"أنا أعشق بغداد، تثيرني الطاقة المسيطرة على سمائها، انها مدينة ساحرة". لم أسألها عن بغداد، ولم أكن مهتمة بسماع رأيها في بغداد، ولم يهمني على الإطلاق من هي أو أين تعمل. لكن أثارني أن تعشق الموت. أين السحر في مدينة تحترق؟ في أي تربة يولد هذا الإعجاب بالموت؟
هل هو مُعَلَب، يباع كمرفق لسلع هوليوود مثلا؟ السلع التي تفرز لها أجسادنا "الأدرنالين"، أو مع علبة "الكورن فليكس"؟.. وهذه الفتاة أدمنت ولم يعد يكفيها حصة الخوف من الأفلام، فشدت الرحال إلى الخوف الحقيقي، الى بغداد يا قوم، الى "الروليت الداعشية".
في لحظة الصمت الخاطفة لجميع من جلس حول المائدة، التقط نظري عيني جاري، الذي سارع دون مبرر الى تقديمي لها وهي تجلس أمامه مباشرة.
وفي أقل من دقيقة، سكبت لي شلالا من المعلومات والآراء، بما في ذلك عن جنسيتها الايطالية، ودهشة من تلتقيهم بسبب ملامحها الهندية، وعن أنها لا تسكن داخل المنطقة الخضراء في بغداد، وإنما تعيش مع الناس، وتختلط مع أفراد من "داعش" و "النصرة"، وبأن بغداد المدينة الأجمل في العالم.
ترى الحياة في مدينة يموت فيها العشرات كل يوم.. كل يوم! وأنا أسمّي بغداد مدينة الموت، "جاري" على يميني يؤمن على الكلام بأنها مسألة رؤية ورأي، و "سِنان" يعلن بأنه سيكتب عن "بورنو الحرب"، لأن حب الموت في شوارع المدينة له علاقة شائكة بالبورنو! البورنو والأدرنالين وأوجه العلاقة مع الحرب.
منذ أسبوعين فقط، قتل عمار الشهبندر مدير معهد السلم والحرب، الذي درّس المئات من الشباب العراقي على كتابة الخبر في دورات مدتها لا تزيد عن أسبوعين أو ثلاث، اشتغل جميع هؤلاء في 500 صحيفة تأسست على عجل، وفي 350 إذاعة ومثلها من الفضائيات. جميع هذه الوسائل نشرت وبثت أخبار نزاعات قبل أن تحدث حتى. كانت المنافسة على الوصول للحدث قبل أن يحدث، أو اختلاقه أو التأثير على أسباب حدوثه.
تابعت تغطية إحدى الإذاعات التي تبث لإحدى الحارات، لاجتماع لمجموعة من الزعماء الجدد، من الذين يقطنون في الحارة ذاتها، وقال الصحافي "انهم تشاجروا ولم يتم الاتفاق، وأشهروا السلاح"، في اللحظة ذاتها التي استمع أهل الحارة للخبر من الإذاعة التي تبث فقط لحارتهم وبضعة بيوت في الجوار، فتح الجار النار على الجار، وذلك قبل أن يتحققوا من صحة الخبر. كانت النتيجة الدامية تفوق أي وصف أو خبر.
نشبت آلاف مثل هذه الحروب الصغيرة في أنحاء العراق، بسبب التغطية الإعلامية غير المهنية، التي لم يتمكن أفرادها من فهم أهمية المصداقية والحيادية في ما ينقلون، مما أدى بهم لأن يكونوا طرفاً في الحرب الأهلية العراقية وبالتالي هدفا لرصاصها، تماما مثل أي طرف متنازِع فيها.
اما هذه "الفرانشيسكا" الشابة، فاختارت أن تفرك يديها جذلا لدى سماعها لانفجار سيتحول إلى قصة في صحيفتها التي وافقت على نشر ما تكتب، لأنها أصلا ليست عنصرا محميا من طاقمها، بل صحافية حرة تعمل معهم على القطعة، وبالتالي لا تكلفهم حتى ثمن التأمين على حياتها. سينشرون نعيا مقتضبا عند موتها، ولن يكلفهم ذلك أي تعويض لورثتها، ستتحول إلى رقم في المنظمات التي تدافع عن الصحافيين في الحروب.
أو بالأحرى، هي كذابة، اختارت بغداد قضية لحياتها الفارغة، تجلس في غرفة فندق عتمة، وتكتب مثلما يقرض الفأر ممتلكات الآخرين ويعيث في حياتهم فسادا.
بغداد، دمشق، صنعاء، غزة.. لا أحد يحرس الأمل فيها، ومع ذلك تجد إحدى "الفرانشسكات" او أحد "البتريكات" يفركون أياديهم جذلا عند سماعهم انفجارا في احد الأحياء ليكتبوا مقالا بكلمات تفطر القلوب حزنا.
.. تدعوها إحدى المنظمات (غير الحكومية!) لكي تقرأ مقالة حزينة، تطلب فرانشيسكا من الحضور ألا يصفق عند انتهائها من قراءة النص الحزين. لا أجد وسيلة للصراخ، سوى التصفيق الحاد والتصفير، على كذبة الحزن التي تقرأها.