خمدت حرائق جبال القدس بعد ثلاثة أيام من استعارها منذ الأحد 15 آب/ أغسطس، فكشفت عن منظر مذهل كان يختبئ تحت الغطاءِ الشجري الكثيف: مدرجات زراعية كبيرة ("ربّاعات" كما يسميها الفلسطينيون أو "جلال" كما تسمى في بلاد الشام)، تشبه من بعيد مدرجاً رومانياً مهيباً. وهذه المدرجات التي حفرها وصممها الفلاحون الفلسطينيون على مدى سنوات طوال، طُوّرت واستعملت بشكل عمليّ ومستدام لقرون. الهدف منها استصلاح أراضٍ جبلية واستغلال كامل مساحة الجبال والتلال في الزراعة، مع منع انجراف التربة، ومع توزيع المياه على كل المزروعات والتأكد من تغلغلها في الأرض بشكل صحيح.
يقدّر بعض الباحثين أن عمر المدرجات المكتشفة نحو 400 عام، ويخمّن المؤرخ الفلسطيني جوني منصور أنّ عمرها أكثر من ذلك بكثير. وقد لفت عدة ناشطين ومؤرخين لحقيقة أن طمس هذه المدارج المهمة جاء بعد عام 1948، مع قيام "الصندوق القومي اليهودي" بتشجيرها "بملايين الأشجار التي تمت زراعتها بعد عام 1948، بدعم منه، لتلعب دور غطاء أخضر فوق آثار أكثر من 450 مدينة وقرية فلسطينية دمّرت في عامي 1947-1948"، حسب ما كتب الصحافي الفلسطيني عبد القادر ذويب على صفحته على موقع فيسبوك، واصفاً إياها ب"الغابات الاستعمارية"، التي قتلت التنوع البيئي الفلسطيني وغطّت على جرائم العصابات الصهيونية.
بل ويلفت المؤرخ جوني منصور لهدفٍ آخر لهذه الغابات. فهي من جهة تمحي آثار قرى فلسطينية مأهولة وعمل فلاحين جهدوا في استصلاح كل ما في بلدهم والإفادة من خيراته، لكنها من جهة أخرى ترسم صورة الوطن القومي الجديد الآتي بأشجار صنوبر أروروبية وغيرها من الأشجار التي تستنسخ طبيعة ورسم الدول التي أتى منها المستوطنون، كما في أراضي معلول وسحماتا وغيرها. إذ يؤكد منصور أنه تمّ إخفاء القريتين بشكل يصعب على المرء ملاحظة أي أثر لهما، "ليحظى المستوطنون براحة شبيهة بتلك التي عاشوها في أوروبا"!
يا ترى، كم مدرجاً وقرية وأثراً جميلاً ومُهمّاً طمرته أو طمسته أو خربشت فوقه الكولونيالية الصهيونية في فلسطين. كم مفاجأة وإبداعاً وتصميماً وهندسة وأثراً لحياة ما قبل الاحتلال ينتظر ليكشف عن نفسه، دليلاً آخر عن "مَن يمتلك الحق" بالأرض وخيراتها وتاريخها.