ 11-12 تشرين الثّاني 2014، وأفرج مؤخرا عن وثائقها.
هل يُختزل الاسلام بالنواهي؟
تحدّث في النّدوة الدّكتور حميد خان، الباحث في الدّراسات الإسلاميّة والقانون المقارن، مؤكّداً على أهمية تضافر جهود وتفكير الناشطين الحقوقييّن من جهة والقانونيين والدستوريين من جهة ثانية، والقادة الدّينيين من جهة ثالثة، من أجل الدفع بأجندة حقوق المرأة الدستورية في إطار صناعة الدساتير لما بعد النزاعات المسلحة. من جهتها عرّجت الأستاذة الزّهراء لنقي، الباحثة في الدّراسات الإسلاميّة، على مسألة التجاذب والاستقطاب بين المعاهدات الدّوليّة والشريعة الإسلاميّة عندما يتعلّق الأمر بحقوق المرأة، مؤكّدة عدم صوابيّة اختزال الإسلام في الأوامر والنّواهي، ومشدّدة على أهمّيّة فهم الشريعة من خلال اعتماد منهجٍ منضبط يرتكز على التّفاعل مع الزّمان والمكان. كما تطرّقت لنقي إلى مسألة دسترة الشريعة معتبرةً أنّ تبني الحركات الإسلاميّة موقفاً قيميّاً واحداً لا سبيل للجمع بينه وبين موقف قيمي آخر، أدّى إلى التّضييق على النّساء. وخَلُصت إلى وجوب اتّخاذ تدابير محدّدة لجعل علاقة المواثيق الدّوليّة بالشريعة أكثر صحّيّة، واقترحت التالي: وضع سلّم أولويّات واقعي و"مؤشّر معاناة" سديد استلهاماً للقاعدة الفقهية الّتي تقول إنّ درأ المفاسد أولى من جلب المصالح، والابتعاد عن الجدل الديماغوجي وتغليب الهدوء والرّصانة، واتّخاذ خطوات عمليّة وآليّات مجرّبة لتحسين وضع المرأة، والتّخلّي عن النّظرة النّفعيّة للشريعة التي يتم تبنيها من قِبَل كل من أصحاب النزعة المؤدلِجة للدين من جهة وأصحاب التحيّزات ضد الشريعة من جهة أخرى.
اعلانات وتمكين.. وسيداو
أمّا عميد الدّراسات العليا بكليّة أصول الدّين في الأزهر، الأستاذ سالم أبو عاصي، فقد تطرّق لمسألة مساواة القرآن بين الرّجل والمرأة في كلّيّات الحقوق الثّلاث (الحياة والأهليّة والحرّيّة). وجاءت مداخلة الأستاذة كوثر الخولي، رئيسة"مركز نون لقضايا المرأة والأسر"، لتتمحور حول "إعلان الإسكندرية لحقوق المرأة" (وثيقة الأزهر) الّذي صدر في شهر آذار 2014 ليكون "أوّل مبادرة إسلاميّة جماعية لمواجهة القضايا الملحّة للمرأة انطلاقا من مرجعية إسلامية، وإعلان استقلال للحركة الحقوقية للمرأة المسلمة عن الحلول الآتية من الغرب من جهة وعن الحلول الاستضعافية المنحازة ضدّها من الداخل من جهة أخرى". وقد تبنّى الإعلان مفهوم تمكين النساء من منظور إسلامي، وأكّد أنّ وضع المرأة في الإسلام يتأسس على المساواة مع الرجل سواء في مكانتها الإنسانية أو من حيث عضويتها في الأمة والمجتمع.
وعرضت الدكتورة آمال العبيدي ورقة مشتركة بينها وبين الأستاذة ريم بركات عن سياسات تمكين المرأة في ليبيا ومدى تطابق تشريعات العمل الوطنية الخاصة بالمرأة مع الاتفاقيات الدولية، خاصة اتفاقية القضاء على جميع أشكال التّمييز ضدّ المرأة (السيداو) الّتي وقّعت عليها ليبيا عام 1989، مع التحفّظ على مسألة قوانين الأحوال الشّخصيّة (حُدّد هذا التّحفّظ عام 1995 بأحكام المواريث). وختمت العبيدي وبركات ورقتهما بالتّأكيد على أن التوقيع على اتفاقيّة "السيداو" يعدّ في حدّ ذاته، وبرغم التحفّظات، تحديثاً هامّاً وقبولاً بمبدأ كونيّة القانون الدّولي، كما أكّدت الورقة على أهمّية التركيز على دور المجتمع المدني في الدّفاع عن حقوق المرأة وإلغاء جميع أشكال التّمييز ضدّها من خلال القيام بدور المراقِب، مع تقديم تقارير الظل للجنة السيداو التي تسبق الاجتماعات الدورية الشّاملة. وأشارت الورقة إلى أنّ بعض التّشريعات الوطنيّة السّائدة تتوافق مع اتّفاقيّة السيداو، كتشريعات العمل الّتي تسعى إلى المساواة بين الرّجل والمرأة في ميادين العمل المختلفة بما فيها القضاء والسّياسة. وبرغم ذلك خلصت الورقة إلى أنّ هناك حاجة ماسّة إلى مراجعة كلّ التشريعات ذات العلاقة بحقوق المرأة. وفي الصّدد نفسه تحدّثت المحامية آمال بوقعيقص، عضو "منظّمة محامون من أجل العدالة"، باستفاضة عن انعكاسات اتفاقيتيّ (السيداو) واتفاقية (حظر جميع أنواع العنف ضدّ المرأة) على التشريعات اللّيبيّة مبرزة ومشيرة الى أنّ قانون العقوبات اللّيبي يناهض العنف ضدّ المرأة حيث أنّ عقوبة الاغتصاب تصل إلى السّجن عشر سنوات وعقوبة هتك العرض تصل إلى خمس سنوات، كما أنّ هناك قوانين رادعة للعنف الأسريّ. وأشارت بوقعيقص إلى أنّ المرأة اللّيبيّة دخلت الهيئات القضائيّة عام 1981 متقدّمة بذلك على كثير من النّساء العربيّات، وتحدّثت عن تجربتها الشّخصيّة في العمل داخل المحاكم اللّيبيّة وفي النّضال قبل "ثورة 17 شباط" وبعدها من أجل إدخال تعديلات على قوانين الأحوال الشّخصيّة، خاصّة تلك المتعلّقة بحقّ طلب الخلع عندما يُقْدم الرّجل على الزّواج من امرأة ثانية.
التناقضات في الوعي العام
الدّكتور نجيب الحصادي، أستاذ الفلسفة ومستشار "هيئة الحوار الوطني" الليبية، قارب موضوع الحقوق الدّستوريّة للمرأة من منظار الوعي المجتمعي، الّذي صنّفه إلى وعي حقيقيّ، ووعي زائف يؤدّي إلى اتّخاذ مواقف سلبيّة من حقوق المرأة. وعرض الدّكتور ــ متّكئاً على نتائج بعض الاستطلاعات ــ احتمالات دسترة مواقف الليبيين من هذه الحقوق، ثم حاول تفسير التضارب البادي بين هذه المواقف ( في شباط 2014 أظهرت نتائج أحد استطلاعات الرّأي أنّ 68.7 في المئة من اللّيبيّين يرون أنّه في حالة ندرة الوظائف يجب أن تعطى الأولوية للذكور على حساب الإناث، بينما وفي استطلاع رأيٍ أجري في شهر حزيران من العام نفسه أقرّ 76.1 في المئة بحقّ المساواة في فرص العمل). وقد فسّر الحصادي هذا التّضارب في أنّ المستطلَعين ينحون إلى إعطاء أجوبة مثاليّة لا تعكس بالضّرورة ميولهم الحقيقيّة، وإلى أنّ العامل الدّيني يلعب دوره أيضاً، قاصداً بالعامل الدّينيّ تفسير النّاس للنصوص الدّينيّة الّذي يتسبب بالكثير من التناقضات. كذلك تطرّق الدّكتور نجيب إلى مسألة تشكيك اللّيبيّين في قدرة النّساء على تحمّل الأعباء القياديّة، وأرجعه إلى خصوصيات الثقافة العربية المحافظة الّتي رأى أنّ من الواجب فهم منظومتها القيمية القديمة كخطوة أساسية لتغييرها والنهوض بالمجتمع اللّيبي.
خلاصات
وفي نهاية النّدوة، قدّم المشاركون "وثيقة الحقوق الدّستورية للمرأة الليبية" لتوضع في رسم القائمين على صياغة الدستور. وتحث الوثيقة على صيانة حقوق المرأة المدنية (المواطنة والمساواة والحق في الأمن والسّلم والزواج وتكوين الأسرة)، وحقوقها الاجتماعية والثقافية والاجتماعية (التعليم والضمان الاجتماعي والعمل بأجر عادل والملكية والميراث)، وحقوقها السّياسيّة الّتي أوصت الوثيقة لصونها بإنشاء هيئة تسمّى "المجلس الأعلى للمرأة".