"اليوم الميليشيات أقوى من الأمن، أقوى من الدولة.. ترى بس العَلَم موجود، العلم العراقي.. اليوم الميليشيات أعلى سلطة، ويمتلكون قوة السلاح.. يمتلكون ألوية تابعة للحشد الشعبي". هذه هي النتيجة التي توصل لها جاسب حطاب بعد مدةٍ تقارب العام ونصف العام قضاها بالسعي وراء معرفة مصير ابنه الناشط والمحامي العراقي المختطف علي جاسب، في مدينة العمارة (320 كم جنوب شرق بغداد). تحوّل أبو علي في هذه المدّة من شاعرٍ شعبي إلى ناشطٍ وأيقونةٍ لذوي المختطفين والمغيبين قسراً والمُغتالين في البلاد.
ظهر أبو علي في مختلف القنوات التلفزيونية، وطرق جميع الأبواب الممكنة، الرسمية منها وغير الرسمية، وكان ينقل للمنصات الإعلامية كل خيطٍ جديد توصل إليه، مطالباً على الدوام بأيّ معلومة تخصّ ابنه، وإن كانت موضع القبر وفق تعبيره.
قبل اختطافه، كان المحامي الابن علي جاسب حقوقياً متطوعاً للدفاع عن المعتقلين من المتظاهرين لدى السلطات العراقية، وشارك بنفسه بالتظاهرات التي خرجت في تشرين الأول/ اكتوبر 2019، وهي الأسباب التي كان أبو علي يقول إنها وراء اختطاف ابنه. سعى الوالد في رحلةِ بحثٍ دؤوبة لمعرفة الجهة التي اختطفت ابنه، وصرّح لعدّة جهات إعلامية عن توصله لكون جماعة "أنصار الله الأوفياء" هي المسؤولة، مضيفاً أن حياته نفسها صارت في خطر.
حراك الأمهات والدولة المنهارة في العراق
06-07-2021
يتزعم حيدر الغراوي ميليشيا "أنصار الله الأوفياء"، وهي إحدى تشكيلات ميليشيات "الحشد الشعبي" الموالية لإيران، والتي تأسست في 2014 بعد فتوى من المرجع الشيعي العراقي آية الله علي السيستاني بهدف محاربة داعش، ومن ثم صارت تشكيلاً أمنياً رسمياً يخضع لإمرة القائد العام للقوات المسلحة العراقية بموجب قانونٍ أقره البرلمان العراقي عام 2016.
التقى جاسب رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في أيلول/ سبتمبر 2020 وسلمه ملف ابنه وأسماء المتهمين، وما توصل إليه حتى تلك اللحظة. وأتبع ذلك لاحقاً بمتابعة تحريك الرأي العام، حتى إنه لجأ إلى مناشدة البابا فرانسيس عند زيارته للعراق للنظر في قضية ابنه.
في 10 آذار/ مارس 2021، اُغتيل الوالد أبو علي على يد شخصين مسلحين يستقلان دراجةً نارية في منطقة المعارض التابعة لمدينة العمارة، منهيين بذلك أيقونة عراقيةٍ استثنائية، ليظل وراءه قضيّةٌ مُعلّقة، وابنٌ مُختطفٌ لا خبر عنه حتى الآن، وعائلتان مفجوعتان.
كان آخر ما فعله الوالد قبل سويعات من اغتياله، المشاركة في مراسم الذكرى السنوية لمقتل الناشط في التظاهرات عبد القدوس قاسم، الذي قُتل بعد فترة من اختطاف علي جاسب على يد مسلّحين مجهولين أيضاً.
جرى اغتيال الناشط والفنان عبد القدوس قاسم والمحامي كرار عادل، الناشط في مظاهرات محافظة ميسان في واقعةٍ واحدة على مقربةٍ من المنطقة الصناعية في مدينة العمارة. وتداول العراقيون بعد مقتلهما صوراً ومحادثات تبين صداقتهما مع مُغتالين آخرين مثل الناشط المدني والكاتب أمجد الدهامات (اغتيل في 6 تشرين الثاني /نوفمبر 2019 برصاص سلاح كاتم للصوت) والناشط وأيقونة الحراك الاحتجاجي صفاء السراي (قُتل على يد قوات الأمن العراقية في 29 تشرين الأول /اكتوبر 2019 قرب ساحة التحرير في العاصمة بغداد).
هكذا تبدو عيّنة من المشهد العراقي الحالي، حيث يُغتال والد ناشطٍ مختطفٍ، وهو عائدٌ من عزاءٍ لناشطين مُغتالين أصدقاء لنشطاء مُغتالين آخرين. تختلف وقائع الاغتيالات وأزمنتها ومواقعها، لكن ما يجمع الأسماء السابقة هو نشاطها المدنيّ، ومجاهرتها بمعارضة الوضع السائد في العراق، وتحكّم الميليشيات بالمشهد الأمني.
منذ الاحتجاجات الشعبية التي خلفت وراءها 565 من القتلى وفقاً لإحصائيات الحكومة العراقية والآلاف من الجرحى، لم تتوقف عمليات الاغتيال والاستهداف المباشر للناشطين والمنتقدين في أنحاء البلاد، وهو ما دفع بالعديد إلى الفرار من العراق، أو اللجوء إلى كردستان العراق التي تتمتع بحكم ذاتي في شمال البلاد. إلا إنه لا يوجد أرقام رسمية حتى الآن في هذا المجال.
ما يجمع بين المغتالين والمخفيين هو نشاطهم المدنيّ، ومجاهرتهم بمعارضة الوضع السائد في العراق، وتحكّم الميليشيات بالمشهد الأمني منذ الاحتجاجات الشعبية التي خلفت وراءها 565 من القتلى وفقاً لإحصائيات الحكومة العراقية والآلاف من الجرحى. لم تتوقف عمليات الاغتيال والاستهداف المباشر للناشطين والمنتقدين في أنحاء البلاد، وهو ما دفع بالعديد إلى الفرار من العراق.
وكانت بعثة الأمم المتحدة في العراق ("يونامي") قد وثّقت 48 محاولة أو حادثة اغتيال لمحتجين أو منتقدين خلال المدة من 1 تشرين الأول/أكتوبر 2019، ولغاية 15 أيار/ مايو 2021، وهي "في الغالب حوادث إطلاق نار يقوم بها "عناصر مسلحة مجهولة الهوية" وفقاً لتقرير البعثة المعنيّ بتطورات التظاهرات في العراق والمنشور في شهر أيار/ مايو 2021.
وتقول البعثة أن هذه المحاولات أسفرت عن وفاة ما لا يقلّ عن 32 شخصاً وإصابة 21 آخرين، مضيفةً أنه "وعلى الرغم من القيام بالعديد من عمليات إلقاء القبض فيما يخص الاغتيالات، لكن لا يبدو أن أية قضية منهم قد تجاوزت المرحلة التحقيقية". ذلك بالإضافة إلى بقاء ما لا يقل عن 20 ممن اختطفتهم "عناصر مسلحة مجهولة الهوية" في عداد المفقودين، في غياب أيّ جهد واضح لمعرفة مكانهم وإطلاق سراحهم أو الإقرار بمصيرهم.
وكانت مفوضية حقوق الإنسان العراقية قد أعلنت في آخر كانون الثاني/ يناير 2020 – أي خلال أربعة أشهر من الاحتجاجات فقط - عن توثيقها لـ"72 حالة ومحاولة اختطاف طالت متظاهرين وناشطين ومدونين، منذ اليوم الأول للتظاهرات" وذلك وفقاً لما أورده عضو المفوضية فاضل الغراوي في البيان المعني.
قتلةٌ طلقاء
مع اقتراب السنة الثالثة على اختطافه، بالكاد يستطيع أبو عباس الهليجي – أخ الوالد المغدور به - أن يحدثنا عن آخر مجريات ملف اختفاء ابن أخيه علي جاسب: "قضية علي حسرة كبيرة، لأن دمعة أبي علي لم تنشف إلى يوم موته. لا أقدر الإكمال عندما يصل الأمر لقضية علي، لا جواب لدي، الجواب لدى الكاظمي. تتم السنة الثالثة على اختطاف علي في يوم 10/8، ومصيره مجهول"، مناشداً وزير الداخلية فتح ملف عليّ وإيجاد المسؤولين عن اختطافه.
وعلى صعيد ملف اغتيال الوالد، حملت عائلة جاسب على عاتقها مهمة السعي وراء تحقيق العدالة وإيجاد المسؤولين بالرغم من معرفتهم بنوعية الخطر الذي يتهددهم في بلدٍ "القتلة طلقاء يتجولون بحريّة فيه" وفقاً لوصف أبي عباس.
في 10 آذار/ مارس 2021، اُغتيل الوالد أبو علي على يد شخصين مسلحين يستقلان دراجة نارية في منطقة المعارض التابعة لمدينة العمارة، منهيين بذلك أيقونة عراقيةٍ استثنائية، لتظل وراءه قضيّةٌ مُعلّقة، وابنٌ مُختطف لا خبر عنه حتى الآن، وعائلتان مفجوعتان..
كشف لنا أبو عباس عن آخر مجريات القضية، قائلاً إن السلطات الأمنية ألقت القبض على متّهمٍ أول أدلى باعترافاته بتنفيذ العملية وإطلاق النار بنفسه، مضيفاً أن العائلة توصلت ببحثها ومتابعة الكاميرات وشهود عيان، بما في ذلك ابن جاسب نفسه الذي كان مع والده عند اغتياله، إلى أنه كانت هنالك دراجة نارية صعد بها المتهم الأول بعد إطلاقه النار.
وقال أبو عباس أن العائلة رفعت دعوى قضائية على ثلاثة أسماء لها صلة مشبوهة بالمتهم الأول منذ وقت الحادث: "ظللنا نبحث حتى وصل بنا الأمر بجهدنا الذاتي إلى تحديد أماكنهم، وبلغّنا مركز الشرطة ونفذوا عملية القبض عليهم، وهو ما يترادف مع بيان صادر عن شرطة ميسان في 24/7/2021 أكدت فيه إلقاءها القبض على "اثنين من المتهمين في قتل المجني عليه أبي أحمد الهليجي. وذلك بعد تقديم شكوى بحقهما من قبل المدعين بالحق الشخصي واتهامهما بضلوعهما بعملية القتل واشتراكهما مع القاتل الموقوف بتهمة القتل العمد منذ تنفيذه للجريمة".
شرح لنا أبو عباس كيف أصبحت العائلة الآن تتلقى التهديدات بالقتل والمضايقات من "المتهمين الباقين" وكذلك من ذوي المتهمين الذين أُلقي القبض عليهم سابقاً، مضيفاً: "وصل الحال بنا لفترةٍ أصبح فيها المتهمون طلقاءَ، ويرسلون لنا تهديدات مباشرة بالقتل عبر البعض، وكذلك الشتائم والمضايقات المستمرة"، ومتسائلاً عن جهود الدولة تجاه حماية العائلة من هذه التهديدات.
وفقاً لتقرير بعثة الأمم المتحدة في العراق، تُعتبر قضية اغتيال جاسب حطاب من القضايا القليلة التي وصلت إلى مرحلة المحاكمة. تقول البعثة إن "استجابة السلطات العراقية للجرائم التي ارتكبتها قوات الأمن العراقية والعناصر المسلحة المجهولة الهوية في الفترة الممتدة من تشرين الأول/ أكتوبر 2019، حتى أيار/ مايو 2021، اقتصرت بشكل كبير على بيانات شجب وتشكيل هيئات ولجان تحقيقية دون تحقيق نتائج واضحة".
وتتحدث البعثة عن "بيئة الخوف والترهيب" التي تواجه الضحايا وذويهم والمحامين الذين قد يقدّمون المشورة القضائية لهم، وحالة الإفلات من العقاب التي تعمّ البلد و"تكرّس بيئة مؤاتية لتكرار تلك الجرائم".
وتؤكد البعثة في نهاية التقرير أن "الهجمات ضد المتظاهرين والمنتقدين لم تحدث بشكل عشوائي، وفي كثير من الحالات يتمثل الهدف بشكل واضح وهو إسكات الأصوات المنتقدة والمتذمرة"، مضيفةً أن الغياب المستمر للمساءلة يثير القلق الشديد من أن "البيئة السياسية والأمنية قد تكون هي التي تعيق السعي لمحاسبة الجناة وإنصاف الضحايا"، فضلاً عن "استمرار مناخ الخوف والترهيب الذي يفاقم نتيجة تصور الناس بأن مثل هذه الجهات يمكنها ارتكاب أفعالها والإفلات دون عقاب واضمحلال المجال المتاح للنقد والتعبير النقدي".
بلد الموت المجاني
خوفاً من أن يلقيا المصير ذاته، وجد الناشطان مبين الخشاني (23 عاماً) وباقر ماجد (25 عاماً) نفسيهما مضطرين لأن يتخذا قرار ترك العراق والهجرة إلى تركيا باعتبارها الخيار المتاح الأقرب للنجاة. قابلنا الخشاني وماجد في بيتهما الجديد الذي جمعهما في مدينة إسطنبول بعد أن نجحا في الوصول إليها لبدء حياةٍ جديدة، بعيداً عن "بلد الموت المجاني" كما يسمّيه مبين، وكان نشاطهما وتعبيرهما عن الرأي هو سبب اضطرارهما لهذه الخيار.
كان لمبين الخشاني نشاطات كتابية وتدوينيّة ترافقت بنشاطات ميدانية مع بدء "احتجاجات تشرين"، ومن ذلك اشتراكه في تأسيس مجلة "مسقى" المعنيّة بالشعر العراقي، ولا سيما الشعر الشبابي، ومساهمته في توزيع صحيفة "تكتك" الناطقة بيوميات المحتجين في ساحة التحرير والتي أتت بمثابة ردة فعل عن قطع الحكومة لخدمات الإنترنت آنذاك، وانخفاض تغطية أخبار الاحتجاجات عن الإعلام.
تحدث لنا الخشاني عن تلقيه عدة تهديدات وتحذيرات في فترة وجوده في العراق بسبب آراء عبّر عنها أو نشاطات ميدانية ساهم بها، ومن أول ما يستذكره: "خلال احتجاجات 2018 في البصرة، كنت قد كتبتُ منشوراً على صفحتي في الفيسبوك انتقد فيه القمع الذي مارسته قوى الأمن ضد المحتجين. شارك الكثير من رواد المواقع منشوري ووصل لعدد كبير من الناس، بعدها بساعات أبلغني أخي بأنه يجب أن أمسح المنشور لأن هناك من حذّره منه، وأن مثل هذه المنشورات تهدد عائلتنا بالخطر".
ينتقل الخشاني تالياً إلى يوم 27 تشرين الأول 2019 وعند بوابة جامعة واسط، حيث يستذكر: "كان المطر غزيراً وليس لدي سوى علم عراقي صغير. بقيتُ واقفاً أمام باب الجامعة حتى حضرت باصات نقل الطلاب. أخبرتهم أن هناك مسيرة طلابية ستنطلق فترجّل البعض منهم ووقفوا معي، ومن ثم حضر بعض أساتذتي في الكلية وانضم آخرون حتى صار العدد كبيراً. وضعنا العلم العراقي على بوابة الجامعة ونظمنا المسيرة منطلقين حتى ساحة الاحتجاجات".
يوضح الخشاني أن تلك المسيرة كانت سبباً آخراً في وقوعه تحت دائرة الضوء بنظر إحدى الميليشيات: "بعد انتهاء المسيرة رجعتُ إلى البيت مساءً فوجدت رسالة من صديق يخبرني أن هناك كروب في واتساب لأتباع إحدى الجماعات المسلحة قد نشروا صورتي عند بوابة الجامعة، وكتبوا عليها إني شخص مأجور، وإني لست حتى طالباً في الجامعة وأني قد حرضت الطلاب على الإضراب".
يقول ماجد إن شعور التهديد كان ملازماً له في العراق، وأنه حاول مقاومة هذا الشعور من خلال الأنشطة الثقافية والفنية التي يبرع بها، لكن التهديدات المباشرة تسببت في اتخاذه قرار الخروج: "عندما تلقيت أول تهديد مكتوب ومن جهةٍ معروفة ومتنفذة قررتُ السفر".
كانت أول رسالة تهديد مباشرة يتلقاها الخشاني في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، حين عاد لفترة قصيرة إلى بيته في النعمانية (جنوب شرق بغداد): "صورت خلال تلك الأيام حركة الاحتجاجات في مدينتيّ الكوت والنعمانية، ووصلتني حينها رسالة تهديد مباشرة، وصلت إلى بيتي عن طريق حجارة مربوط بها ظرف. فتحت الظرف ووجدت رسالة التهديد، لكني لم أعرها في ذلك الوقت أي اهتمام واستمريت في نشاطاتي الاحتجاجية".
وبالإضافة إلى ما سبق، تحدث الخشاني عن تنظيمه مع أصدقائه من اتحاد طلبة العراق مسيرة طلابية في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، وعن تعرضه هناك لتهديد من جماعة تابعة لجهة سياسية كانت تحاول فرض أجندتها على المسيرة: "حاصرني أكثر من عشرة أشخاص منهم في خيمة صغيرة بالقرب من نصب الحرية، وهددوني أمام الجميع بأنهم إذا رؤوني هنا ثانية سيكسرون ظهري وأخبروني بأني مخرب. بقيتُ صامتاً وبجانبي صديقتي، تدخّل أحد المتظاهرين، وحاول أن يخلصني منهم لكنهم دفعوه وضربوه وطردوه من الساحة. كان أكثر من شخص من الجماعة المهاجمة يحاول ضربي وسحبي من ياقتي أيضاً، لكن البعض كان يمنعهم من ذلك. أخبروني بأني يجب أن أعود إلى بيتنا حالاً وأني ممنوع من الحضور إلى ساحة التحرير".
قرر الخشاني ترك العراق بعد تعرضه لسلسلة من التهديدات وتعرض العديد من أصدقائه للقتل، وبسبب ظروف جائحة كوفيد 19 التي أثرت على حركة السفر الدولية وصعوبات الهجرة نفسها، فقد احتاج وقتاً لتنفيذ قراره وهو وقت يتذكّر مدى حساسيته وارتفاع الشعور بالتهديد فيه: "الفترة الأخيرة كانت صعبة وتقيدت حركتي في العراق كثيراً، خصوصاً مع تنفيذ عدد من الفصائل المسلحة عمليات اغتيال كثيرة للناشطين. صار تواجدي صعباً في العراق. كنتُ أخاف من المارّة، أخاف من الدراجات النارية، أخاف من السيارات التي تصفّ بقربي، أخاف من الاتصالات، وكذلك لم أستطع الكتابة إلا تحت اسمٍ مستعار".
ويصنف العراق ضمن أخطر الدول على العاملين في الصحافة، إذ سُجل 286 حالة انتهاك ضد الصحفيين في الفترة الممتدة ما بين أيار/ مايو 2020، وحتى أيار/ مايو 2021 وفقاً لدراسةٍ أعدتها جمعية "الدفاع عن حرية الصحافة في العراق"، وهي منظمة غير حكومية تتخذ من العراق مقراً لها. وتتوزع الانتهاكات "ما بين تهديد وملاحقة الصحافيين، واحتجاز واعتقال، ودعاوى كيدية، واعتداء بالضرب، ومنع تغطيات، وإغلاق وسائل اعلام، وتسريح عاملين".
بدورِه، تعرّض الناشط والفنان الشاب باقر ماجد لمضايقات وتهديدات عدة قبل اتخاذه القرار بترك العراق خلفه. تخرج ماجد من معهد الفنون الجميلة في بغداد أثناء الاحتجاجات العراقية الأخيرة 2019-2020، وكانت لديه هواجسه وطموحاته الفنية الخاصة ولأجلها حاول التأسيس لعدة أمور في العراق، بما في ذلك ورشة فنية وثقافية بالتعاون مع مجموعة من الشباب: "قررنا إنشاء ورشة فنية تهتم بالفنون البصرية والأدبية في مدينة الثورة (مدينة الصدر حالياً) لكن مشروعنا سرعان ما أجهض نتيجة لموقعه، ومن ثم نقلناه إلى مدينة الكرادة ظناً منا أنها مدينة تمتاز بهامش من الحرية والتنوع الإثني، لكن ظننا قد خاب. فبعد أن أقمنا بعض الحفلات الموسيقية والأنشطة الأدبية والسينمائية، اشتكى أصحاب المحلات والبيوت المجاورة ورفضوا وجود هكذا مكان بينهم، وتحول المشروع لمكان عادي نتبادل فيه الآراء والحوارات".
____________
من دفاتر السفير العربي
انتفاضات 2019: إبداع تأسيسي
____________
ضمن الاحتجاجات العراقية الأخيرة، رسم ماجد أول جدارية فنية في نفق السعدون الواقع في منطقة باب الشرجي وساحة التحرير، وهو ما شجع فنانين آخرين على النزول إلى هذا النفق ورسم جداريات أخرى تناصر الاحتجاجات، وجعل ماجد من بيته مكاناً لاستقبال المحتجين القادمين من المحافظات الأخرى على طول فترة الاحتجاجات. يقول ماجد إن هذه النشاطات عرّضته للخطر والتهديد المباشر: "بدأ السؤال عن وضعي داخل المنطقة وخارجها، حتى وصل الأمر من إحدى الميليشيات إلى رمي ورقة تهديد مباشرة في بيتي يتوعدون فيها، قائلين إنهم على علم بوضعي ونشاطي ويتوعدون بالقصاص إذا ما استمريت في النشاط نفسه".
"العراق بلد خطر، ليس الآن فقط بل في كل وقت. تركتُ أرضاً لا أعرفها، أرضٌ ليست للعراقيين، أرض محتلة لا يمكن لأي شخص محبّ للحياة العيش فيها. شعرت بالأسف في بعض الأوقات وراودتني الهواجس حيث تركت ذكريات وأهل وتحديات ومغامرات كان ممكناً أن تنهي حياتي هناك، لكن كان هذا القرار هو الأسلم".
يضيف ماجد معقّباً على تلك الحادثة: "دعاني هذا الأمر إلى الانسحاب من الساحة حفاظاً على نفسي وعلى عائلتي، حيث كان من السهل الوصول إلى بيتنا، مثلما تمّ الوصول إلى عوائل الكثير من المحتجين، إضافةً إلى خطف الكثير من المحتجين وتغييبهم".
يقول ماجد إن شعور التهديد كان ملازماً له في العراق، وأنه حاول مقاومة هذا الشعور من خلال الأنشطة الثقافية والفنية التي يبرع بها، لكن التهديدات المباشرة تسببت في اتخاذه قرار الخروج: "عندما تلقيت أول تهديد مكتوب ومن جهةٍ معروفة ومتنفذة قررتُ السفر. كانت الوجهة الوحيدة المتاحة لي هي تركيا"، ويضيف ماجد أنه قدم على التأشيرة التركية مرتين: "رفض الطلب في المرة الأولى، وانتهت آمال الخروج. أغلقت مواقع التواصل حينها ومكثت في البيت لأشهر طويلة، كنتُ منكبّاً على الرسم لأنه الفعل الوحيد الذي كان متاحاً بالنسبة لي. مرّ عام كامل على هذا الوضع".
قُبلت تأشيرة ماجد عند المحاولة الثانية، وسافر إلى تركيا في أيار/مايو 2021 تاركاً العراق وراءه، لا يلوي على شيء: "العراق بلد خطر، ليس الآن فقط بل في كل وقت. تركتُ أرضاً لا أعرفها، أرض ليست للعراقيين، أرض محتلة لا يمكن لأي شخص محبّ للحياة العيش فيها. شعرت بالأسف في بعض الأوقات وراودتني الهواجس حيث تركت ذكريات وأهل وتحديات ومغامرات كان ممكناً أن تنهي حياتي هناك، لكن كان هذا القرار هو الأسلم".
لقد نجوت!
15-07-2021
تشريح العزلة.. بورتريه لرجل خائف ووحيد
19-03-2020
يعتقد ماجد أن العراق لم يعد بلداً آمناً لأيّ شخصٍ يُعبّر عن رأيه على أيّ منصة، وأن أيّ شخصٍ يحمل فكراً حرّاً سيضطر للتفكير في الهجرة أو مواجهة الخطر في هذا البلد: "أعرف الكثير من الأصدقاء ممن تعرضوا لتهديدات وهم منتشرون الآن في دول عديدة. لا وجود لحرية الرأي داخل العراق على الإطلاق وتزداد القيود يوماً بعد يوم، الكثير من أصدقائنا خطفوا وقتلوا بسبب مقالات أو منشورات في فيسبوك، وكان من الممكن أن أكون أنا واحداً منهم، لذلك خرجتُ حين سنحت لي الفرصة. ما يحدث الآن من قتل وخطف وتغييب لأيّ شخصٍ يقول رأيه يُنذر بمآل مروّع".