سلمى في الخامسة عشر من عمرها. أكثر ما شدّ انتباهها هي التعابير التي ارتسمت على الوجوه، والصدمة التي غمرت الناس: «كانوا جميعهم مدهوشين. لم يفهموا شيئاً. يدورون حول أنفسهم، بأيدٍ مستسلمة وأكف مفتوحة باتجاه السماء. كالمشاهد السينمائية التي تُعرَض ببطء».
سلمى كانت أمام التلفاز، في منزلها في غزّة، تشاهد البث المباشر مع جدّتها ووالديها وأخوتها الثلاثة. «لم نكن نتوقع ما حدث. وصلتنا جميعاً رسائل على البريد الالكتروني تطلب منّا أن نجلس مع عائلاتنا أمام التلفزيون، في الثاني عشر من آذار/مارس، عند الساعة الثالثة والنصف ظهراً. أخبرونا فقط أن أمراً هائلاً سيحدث.. نحن لم نصدق تماماً، لكننا فعلنا مع ذلك. من باب الفضول».
تصف سلمى إحساسها وهي تبتسم بخجل: «كانت أشكالهم تشي بالصدمة والضياع. مشهد حزين بعض الشيء. لكني رغبت بأن أصرخ بهم. أن أذكرهم كم أننا شرحنا لهم ونبّهناهم.. وفي البداية ساد صمت تام. أمسكنا بأنفاسنا لدقائق بدت طويلة. ثم صفّق أفراد عائلتي فرحاً. جدتي بدأت بالبكاء. سمعنا زغاريد وضحكات وصرخات فرح تصعد من كل شوارع المدينة. في الواقع، انفجرنا من الفرح».
قبل أسبوعين، عند الساعة 3 و48 دقيقة، فُتحت الأبواب الالكترونية لكل منازل مستوطنة (....) في الوقت نفسه. ثم توقفت كل تجهيزات المنازل عن الاستجابة لأوامر سكانها. انطفأت الأضواء، وتعطّلت شبكة الانترنت. انقطعت خطوط الهاتف. واجهات المحال التجارية أغلقت من تلقاء نفسها. حتى المياه امتنعت عن النزول من «الحنفيات».
مستوطنة معالي ادوميم توقفت تماماً. حدث هذا منذ اسبوعين. و«توقفت» تعني ببساطة أنها لم تعد تتحرك. أحد سكان المستوطنة قال في وقت لاحق: «ظننت بداية أن عطلاً ما أصاب نظام المنزل. خرجت مع زوجتي الى الجيران لنسألهم إن كان يمكننا استخدام الانترنت. لكن الجيران كانوا في الشارع أيضاً. كلّ البيوت انطفأت. كما لو أننا في «يوم الراحة، sabbat»، لكن مع فارق وحيد: لم نكن نستطيع بأية وسيلة إعادة تشغيلها».
انتظر السكان دقيقة، عشر دقائق ثم عشرون.. بعضهم صعد في السيارات لاستكشاف ما يحدث في الأحياء الأخرى. لكن سياراتهم رفضت نقلهم إلى العناوين التي أمروها بالتوجه اليها. اكتفت فقط بنقل ركابها إلى «الخارج». أخرجت الركاب من المستوطنة وتوقفت هناك، فتحت أبوابها ورفضت العمل مجدداً.
بعد ساعة من الفوضى والارتباك، جاء الشرح. شاشات هيلوغرامية ظهرت فجأة في كل شارع من المستوطنة. صوت الكتروني قال بعبريّة ترافقها ترجمة عربية: «مرحبا، هذا ليس عطلاً. نحن الـ«420»، وقد اخترقنا البرنامج المركزي الخاص بمستوطنتكم. طوّرنا نظاماً تعتمد برمجته على القوانين الدولية فقط. إن كانت معالي ادوميم قد توقفت، فذلك لأنها لا ينبغي أن تكون موجودة أساساً. وجودكم هنا ليس عادلاً وهو مخالف لكل القوانين الدولية. ما تعيشونه الآن هو فقط التطبيق الفوري لقرار محكمة دولية. أبواب منازلكم لن تغلق بعد الآن. وسياراتكم ستنقلكم من دون توقف إلى «الخارج».
التوقيع: «الـ420، محامون/ قراصنة من كل العالم».
ثم لا شيء. صمت تام. اختفت الشاشات الهيلوغرامية. فقط صرخات عدة وأصوات بكاء تقطعها كلمات متفرقة: «لا نستطيع فعل شيء.. هذه منازلنا.. هذا غير إنساني.. لقد أوقفوا حياتنا.. كأننا وحيدون في هذا العالم..». حاول رجل طمأنة الناس: «لن يطول الأمر. لا تخافوا. كل شيء سيكون على ما يرام. هذه مجرد ألعاب أطفال، والحكومة ستعيد كل شيء إلى سابق عهده».
مرّ اسبوعان. لا تزال مستوطنة معاليه ادوميم «متوقفة». السلطة الإسرائيلية تقود حرباً بلا توقف على مجموعة الـ«420»، ولكن الأخيرة كانت تتوقع هذا الأمر. لذا، نجحت في استباق كل خطوات عدوها. نصف سكان المستوطنة تركوا المكان، مطمئنين أنفسهم أنهم سيعودون «قريباً.. بعد نحو 15 يوماً». خمسة منهم، بعدما قرأوا رسالة مفتوحة للاجئ فلسطيني، تبدأ على الشكل التالي «أمي تركت حيفا في فلسطين لـ15 يوماً، في العام 1948، وكان عمرها 4 سنوات. ماتت في عمر 90 سنة في عمّان. أكتب لكم اليوم ونحن في العام 2054». بعدما قرأوا الرسالة، قرروا أن يذهبوا إلى الأراضي الفلسطينية لمحاولة فهم الأمر، ثم ظلوا فيها لينتجوا فيلماً. سارة بن شيبان واحدة من هؤلاء، تقول: «لن أدّعي أن الأمر سهل. لكن بالتأكيد، عرفتُ أن أمراً ما خاطئاً يجري هنا. أردت أن أفهم. الناس هنا يعرفون ذلك منذ أجيال. سيساعدوننا لنفهم. ربما سيترك ذلك بعض الألم عندنا، فليس من السهل على أحد أن يعترف أنه كان جلاداً بشكل ما. لكن الغريب أني رغم الألم شعرت بالتحرّر من عبء ثقيل. كل هذا الذي يجري غريب بالفعل!».
عملت مجموعة الـ«420» على هذا البرنامج منذ 10 سنوات. ومستوطنة معاليه ادوميم كانت أول معركة وبداية حرب الكترونية عالمية جديدة. على مدونة أحد أعضاء الـمجموعة نقرأ: «كان يجب أن نجد طريقة لنحارب الظلم. نحن لا نريد أن نموت.. الحرب التقليدية خطيرة، وليست بالضرورة فعّالة. القانون العادل لم يكن يوماً قانون الأقوى. كثيرون يصفون جيلنا أنه فاقد للصبر.. حسناً، هذا صحيح. نحن غير صبورين فعلاً!».
وبينما اتحدت الحكومات لإدانة ما سمّته «الانحراف الدكتاتوري لمجموعة إرهابية»، ظهرت لافتات في كل العالم، عند الجماعات المقهورة والمضطهدة، وعند أولئك الذين فقدوا الأمل، كما في مدن الصفيح في المكسيك وعشوائيات القاهرة واسطنبول، حيث مثلاً نستطيع أن نقرأ: «نحن في العام 2054، سياراتكم صارت تعبر السماء، ونحن ما زلنا نموت من الطاعون. العدالة الآن!».
قبل نحو 20 عاماً، دخل العالم في مرحلة جديدة من تقنيات التواصل عالية الكثافة. كثيرون رفضوا متمسّكين بالقديم. يبدو أن الردّ على هذا الرفض جاء من فلسطين.
مواضيع
العدالة الآن
مقالات من فلسطين
خالدة جرار مسجونة في قبر!
"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...
اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة
لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...
كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..
شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...
للكاتب نفسه
نحن شعوب مستعدة لمقاومة بربريتكم وبربريتنا
نحن نعرف تماماً من نحن. فمن أنتم؟ وعلامَ تقدرون؟ نحن نعرف أنفسنا بعمق، بالعاطل والحسن الذي فينا، ونعرف أنكم لا تملكون شيئاً. أية قدرات، أية معرفة، أي تاريخ، أي معطى...
نحن لا نريد
الوضع في غَزَّة، يَتَفاقَم بِشَكلٍ مَأساويٍّ مَع كُلِّ يَومٍ يَمُرُّ. نَحن، الهمج، لَم نَعد نُريدُ النِّقاش ولا سماعكم، أَو الاِستِماع إليكُم. توقفوا عَن مُخاطَبَتِنا بِأَيِّ شَيء. سَنَقرِّرُ ما نُريدُ فِعلَه،...