كلُّ ما زخرت به دلالات بروباغندا انتخابات الرئاسة السورية، كان جملةً قصيرة التصقت بصور المرشح (الفائز) بشار الأسد "الأمل بالعمل"، وقد غلّفت بها السلطة واجهات المباني الحكومية، وفردتها كالأشرعة في الساحات العامة.
لكن مضمون الجملة سرعان ما صار مادةً للتندّر في الأحاديث العامة، أو على مواقع التواصل الاجتماعي. فهي بالإضافة لكونها لم تهتدِ إلى تطبيع عقول الكثيرين بمضمونها، فإنها أيضاً جاءت كمنغّصٍ سياسي أصاب قلوب الموالين، الذين اعتقدوا أن رئيسهم سيغدق عليهم النعم ما أن يفوز بالانتخابات. غير أن الواقع العصيَّ على التبدل، والقابل للقياس، عاد ليزيل مساحيق التجميل التي ازدانت بها سحنةُ بروباغندا الانتخابات سريعاً. كان ذلك بمثابة لطمة أصابت وجوه المواليين، المنتظرين لقيامةٍ عجائبيّة تنتشلهم من بين رماد السنوات الماضية. فوفود الدول القريبة والبعيدة لم تحجّ إلى دمشق مباركةً لرئيسها المتوقع فوزه، كما قال العرّافون وخبراء "الكارما"، ولا السفارة السعودية التي فتحت أبوابها قبيل الانتخابات، هرولت إلى استثماراتها المركونة على الرفّ منذ العام 2011، وجعلت "تأشيرات" زيارتها تهطل فوق رؤوس السوريين الحالمين بمغادرة "الوطن – المقبرة".
الكهرباء صارت تنقطع لساعات أطول، والغلاء واصل زحفه البشع فوق كل شيء، وحجته الجديدة "زيادةٌ على طلب السلع، وقلة في عرضها"، أي ليس بفعل متوالية انخفاض قيمة الليرة أمام الدولار: فهو باقٍ على قيمة صرف ثابتة منذ شهر تقريباً (3150 ليرة للدولار الواحد).
بعد الانتخابات، وافقت الحكومة السورية على تحرير أسعار الأسمدة والكف عن دعمها، وأعقبت ذلك بموافقتها على رفع أسعار الأدوية بنسبة تتراوح بين 30-50 في المئة، ما يعني زيادةً في تكاليف المعيشة داخل واقع سياسي واقتصادي مهترئ. فهذا هو "الأمل بالعمل" حرفياً بلا زيادةٍ أو نقصان، لا يمكن الانتقاص من مكوناته، أو الاستهانة بجمهوره المستهدف. غير أن محتوى رسالة الدعاية تلك، سيكون مختلف الأثر والمصداقية لو أنه جاء معكوساً: "العمل بالأمل" مثلاً.
مثل هذا المضمون الدعائي سيتطرق بالمصادفة لعناوين عديدة، وسيكون أكثر قدرةً من سابقه على استمالة الدهشة إليه، كأن تكون غاية السلطة القائمة هي التلويح بحياة رغيدة، تأمل ذلك، لكنها تخفق. ثم تَعِدُ بتعمير ما دمرته في القريب، تأمل ذلك، لكنها تخفق. وتأمل في حلّ سياسي، وآخر اقتصادي يخرجها من عزلتها. تأمل، ثم تخفق. فهي بكل ذلك لا تَزيحُ عن مضمون دعايتها الانتخابية المعكوس افتراضياً: العمل بالأمل! بل إنها تلتصق به، ويلتصق بها أكثر.
بعد الانتخابات أيضاً، سمحت الحكومة لمصانع الألبان والأجبان بإنتاج أشباه الألبان والأجبان، أي سمحت بإضافة مواد مثل الزيوت غير المهدّرجة، والنشاء، وأملاح الاستحلاب، والمنكهات الغذائية إلى الحليب ومشتقاته المصنّعة. ولعل هذا ما سيستسيغه بعض الناس أكثر من الألبان والأجبان الحقيقية، فالمسألة هنا لا يحسمها أيُّ جدل يدور حول التَسربُل برداء المقاومة حيناً، وبرداء مجابهة المؤامرة الكونية حيناً آخر أو ما يشبههما، ربما أيضاً خذل السوريون أنفسَهم بأنفسهم، كما لم يفعل شعبٌ قطّ. سكتوا، جاعوا، بايعوا، تشردوا، رقصوا، هاجروا، ثم انتظروا حلولاً لم تأتِ من دول تفهم السياسة بعيداً عن العواطف وأشباه العواطف.
ما بعد الانتخابات هو ما قبلها حرفيّاً، إن لم يكن أسوأ. فحجر العثرة ما زال ماثلاً أمام الأعين، والحديث عن حكم إثني فيدرالي على غرار الإدارة الذاتية للأكراد في الشمال الشرقي، صار أهينَ من الحديث عن حل سياسي يرضاه أغلب السوريين، ويدعمه المجتمع الدولي. وها نحن نسير من شبه إفلاس إلى إفلاس، من شبه حصار إلى حصار، من شبه جوع إلى جوع، ترفدنا سلطةٌ أصابها الفصام الكامل عن الواقع الذي يعيشه الناس بكل مسوغات الإحباط أو ما يشبهه، ولا سيما أننا ننعم بحياة ترفلُ بالأمان، وترعاها باقتدار المافيات الصغيرة والكبيرة وأشباه المافيات على السواء. فالناس باتت تحمل الأسلحة الفردية، وتجاهر بحملها كما لو أنها علب سجائر، تدخن الحشيش كما لو أنها ترشف فنجان قهوة صباحي. كل شيء مباحٌ هنا، والمنظومة الأخلاقية تنتقل برشاقة من شبه انهيار إلى الانهيار.
من أطال فترة العزاء كل هذه السنوات؟! لا أحد يعلم بالضبط. ولا أحد يعلم ما إن كان ثمة نيّةٌ لدفن الجثة التي أزكمت برائحتها أنف العالم، أم سيتركونها تتفسخ فوق الأرض إلى الأبد.