تبدأ مقطوعة "مالكش ديّة" للموسيقي المصري موريس لوقا من دون مقدّمات تطفو على مستنقعات عاطفيّة، وتضجّ مباشرة بأصوات مضخّمة للمزمار والأورغ والطبول على أنواعها، لينقضّ على المقطوعة صوت "علاء فيفتي"، بعد 17 ثانية فقط، كأنّه حمولة زائدة، لكنّها ضروريّة للاستمرار، باثّاً رسائل على شكل جملٍ قصيرة غير مترابطة، لا تروي قصّة بقدر ما تحاول حماية الإيقاع من الانهيار: "الدنيا غابة، وغلّابة. في الحتّة ديّا، مالكش ديّة. ضربة قويّة، هتروح ضحيّة. دمّك ساح، مفيش سلاح".
يمثّل لوقا، الذي أصدر أسطوانته "بنحيّي البغبغان" العام الماضي على موقع "معازف"، جيل موسيقيين عرب يبدو أنّهم قرّروا، في لحظة واحدة، العبَث بالنوستالجيا المقدّسة، والانغماس، بدلاً من ذلك، في أدوار جماليّة مقترحة من تفاصيل يوميّة تتجلّى في ذلك الإحساس بأن كل شيء سينهار فجأة. لكن مع الوعي بأنّه ليس ثمّة طريقة لمنع ذلك إلا بالتخلّي عن امتياز تقليد الواقع والتفكير بأنّهم جزء منه. لذلك، يمكن التفكير في هؤلاء الموسيقيين على أنّهم يطفون في بحيرة باردة، لا تظهر منهم إلا رؤوسهم وهم يحاولون التنفّس.
بدأت "معازف" في نهايات العام 2012، من هذه الحاجة إلى الارتباط بالواقع، الأمر الذي فرضته بدايات الثورات العربيّة. فبعد ثلاث سنوات من استعمال امتيازات التفكير والتحضير لإنشاء الموقع، تكثّفت تلك اللحظة على الأرض كصدام بين ما يجب أن يحدث، وما حدث فعلاً. فإذا كنّا نتكلّم عن "لحظة ثوريّة"، فهذه اللحظة تمثّلت في القبض على المسافة النقديّة بين كل ما تمثّله الثورات، وكل ما تمثّله السلطة والاضطهاد والأبويّة الدينيّة. من هنا جاء الاسم الذي يشير إلى الموسيقى كإثم. ومن ثم النّظر إليه كما يُنظر إلى الموروث الثقافي العربيّ، على أنّه آتٍ من منطقة مقدّسة وغيبيّة ترفض النّقد والمساءلة العقلانيّة.
بدأنا كمراقبين نشاهد كيف نزل النّاس إلى الشّوارع ليغنّوا: "زيّنوا المرجة" بدلاً من "غداً يومٌ أفضل". ونلاحظ في هذا السياق كيف أن استعادة الشيخ إمام في ميدان التحرير أهم من الشيخ إمام بذاته. وكيف تستعاد الأهازيج الشعبيّة من قصور الثقافة الرسميّة. هكذا أدركنا أن استعادة التاريخ وتوثيقه ربما يكونان أهم من التاريخ نفسه. خاصّة عندما تقوم التحالفات المعقّدة بالاستيلاء على التقبّل الشّعبي للموسيقى غير المفتعلة، من خلال إيهام المتلقّين بما يجب سماعه، ومن ثمّ: الاستيلاء على التاريخ.
هذه "اللحظة" كانت حاسمة أيضاً في التواصل مع الكتّاب والصحافيين والباحثين العرب، سواء أكانوا مختصّين بالموسيقى العربيّة أو مهتمّين بها. هكذا توسّعت شبكة "معازف" لتصل بين كتّاب من فلسطين وسوريا ومصر والعراق واليمن والسعوديّة والأردن ولبنان والجزائر والسودان وغيرها.. وذلك في القبض على "اللحظة" من خلال التعامل مع الإنتاجات الموسيقيّة العربيّة الجديدة التي انفجرت إبّان الثورات العربيّة، والتي أثبتت الصحافة التقليديّة والقنوات الإعلاميّة السائدة قصورها عن التعامل معها.
نعيش اليوم عصراً مختلفاً يضغط بعبئه على الجميع بمستويات متعدّدة. إذ يشعر الكثيرون بأنّنا في هذا المكان وهذا العصر "مالناش ديّة".
"معازف" تشبه صوت "علاء فيفتي": تحاول أن تقبض على اللحظة المكتظّة، تبدو كأنّها حمولة زائدة تعبث بالنوستالجيا والمقدّس، لكنها ضروريّة في محاولة حمايتها للإيقاع كسياق تاريخيّ. الموسيقى، فعلاً، دمويّة وحاسمة ضد المطلق وضد السّلطة. وشوارعيّة: خريجة كباريهات ومعازف محرّمة.
* معازف مجلة متخصصة بنشر المقالات والدراسات حول الموسيقى العربيّة. أسّسها ويحرّرها ويدير محتواها معن أبو طالب وأحمد الزعتري بالتعاون مع "إيقاع".
www.ma3azef.com
من ملف "سنة رابعة ثورة"