التاريخ السياسي لمياه نهر النيل

لا يبعد ملف سد النهضة عن السياسة كثيراً. المعلن من الجانب الإثيوبي أنه مشروع تنموي، لكن اللعبة السياسية الجارية في منطقة شرق أفريقيا، وإعادة اكتشافها لصالح أطراف دولية ترى أنها منطقة هامة وحيوية تفيد مصالحها، تكشف أن الصراع الدائر هو صراع سياسي من الدرجة الأولى.
2021-08-05

رباب عزام

صحافية من مصر


شارك
مجرى نهر النيل من المنبع إلى المصب.

مشهد أول

في الخامسة من صباح أحد أيام شهر تشرين الأول/ أكتوبر من العام 1963، كان التوتر سيد الموقف. فموسى الطفل الصغير حينها، لم يكن يعلم لماذا يصعدون إلى صنادل البهائم عبر النيل، ويرحلون بعيداً عن منازلهم المطلة على النهر، لم يكن يعلم حتى لماذا تركوا أشياءهم وعرائسهم المحاكة من قبل الجدات، فقط حملوا الحاجيات الضرورية. يتذكر موسى أن المعاملة لم تكن آدمية، وأن النساء كنَّ ينُحْن، والرجال منكسو الرأس وصامتون، أما هو والصغار فرحلوا في صمت وعيونهم معلقة بالمنازل والطرقات التي لن يروها ثانية أبداً.

وسط بدلات عسكرية، تحركت الحشود من النوبة القديمة (كان تعداد السكان قبل تهجير 1963 نحو 98609 نسمة، بينهم 50581 فرداً تمتد أصولهم لأماكن أخرى داخل مصر ودول عربية ) تنوح على ملكها الضائع، وأرض الأجداد التي لم يغادروها منذ آلاف السنوات. لكن أمراً من السلطات المصرية صدر بالتهجير القسري، والمبرر: شرعية التنمية والمصلحة العامة المنتظرة من بناء السد العالي.

مشهد ثانٍ

في نيسان/ أبريل من العام 2011، خرج توسي من قريته شيركولي في إقليم بني شنقول الواقع قرب الحدود السودانية. أجبرتهم السلطات الإثيوبية وقتها على المغادرة، وإعادة التوطين في مناطق أخرى. لكنه اتجه إلى السودان مع أسرته بعد صدامات واسعة مع القوات الرسمية. ووسط أجواء فقيرة ومتذبذبة لم تستطع الأسرة أن تصمد في السودان، فاتجهت صوب مصر واستقرت كمهاجرين، لأن السلطات هناك انتزعتهم من مساكنهم من أجل المصلحة العامة وبناء سد النهضة.

ما بين موسى في مصر وتوسي في إثيوبيا، يجري نهر النيل، الأطول في أفريقيا، والثاني بعد الأمازون على وجه الكرة الأرضية. رحل توسي إلى دولة المصب، راغباً في اللجوء إلى بلد رآه ملجأً للأفارقة. لكن أحلامه انهارت بعد أن شرعت حكومته في الملء الثاني للسد الإثيوبي، المخطط له أن يكون الأضخم في القارة السمراء. فحصة مصر ستتقلص من المياه الواردة، وربما سيضطر أن يهاجر مرةً أخرى إلى بلده الأم، أو إلى بلد آخر لا تنازع على أمنه المائي.

جلسة أممية وخيبة مصرية

في الثامن من تموز/ يوليو 2021، عقد مجلس الأمن جلسة لمناقشة أزمة سد النهضة الذي تبنيه إثيوبيا على مجرى نهر النيل. جاءت الجلسة كما هو المتوقع، لم تصدر قرارات حاسمة، فقط توجيهات بعودة الملف إلى حيز التفاوض برعاية الاتحاد الأفريقي. شعر المصريون بخيبة أمل كبرى حينما استمعوا إلى البث المباشر للجلسة الأممية، وتساءلوا: أين المقابل للخدمات والتنازلات التي طالما قدمها النظام الحالي لدول مثل الخليج وفرنسا على أمل في أنها ستصبح ظهيراً مستقبلياً؟ وماذا إن تخلت تلك الدول عن القاهرة في وقت وقعت فيه الدولة المصرية فيما وصفوه بأزمة وجودية تخص الأمن المائي الحاضر والمستقبلي؟

لعبت تركيا دوراً كبيراً في الاقتصاد الإثيوبي، فاستثمرت ما يقارب 1.8 مليار دولار في العام 2013 في دعم الصناعات الإثيوبية، كما أعلن أردوغان مساندته لإثيوبيا في مشروع سد النهضة، خاصة وأن أديس أبابا تتشابه في طريقتها في إدارة أزمة النيل مع الطريقة التركية في سد أتاتورك الذي حرم العراق وسوريا من 75 بالمئة من حصتهما المائية في نهر الفرات. 

أنبأت الكلمات التي حملها سفراء الدول المشاركين في الجلسة الأممية بأن كثيراً من الأطراف ربما تتخذ موقف الوسط ولا ترغب في خسارة أي من الجانبين، الإثيوبي والمصري – السوداني. تأرجحت الرؤى المطروحة ما بين مؤيد للحق الإثيوبي في التنمية واستخدام مياه النهر، وأخرى تشدد على ضرورة أنه لا يجب أن تكون هناك مواقف أحادية من الجانب الإثيوبي تؤدي إلى خسائر فادحة لدولتي المصب، لكنهم جميعاً اتفقوا على إعادة المفاوضات إلى طاولة الاتحاد الإفريقي، وهو الأمر الذي صرح به وزير الري الإثيوبي، متهكماً: "لا يجب مناقشة موضوع السد في مجلس الأمن/ فهذا تضييع وقت!"، بينما جاء خطاب القاهرة شديد اللهجة محذراً من أن المساس بالأمن المائي لمصر سيعرض المنطقة بأسرها إلى القلقلة وعدم الاستقرار. أما السودان فعبرت عن الضرر الواقع على أراضيها من جراء السد، وخوفها من تقلص مساحة أراضيها الزراعية إلى النصف بسببه.

مندوب روسيا في مجلس الأمن أعلن رفض القيادة الروسية لأي تهديد عسكري تلّوح به القاهرة، وأنه عليها أن تتخذ السبل الدبلوماسية لإنهاء الأزمة. أما فرنسا فنددت بالخلافات الدائرة في ظل منطقة ملتهبة وغير مستقرة، كما أكدت على حقوق الدول الثلاث ومصالحها المشروعة. وجاءت كلمة المملكة المتحدة لتعلن صراحةً أنها في علاقات اقتصادية مع الدول الثلاث، مصر والسودان وإثيوبيا، في إشارة إلى أنها لا تريد خسارة أيّهم، داعيةً الأطراف جميعها إلى الامتناع عن أي إجراءات أحادية الجانب. فيما شددت الهند على أن استخدام مياه النيل لا بد أن تستفيد منه كل البلدان ضمن احترام حقوق الدول التي تقع على ضفافه. ودعا المندوبان الأمريكي والصيني إلى الحوار، بينما المندوب الكيني أكد ضرورة التشاور واستئناف المفاوضات، مع تجنب الخطابات الاستفزازية التي تنحى عن الهدف الرئيس وهو استخدام مياه النيل. أما المندوب الكونغولي فأشار إلى أن مشروع السد يمثل مشاكل للجيران الأقرب، وهما مصر والسودان، اللذين تعتمد اقتصاداتهما على النهر.

أطراف فاعلة وتحالفات اقتصادية

  عبّرت جلسة مجلس الأمن الدولي عن نظرة المجتمع الدولي تجاه ما أسمته مصر والسودان بالحقوق التاريخية في مياه النيل، والأزمة المثارة حول بناء السد الإثيوبي. فالأطراف ظهرت متخذةً إما موقفاً حيادياً، أو موقفاً يبدو مائلًا إلى الجانب الإثيوبي. لكن مَن هي القوى الفاعلة في هذا الملف، وأي الأطراف ستدعم إذا ما تأزم الموقف أكثر؟

دخلت الإمارات بكل قوتها كمستثمر رئيس في دول القرن الأفريقي منذ ما يقارب عشر السنوات، محاولة الوقوف بالمرصاد للوجود الإيراني والقطري في المنطقة ذاتها، لتختار أديس أبابا كمركز. ففي العام 2018 وعقب المصالحة الإثيوبية – الإريترية، أعلن ولي عهد أبو ظبي حزمة دعم لإثيوبيا تقدر بـ3 مليارات من الدولارات في هيئة وديعة بالبنك المركزي الإثيوبي واستثمارات أخرى.

  لا يبعد ملف سد النهضة عن السياسة كثيراً. المعلن من الجانب الإثيوبي أنه مشروع تنموي، لكن اللعبة السياسية الجارية في منطقة شرق أفريقيا وإعادة اكتشافها لصالح أطراف دولية ترى أنها منطقة هامة وحيوية تفيد مصالحها، تكشف أن الصراع الدائر هو صراع سياسي من الدرجة الأولى، ليس هدفه ضرب مصر في مقتل كما تردد الصحف المصرية وإنما هدفه المصالح، خاصةً بالنسبة للدول الآسيوية المتمثلة في الصين وتركيا والسعودية والإمارات وأيضاً قطر، والذين شاركوا باستثمارات قوية في مشاريع للبنى التحتية واستحوذوا على أراضٍ صالحة للزراعة، وأيضاً اشتروا أراضي من أجل إنشاء قواعد عسكرية.

الصين تعتبر من القوى الدولية الأكثر فاعلية وتأثيراً في القارة الأفريقية، وخاصةً في منطقة القرن الأفريقي، ‏وقد دشنت مشروعاً عملاقاً عرف بـ "مبادرة الحزام والطريق الدولية"، لإحياء طريق الحرير الصيني التجاري القديم. بدأ ‏الحديث عنه في العام 2013، واتجهت بكين وبقوة إلى الاستثمار في أفريقيا وطورت غالبية الموانئ الأفريقية، كما تعد المستثمر ‏الأول في البنية التحتية في القارة السمراء، باستثمارات تقارب 75 مليار دولار، ومولت خطوط النقل الخاصة بالسد بمليار دولار في ‏العام 2013، وتعمل كشريك أساسي في السد الإثيوبي. لكن وعلى الرغم من الدعم المؤكد من الصين وشراكتها في تمويل السد، ‏فهي تقدم نفسها على أنها على الحياد في التفاوض بما يخص حقوق مصر المائية، خاصةً وأنها ترتبط مع ‏مصر بعلاقات اقتصادية قوية، وتمثل قناة السويس محطة هامة في تحقيق مشروعها الخاص بطريق الحرير القديم وإحيائه.‏

ويعد التحول الروسي بارزاً وخطيراً، فروسيا باتت مؤيدة بشكل واضح للسد الإثيوبي، حتى إن كلمتها في مجلس الأمن انتقدت الموقف المصري، وأظهرت صوتاً منحازاً للجانب الإثيوبي. أما الولايات المتحدة الأمريكية فتغير موقفها من داعم للجبهة المصرية حين كان البيت الأبيض يحكمه الرئيس السابق دونالد ترامب، والذي حاول الوساطة وطرح اتفاقية وقعت عليها القاهرة بالأحرف الأولى، بينما رفضتها أديس أبابا. تلى ذلك تحذيرات من ترامب وتوقيع عقوبات على إثيوبيا باقتطاع 100 مليون دولار من التمويل الأمريكي المخصص لها في كانون الأول/ ديسمبر 2020 بسبب "التعنت في موضوعي السد وحرب التيغراي". أما الإدارة الحالية برئاسة جو بايدن، فتحاول فرض سياسة تفاوضية جديدة تكون أقل حدة من سابقتها. وفي نيسان/ أبريل من العام الجاري، عادت الولايات المتحدة من جديد إلى ملف سد النهضة، عبر تعيين مبعوث خاص للقرن الإفريقي. لكن إثيوبيا ترفض رفضاً تاماً أي وساطة دولية، وترى أن الاتحاد الأفريقي هو المنوط بالمفاوضات، فيما تظهر التحركات الأمريكية الجديدة رغبة بايدن في الوقوف على مسافة واحدة من الأطراف الثلاثة دون الانحياز لأحدها.

ليس الصراع على منابع النيل وإدارته مستجداً. فهو يعود إلى الحقبة الاستعمارية في القرن التاسع عشر، وظهر ذلك جلياً من خلال الاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمتها حكومات الاستعمار بين مستعمرات حوض النيل التي كانت تحتلها. نتج عن ذلك اتفاقيات لتوزيع حصص المياه، استحوذت مصر والسودان بموجبها على نصيب الأسد، نظراً لاهتمام بريطانيا وقتها بالإنتاج الزراعي المصري – السوداني كما بقناة السويس.

وفي ظل العداء المصري - التركي منذ العام 2013، لعبت تركيا دوراً كبيراً في الاقتصاد الإثيوبي، حتى أنها استثمرت ما يقارب 1.8 مليار دولار في العام المذكور في دعم الصناعات الإثيوبية، كما أعلن أردوغان مساندته العلنية لإثيوبيا في مشروع سد النهضة ، خاصة وأن أديس أبابا تتشابه في طريقتها في إدارة أزمة النيل مع الطريقة التركية في سد أتاتورك الذي حرم العراق وسوريا من 75 بالمئة من حصتهما المائية في نهر الفرات.

أما الموقف الخليجي فيحمل علامات استفهام كبيرة بحكم وجود العلاقات العربية، خاصة وأن القاهرة دعمت كلا من نظامي الرياض وأبو ظبي طوال سنوات حكم النظام الحالي. وعلى الرغم من ذلك، لم تتوافق رؤاهم فيما يخص السد الإثيوبي، ولم تلقَ القاهرة منهما دعماً مناسباً، بل حدث العكس تماماً. فالاستثمارات السعودية والإماراتية تنهال اليوم على إثيوبيا.

ودخلت الإمارات بكل قوتها كمستثمر رئيس في دول القرن الأفريقي منذ ما يقارب عشر السنوات، محاولة الوقوف بالمرصاد للوجود الإيراني والقطري في المنطقة ذاتها، لتختار أديس أبابا كمركز. ففي العام 2018 وعقب المصالحة الإثيوبية – الإريترية، أعلن ولي عهد أبو ظبي حزمة دعم لإثيوبيا تقدر بـ3 مليارات من الدولارات في هيئة وديعة بالبنك المركزي الإثيوبي واستثمارات أخرى. وليست إثيوبيا وحدها من دخلت إلى الخارطة الإماراتية، فقد سبقتها إريتريا في العام 2015 حينما استضاف ميناء عصب الإريتري أول قاعدة عسكرية إماراتية في الخارج.

وحينما أرسلت المملكة العربية السعودية في العام 2016، مستشار الديوان الملكي في زيارة إلى سد النهضة، غضب المصريون، لوقوف السعودية مع إثيوبيا ضد شقيقتهم العربية مصر. أما في العام 2018 فقد زودت الرياض أديس أبابا بالوقود لمدة عام كامل دون الدفع المسبق، ما أسهم في إنقاذ الوضع في بعض مناطق الداخل الإثيوبي. وفي العام التالي حصلت إثيوبيا على قرضين من المملكة بقيمة 140 مليون دولار بهدف تنفيذ مشروعات بنية تحتية. لكن محللين يرون أن المملكة في حال إذا ما قامت حرب بين الطرفين المصري- السوداني والإثيوبي ستتخذ فوراً الجانب العربي، خصوصاً وأن القاهرة قد دعمت ولي العهد محمد بن سلمان كثيراً في السنوات الماضية. وأيضاً ظهرت على الخارطة العسكرية للمملكة دولة جيبوتي حين افتتحت في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2017 قاعدتها العسكرية هناك.

بالنظر إلى خريطة التحالفات والقوى الفاعلة في منطقة شرق أفريقيا وحوض النيل، يتبادر إلى الأذهان سؤالٌ: هل الصراع السياسي على نهر النيل صراع حديثٌ؟ بل الصراع على النهر تاريخي يمتد لمئات السنوات..

التاريخ السياسي لمياه النيل

ليس الصراع على منابع النيل وإدارته مستجداً. فهو يعود إلى الحقبة الاستعمارية للقارة السمراء في القرن التاسع عشر، وظهر ذلك جلياً من خلال الاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمتها حكومات الاستعمار بين مستعمرات حوض النيل التي كانت تحتلها . نتج عن ذلك اتفاقيات لتوزيع حصص المياه، راعت أن تستحوذ مصر والسودان وقتها على نصيب الأسد من المياه المتدفقة، نظراً لاهتمام المملكة البريطانية وقتها بالإنتاج الزراعي المصري – السوداني. كما أن قناة السويس والتي تدار من مصر لها أهمية كبيرة في خريطة سياساتها وهي طريق لمستعمراتها في الشرق، وخاصةً بعد اتفاقيتي العامين 1929 و1959، اللتين تستند إليهما مصر والسودان الآن مبررتان حصتهما التاريخية في المياه.

لم تتوقف محاولات الدول الأوروبية إخضاع مصر عن طريق الحبشة. ففي العام 1856 وقت حكم الخديوي سعيد، هدد ملك الحبشة بتحويل مجرى النيل الأزرق إلى البحر الأحمر، وكان ذلك بإيعاز من إنجلترا وفرنسا. لكن المخطط فشل، وللمرة الثانية، بسبب تدخل الكنيسة المصرية.

  جاءت اتفاقية مياه النيل بين مصر وبريطانيا بالنيابة عن السودان وكينيا وتنزانيا وأوغندا في العام 1929، كأولى الاتفاقات المحددة للحصص المائية على النهر. كما منحت مصر حق الفيتو للاعتراض على أي مشروعات تقام على مجرى النهر وروافده أو منطقة البحيرات التي ينبع منها النهر بغير اتفاق مع الحكومة المصرية. وقدرت حصة مصر وقتها بـ48 مليار متر مكعب من المياه سنوياً، بينما حددت حصة السودان بـ 4 مليارات متر مكعب، وباقي الإيراد النهري المقدر بـ32 مليار متر مكعب كان يهدر في البحر الأبيض المتوسط.

وفقاً لتلك الاتفاقية، طالبت السودان مصر بالسماح لها بإقامة خزان الروصيروص في العام 1959. لكن مصر علقت موافقتها على موافقة السودان على مشروع السد العالي. السودان المستقل حديثاً وقتها رفض الربط بين المشروعين، معللاً أن سعة خزانه المخططة ما هي إلا 3 مليارات متر مكعب من المياه فقط، بينما السعة المخططة للسد العالي 130 مليار متر مكعب. وكان هذا الجدال الدائر فرصةً اتخذتها حكومة السودان لأن تعلن المطالبة بتعديل اتفاقية العام 1929، لأنها غير عادلة من وجهة نظرها.

كان لاعتراض السودان على اتفاقية العام 1929، أثر، فوقعت اتفاقية الانتفاع الكامل بمياه النيل بين مصر والسودان في العام 1959، وكانت تخص إنشاء السد العالي، وتوزيع المنافع الناجمة عنه بينهما، من دون إجحاف بالحقوق التاريخية لكل منهما، أو الإضرار بحقوق باقي دول الحوض. وأكدت احترام الحقوق المكتسبة لطرفيها، كانت تلك الاتفاقية هي الأولى عقب استقلال الدولتين.

ولم تكن محاولة إثيوبيا الحالية لبناء سدود على مجرى النهر هي الأولى كذلك. فبعد صعود الدولة المملوكية القوية عسكرياً واقتصادياً، والتي ردعت نهائياً محاولات الغزو المغولي (التتار) والحملات الصليبية، رأت الممالك الأوروبية في القرن الرابع عشر الميلادي أنه يجب خلق حلفاء جدد للسيطرة على مصر والمنطقة الإسلامية، وذلك عبر أفريقيا، فتعاون ملك قبرص مع ملك الحبشة وقتها، في محاولة لتحويل مجرى النهر بمزاعم دينية. لكن الكنيسة المصرية والتي كانت تتبعها الكنيسة الإثيوبية، وقفت ضد ذلك المخطط، ما ساهم في إفشاله.

نتيجة لسوء إدارة مصر لسياستها الخارجية تجاه الدول الأفريقية، والتي ساءت أكثر بعد محاولة اغتيال الرئيس مبارك في أديس أبابا في تسعينيات القرن الماضي، ولدت تكتلات وبدائل حلت مكان الامتداد المصري في القارة، حتى إن الاتحاد الأفريقي جمد عضوية مصر إبّان حكم جماعة الإخوان المسلمين في العام 2013.

وجاءت محاولة أخرى في العام 1513 على يد البرتغالي دالبو كيرك، كان ذلك رغبةً من البرتغاليين وقتها في إخضاع الدولة المملوكية، والتي خاضت حروباً ضد البرتغال في أفريقيا، لوقف مخططها الخاص برأس الرجاء الصالح وتحويل طرق التجارة العالمية عن مصر. ورأى دالبو وقتها أن ذلك لن يتحقق إلا بفتح ثغرة بين التلال الصغيرة التي تجري عند منابع النيل في الحبشة، ما يمنع تدفق المياه لمصر، فاتفق مع ملك الحبشة وانتظر فى جزر "كمران" لحين وصول الإمدادات. لكن الوقت لم يمهله وتوفي قبل تنفيذ مخططه.

وفي العام 1705، حاول ملك فرنسا لويس الرابع عشر، تحويل مجرى النيل الأزرق، حين اتفق مع ياسو ملك الحبشة، لكن تعاوناً بين مصر ومملكة سنار جعل الثانية تهاجم الحملة وتفشلها، لتبدأ حرب بين مملكة الحبشة وسنار، انتهت بهزيمة الأحباش.

لم تتوقف محاولات الدول الأوروبية إخضاع مصر عن طريق الحبشة. ففي العام 1856 وقت حكم الخديوي سعيد، هدد ملك الحبشة بتحويل مجرى النيل الأزرق إلى البحر الأحمر، وكان ذلك بإيعاز من إنجلترا وفرنسا. وما عزز ذلك أن مصر وقتها كانت في نزاع على الحدود الشرقية للسودان مع الأحباش، فأرسل ملك الحبشة خطاباً إلى الخديوي سعيد يهدده ، لكن المخطط فشل، وللمرة الثانية، بسبب تدخل الكنيسة المصرية.

تتابعت المحاولات الاستعمارية عقب ذلك، كان أبرزها المحاولة الإيطالية في ثلاثينيات القرن الماضي، لكن العوائق الجغرافية حالت دون تنفيذ المخطط، ثم تبعتها دراسات أمريكية في منتصف القرن الماضي لإنشاء 36 سداً على مجرى النهر عند إثيوبيا، رداً على الإعلان عن إنشاء السد العالي في مصر. وفي عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، وقع كلا الجانبان الإثيوبي والمصري في العام 1993، اتفاقاً تتعهد فيه الدولتان بالامتناع عن أي نشاط يؤدي إلى إلحاق ضرر بمصالح الطرف الآخر فيما يختص بمياه النيل. كما تعهدا بالتشاور والتعاون في المشروعات ذات الفائدة المتبادلة. لكن سرعان ما ندمت إثيوبيا، وقررت عدم العمل بالاتفاقية، خاصة وأن الوضع توتر بين الدولتين عقب محاولة اغتيال الرئيس المصري في أديس أبابا.

ظل الجدل على مياه النيل بين مصر وإثيوبيا مستمراً يطفو حيناً ويخبو حيناً، حتى جاءت اتفاقية عنتيبي في العام 2010، والتي اعتبرت مقدمةً حقيقية لأزمة سد النهضة الإثيوبية، فوقعت خمس من دول حوض النيل هي: إثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا وكينيا، الاتفاقية في مدينة عنتيبي الأوغندية، ولاحقاً وقعت عليها بوروندي، في حين اعترضت عليها مصر والسودان. وهدفت الاتفاقية في أساسها إلى إعادة توزيع حصص المياه المهدرة على جميع دول حوض النيل (تمثلت في 950 مليار متر مكعب على إثيوبيا، وحوالي 750 على الهضبة الاستوائية، و530 مليار على بحر الغزال على دول حوض النيل). إلا أن عدم قبول مصر والسودان للاتفاقية حول هدفها إلى عدم الاعتراف بالحصص التاريخية للبلدين، والاعتراض على الاتفاقيات التاريخية التي تسيطر بموجبها مصر والسودان على معظم المياه المتدفقة في المجرى.

موقف دول حوض النيل من مصر

نتيجة لسوء إدارة مصر لسياستها الخارجية تجاه الدول الأفريقية والتي ساءت أكثر بعد محاولة اغتيال الرئيس مبارك في أديس أبابا في تسعينيات القرن الماضي، ولدت تكتلات وبدائل حلت مكان الامتداد المصري في القارة، حتى إن الاتحاد الأفريقي جمد عضوية مصر إبّان حكم جماعة الإخوان المسلمين في العام 2013.

لكن تغيرت السياسة التي اتبعها النظام المصري الحالي، بعد أن طفت بشكل كامل أزمة سد النهضة إلى السطح. فالناظر إلى الخطوات التي تخطوها القاهرة يتأكد من محاولاتها إظهار القوة في شرق أفريقيا، والتصدي لما تسميه التعنت الإثيوبي. ويأتي ذلك عبر التعاون العسكري والاستخباراتي والاقتصادي، في محاولة من النظام لتطويق أديس أبابا في حال فشلت المفاوضات بالكامل.

ففي آذار/ مارس 2021، وقعت القاهرة اتفاقاً عسكرياً مع بوروندي، تبعه في نيسان/ أبريل الماضي توقيع اتفاقية تبادل معلومات عسكرية في كمبالا الأوغندية (كانت أوغندا قد أعلنت سابقاً دعمها الكامل للسد نظراً لاحتياجاتها من الطاقة المتولدة عنه)، وفي حزيران/ يونيو وقعت القاهرة اتفاقاً عسكرياً آخر مع جمهورية الكونغو الديمقراطية في كينشاسا، أما كينيا والتي تحظى بثقل استراتيجي في شرق أفريقيا، فعززت السلطات المصرية علاقتها معها عبر اتفاقية للتعاون الدفاعي العسكري في أيار/ مايو الماضي، وسبق ذلك دعم القاهرة لعضوية كينيا في مجلس الأمن في العام 2019.

أما جنوب السودان، وهو الدولة الأحدث على خارطة حوض النيل، فاتجهت مصر للتعاون الاقتصادي مع جوبا العاصمة، من خلال زيارات متبادلة ومشروعات متفق عليها. وبالفعل افتتح وزير الري المصري في حزيران/ يونيو 2021 محطة لمعالجة المياه في جبل الليمون، وتتشاور القاهرة مع جوبا حالياً في إمكانية بناء سد واو متعدد الاستخدامات على نهر سيوي.

وبعدما كانت إريتريا تدعم مصـر، انتقلت إلى الحياد الظاهري. لكن خلف الأبواب المغلقة، وبعد توقيع اتفاقية مصالحة مع إثيوبيا في تموز/ يوليو من العام 2018، أصبحت إريتريا وإثيوبيا في تحالف استراتيجي. بالمقابل يحاول النظام المصري استبدال إريتريا التي انحازت إلى صف إثيوبيا بجيبوتي، والتي تعتبر المنفذ البحري للواردات والصادرات الإثيوبية منذ تسعينيات القرن الماضي، ففي أيار/ مايو الماضي، زار الرئيس المصري جيبوتي لمناقشة أزمة السد إلى جانب الاتفاق على إنشاء منطقة لوجيستية مصرية، وضخ استثمارات القاهرة في البنية التحتية لها.

ويبقى وضع حوض النيل حائراً ما بين القاهرة والخرطوم وإثيوبيا، لارتباطه الوثيق بالدول الثلاث، والتي تحاول كل منها جذب أكبر عدد من الدول إلى قضيتها. والمؤكد أن هناك حق لتلك الدول الثلاث في مياه النيل...  

______________

[1]حسن دفع الله، تهجير النوبيين - تهجير وادي حلفا، دار مصحف إفريقيا، 2003.
[2] https://pharostudies.com/?p=6313
[3] كانت بريطانيا تستعمر مصر والسودان وأوغندا وكينيا، ووقعت تنزانيا ورواندا وبوروندي تحت الاستعمار الألماني، بينما بلجيكا تستعمر زائير، أو ما يعرف اليوم بالكونغو الديمقراطية، وذلك حتى انتهاء الحرب العالمية الأولى، حيث قسمت المستعمرات الألمانية بين إنجلترا وبلجيكا، فضمت الأولى تنزانيا، بينما الثانية استعمرت رواندا وبوروندي، وظلت إثيوبيا مستقلة.
[4] زبيدة عطا، "إسرائيل في النيل"، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2010.
[5] للتعرف على المزيد في ما يخص السياسة المصرية تجاه إفريقيا، اضغط على هذا الرابط

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...