"المدارس مبتعلمش والدنيا مدرسة"!

تابعته مشدوهة لأتنبه للمرة الأولى الى أن أعمال الترميم تنطوي على تفاصيل فنية ومهارية خاصة، فكلما كان يتصدى لركنٍ كان يخرج من بين يديه ملتئماً مجبوراً. أذهلني فرط ذكائه في معالجة ما كان يُشْكل على رفاقه، والخفة والخبرة والالتزام، فرد مبتسماً بحسرةٍ خفيفة نفضها عنه سريعاً، قائلا أنه ترك التعليم قبل إتمام المرحلة الإعدادية. واسترسل أنه كان يجيد مساعدة رفاقه أثناء الخدمة العسكرية في كتابة ما كان
2015-06-11

بسمة فؤاد

باحثة من مصر


شارك

تابعته مشدوهة لأتنبه للمرة الأولى الى أن أعمال الترميم تنطوي على تفاصيل فنية ومهارية خاصة، فكلما كان يتصدى لركنٍ كان يخرج من بين يديه ملتئماً مجبوراً. أذهلني فرط ذكائه في معالجة ما كان يُشْكل على رفاقه، والخفة والخبرة والالتزام، فرد مبتسماً بحسرةٍ خفيفة نفضها عنه سريعاً، قائلا أنه ترك التعليم قبل إتمام المرحلة الإعدادية. واسترسل أنه كان يجيد مساعدة رفاقه أثناء الخدمة العسكرية في كتابة ما كان يستعصي عليهم رغم حصولهم على شهادة الدبلوم (شهادة انتهاء التعليم الفني)، ثم تهلل بضحكة طفولية عالية قائلاً "ومعايا كمان.. نحو الأمية!". هو شاب في عمر الزهور يتفجر طاقة وحيوية وفطنة، حُرم من حقه في التعليم، ولما تعلم على كِبر لم يسعه التفرقه بين نحو الأمية ومحوها!

الدنيا مدرسة

مع تخلي التعليم الرسمي عن العديد من لوازمه كوسيلة للمعرفة والاستنارة وسبيل لتوفير مكانة مناسبة للفرد في المجتمع، صار شعار الأميِّين في مصر أن "المدارس مبتعلمش.. والدنيا مدرسة"، لذلك تراجع معنى "بلد شهادات" الذي كان سائداً حين كانت الدولة تتولى توظيف أبنائها الحاصلين على شهادات عليا في وظائف لائقة. أمَّا وقد استشرت البطالة وزجت بالأكاديميين في الورش والمصانع، فقد بدت المحصلة واحدة في أغلب الأحيان. لذلك فإن همهمة ضمنية يمكن استشعارها في الحس العام للشارع المصري، تتساءل عن جدوى التعليم والفرق الحقيقي بين الأمي والمتعلم، بغض النظر عن الدور الذي ما برحت تلعبه الشهادات كواجهة اجتماعية في التعارف الإنساني وعند المصاهرة.
بيد أن هذا الجدل الدائر ضمنا حول تعريف محدد للمتعلم والأميّ، هو ذاته الدائر في أوساط المختصين، إذ لم يضمن التعريف الذي اعتمدته اليونسكو لوصف المتعلم "بأنه كل شخص يستطيع أن يقرأ ويكتب بفهم بياناً قصيراً أو بسيطاً عن حياته اليومية"، درجة مقبولة من الوعي في المجالات الحياتية المختلفة لهذا المتعلم. لذلك ظهرت مصطلحات من قبيل "محو الأمية المتعددة" و "محو الأمية الوظيفي" و "محو الأمية الحاسوبية".. وهي جميعاً تلتمس جدوى إجرائية للمتعلم.

حجم الظاهرة

تسجل مصر المركز السابع من بين عشرة بلدان تضم أعلى نسب لأمية الكبار على مستوى العالم، حسب الوارد في "التقرير العالمي لرصد التعليم للجميع" (2013 - 2014) الصادر عن اليونسكو. وقد أسفرت حملة "معاً نستطيع" التي أطلقتها وزارة التربية والتعليم المصرية لتعلن "2014 عاماً لمحو الأمية"، عن انخفاض طفيف في نسبة الأمية في مصر حتى الآن، إذ انتقلت من 14.9 في المئة للعام 2013 إلى14.1 في المئة للعام 2014. يتجاوز الأميون الأربعة ملايين للفئة العمرية 15 - 35 عاماً، فيما تزيد النسبة إلى 23.2 في المئة لفئة من هم في الـ15 من العمر، و21.1 لمن هم في العاشرة، وفقاً لإحصاءات الهيئة العامة لتعليم الكبار - مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، وذلك حتى كانون الاول/ ديسمبر 2014 .
كما تؤشر الإحصاءات الى ارتفاع وتيرة التمييز الجنسي في مصر، إذ تتفوق نسبة أمية النساء على الرجال في كل الفئات العمرية بفوارق عظيمة. مثلاً تعاني من الأمية حوالي 18.7 في المئة من النساء في الفئة العمرية (15-35) فيما هم 9.6 في المئة من الرجال في الفئة العمرية نفسها.

تجدد المنابع

ما زالت مصر تُولي النظر لأمية القراءة والكتابة وحسب، فيما يُعقِّدها التجدد المستمر للمنابع. فإن كان محو أمية الكبار تحدياً صعباً يواجه الدولة والمجتمع منذ سنوات بعيدة، فإن التسرب المتجدد للصغار من المدارس يشي بأننا نحفر في الماء، ذلك بخلاف الرافد الأهم والذي تمثله الأمية المستترة خلف بعض الشهادات المتحصلة بالغش وحده!
لذلك تُنظم الجهود لمحو الأمية في عدة اتجاهات، إحداها يُعنى بمحو أمية الكبار وهو ما تعمل عليه الهيئة العامة لمحو الأمية وتعليم الكبار، ولكنَّ مشكلات عنيدة ما زالت تجابه هذا الاتجاه، خاصة ما يتعلق منه بضعف الدافع التعليمي لدى الكبار، واقتصار نظرتهم لشهادة محو الأمية كورقة رسمية ضرورية ليس إلا، لذلك سعى البعض لشرائها مزوّرة (ما اكتشف على نحو رسمي في سوهاج وتداولته وسائل الاعلام مؤخراً)، فيما بالغش يتحصل عليها آخرون.
يعقِد الكثيرون آمالا بعيدة على "برامج القرائية" المستحدثة في المدارس الابتدائية منذ العام 2011، فمديرة وحدة القرائية بالإسكندرية تقول "إن مشروع القرائية لا يهدف إلى تنمية مهارات التلاميذ في اللغة العربية فحسب، وإنما كذلك اللغة الإنجليزية والحساب، ولكنه بدأ باللغة العربية كمرحلة أولى، وهو يُنبئ بنتائج مذهلة تجاه تجفيف منابع الأمية"، حتى أن المديرة تتوقع بعض المعاناة للمعلم قليل الكفاءة في المراحل المتقدمة تجاه المخرجات الواعية التي يمده بها برنامج القرائية، وقد أشارت الى أن البرنامج يعد وقائياً لتلاميذ الصفوف الثلاثة الأولى من المرحلة الابتدائية فيما يطبق كبرنامج علاجي لتلاميذ الصفوف المتقدمة من المرحلة نفسها. وعن طرق التقويم تقول أنه يتم على جزئيات المنهج أولاً بأول دون تأجيل، فيما تتم معالجة المواضيع بطرق مختلفة حال إخفاق أي تلميذ في أحدى الجزئيات، كما ألمحت إلى أن التقويم يشمل الجانبين، الشفهي والتحريري معاً.
يبقى تحسين نوعية التعليم المقدم في المدارس الرسمية هو المفتاح الأنجع في محو الأمية بمعناها الواسع للأفراد، والسبيل الأسلم لاجتثاث الأمية من جذورها. أما ما نعاينه من التباس لدى عامة الناس حول جدوى التعليم أساساً، وما نسمعه من ترهات حول منافع تجهيل الأفراد لتسهيل حكمهم والتحكم فيهم، فهو من عِظم البؤس والأسى المتأصل في المجتمع.

 

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه