"أريد دم ابني" هذا ما أكدته في لقاء تلفزيوني، والدةُ الناشط العراقي إيهاب الوزني بعد اغتياله في الثامن من أيار/مايو الجاري في كربلاء. نداء والدة إيهاب الوزني ليس جديداً، فقد تردد على لسان الكثير من أهالي النشطاء والمتظاهرين المغدورين قبل ذلك. وقد بلغ عدد حالات اغتيال النشطاء منذ بداية عام 2020 فقط ، 33 حالةً، بالإضافة إلى 21 محاولة اغتيال أخرى نتجت عنها إصابات لم تفضِ إلى الموت.
أثار اغتيال الوزني - الذي كان أيضاً رئيس لجنة تنسيق حراك تشرين في مدينة كربلاء - غضباً وسخطاً كبيرين بين شباب وشابات الثورة، فكان بمثابة قطرة الماء التي أطفحت الكيل الأخيرة. الجهات المرتكبة لتلك الجرائم غالباً ما تكون معروفةً ومحددة بالأسماء، وفقاً لاتهامات مباشرة وجهها أهالي المغدورين والمغيبين مراراً وتكراراً. لكن وعلى الرغم من ذلك، لم يتم التحقيق الجدي بهذه الجرائم، لارتباط تلك الأسماء والجهات بالأحزاب الحاكمة والكتل السياسية المتنفذة. لذلك أُطلقت حملةٌ كبيرة تجدد الدعوة لكشف ومحاسبة قتلة، ومختطفي نشطاء وقياديي ثورة تشرين تحت عنوان "من قتلني؟". فعلقت أسماء المغدورين وصورهم وتواريخ اغتيالهم أو تغييبهم في الشوارع والأماكن العامة في مدن مختلفة من العراق، كما ونشرت أيضاً على مواقع التواصل الاجتماعي مطالبةً حكومة رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي بمحاسبة القتلة. ثم دعا منظمو الحملة إلى تظاهرات تنادي بالمطلب نفسه، تتوجه إلى ساحة التحرير في العاصمة بغداد من مختلف مدن العراق، وتقرر أن يكون موعدها في 25 من أيار/مايو الجاري.
بلغ عدد الاغتيالات التي طالت نشطاء منذ بداية عام 2020 فقط ، 33 حالةً، بالإضافة إلى 21 محاولة اغتيال أخرى نتجت عنها إصابات لم تفضِ إلى الموت.
تعالت الأصوات المعتادة بالاتهام والتخوين للحراك والداعين له والمشاركين به. حتى وصل الأمر بالنائب عن تحالف "الفتح" في مدينة البصرة، فالح الخزعلي، إلى اتهام المتظاهرين بمحاولة الثأر لإسرائيل (!) بعد أن واجهت الأخيرة حملةً شعبية عالمية واسعة بسبب سياساتها العنصرية والدموية ضد الفلسطينيين. جاء الاتهام تزامناً مع قيام مجموعة عددها 2000 شخص من متظاهري ونشطاء "تشرين" بجمع التبرعات والمساعدات، والتوجه بها منذ أيام قليلة إلى الحدود الأردنية، في محاولة للوصول إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة لإعلان الدعم للقضية الفلسطينية. لكن لم يسمح لهم بالدخول إلى الأراضي الأردنية، فقضوا ليلتهم على الحدود وهم يهتفون "تشرين عالمية"، إشارةً منهم إلى أن ثورة تشرين/أكتوبر العراقية تتعدى الحدود الجغرافية إلى مساندة أي حراك ثوري ضد الظلم. بينما لم تقم أحزاب "محور المقاومة" سوى بصلوات جماعية ومهرجانات ومسيرات تندد بإسرائيل، تحمل فيها صور قادة الكتل السياسية المنظمِة أكثر بكثير من علم فلسطين.
اغتيال الباحث العراقي هشام الهاشمي
07-07-2020
ريهام يعقوب، بنتُكَ يا وطن...
23-08-2020
آخر المقتولين برصاص الاغتيال في العراق
18-12-2020
ومع توالي الاتهامات ضد المتظاهرين، من قبيل أنهم يحاولون "تعطيل الانتخابات"، وأنهم يتبعون "الأجندات الخارجية" وغيرها، ومع تزايد العنف ضدهم، قد يرى الكثيرون داخل العراق و خارجه أن الاحتجاج لا يجدي، وأن "كفانا دماً". فالزمرة الحاكمة متشبثة بالحكم، وقد تشعبت مصالحها ونمت ثرواتها من صفقات الفساد وبيع البلاد لدول الجوار، ولا مانع لديها من قتل المزيد والمزيد من المتظاهرين، كما فعلت في "ثورة تشرين" وما بعدها، ومجدداً في يوم 25 أيار/مايو الجاري، الذي شهد قتل متظاهريَن، وجرح 27 آخرين على أيدي القوات الأمنية في بغداد. بينما يرى البعض الآخر أن سلمية الحراك غير مجدية، وأن العنف عليه أن يُجابَه بالعنف أيضاً. في حين ينتظر آخرون الانتخابات، ويدعون لتكوين أحزاب من شباب الحراك في الوقت الذي لا يعترف الكثيرون بشرعية هذه الانتخابات ويدعون لمقاطعتها، لا سيما وأن المطلب الأساسي لثورة تشرين في تعديل قانون الانتخابات لم يتحقق بالشكل المطلوب.
قرر الحراك الجديد تركيز المطالب، فكان لتجديد الاحتجاجات اليوم مطلبٌ واحد لا غير: معرفة القتلة ومحاسبتهم، واستمرار الضغط لفتح هذا الملف الذي بدوره سيكشف الكثير، ابتداءً من دور السلاح المنفلت إلى الولاءات الخارجية، وبالتالي العديد من قضايا الفساد.
في حقيقة الحال، كل الآراء السابقة تبحث عن حلول فورية وسريعة. وقد يكون الوضع الحالي في العراق متأزماً جداً، ويستدعي حلولاً سريعة. لكن واقع الثورات وطبيعتها لا يمكن أن ينتج مثل تلك الحلول. وإن حدثت، فستليها الكثير من الإخفاقات التي قد تكون كارثيةً في أغلب الأحيان، وهذا ما شهده العالم على مر التاريخ. لذلك ما يميز "ثورة تشرين" في العراق، وامتدادها الحالي في "حراك أيار"، هو ثبات الركائز مع استمرار الخطاب بالنضوج. والمقصود بالركائز هنا، مبدأ السلمية أولاً، فحمل السلاح في بلد مثل العراق قضيةٌ خاسرة ستجر البلاد إلى حرب شوارع وعصابات لن ينتصر فيها أحد. وهناك ثانياً، السيادة الوطنية، أي رفض التبعية لأي دولة غير العراق، حتى وإن تقاطعت المصالح في بعض الأحيان. وثالثاً، نبذ الطائفية تماماً، فهي ما ترتكز عليه أحزاب السلطة الفاسدة، وولاءاتها وطريقة إدارتها للبلاد. كما وأنها - أي الطائفية - تتنافى مع فكرة المواطنة العراقية التي ينادي بها الثوار. في الوقت ذاته، نحن نشهد نضجاً جلياً في الخطاب الذي يقدمه الثوار والنشطاء، فهو أكثر وضوحاً وتركيزاً من الخطاب العفوي الذي كان سائداً في بداية "ثورة تشرين" التي انطلقت في 2019. وهذا في حين أن المطالب لم تتغير، فالمواطن ما زال يعاني في كل قطاعات الخدمات شبه المعدومة، إضافةً إلى الوضع الأمني المنفلت، وقمع الحريات المستمر.
قامت مجموعة من متظاهري ونشطاء "تشرين" بجمع التبرعات والمساعدات، حملها حوالي 2000 منهم، وتوجهوا بها منذ أيام قليلة إلى الحدود الأردنية، في محاولة للوصول إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة لإعلان الدعم للقضية الفلسطينية. لكن لم يسمح لهم بالدخول إلى الأراضي الأردنية، فقضوا ليلتهم على الحدود وهم يهتفون "تشرين عالمية".
"ثورة تشرين" مستمرةٌ، ولها قياداتها المنظمة على عكس ما يروج له المتحدثون باسم السلطة، لكن الثوار ليسوا معنيين - على الأقل حالياً - بتشكيل أحزاب والدخول في انتخابات تعيد إنتاج الفاسدين، على قدر ما هم معنيون بكشف الغطاء عن هذا الفساد المتغلغل في المنظومة السياسية، وهم يعون تماماً أن الطريق لذلك سيكون صعباً وطويلاً ومليئاً بالمخاطر.
إلا أن الحراك الجديد قرر تركيز المطالب. فكان لتجديد الاحتجاجات اليوم مطلبٌ واحد لا غير: معرفة القتلة ومحاسبتهم، واستمرار الضغط لفتح هذا الملف الذي بدوره سيكشف الكثير، ابتداءً من دور السلاح المنفلت إلى الولاءات الخارجية، وبالتالي العديد من قضايا الفساد. وسيُسقط فتح هذا الملف الكثير من الانتماءات التي حصنّت القتلة والفاسدين على مدى 18 عاماً منذ بداية الاحتلال الأمريكي للعراق. "ثورة تشرين" مستمرةٌ، ولها قياداتها المنظمة على عكس ما يروج له المتحدثون باسم السلطة، لكن الثوار ليسوا معنيين - على الأقل حالياً - بتشكيل أحزاب والدخول في انتخابات تعيد إنتاج الفاسدين، على قدر ما هم معنيون بكشف الغطاء عن هذا الفساد المتغلغل في المنظومة السياسية. وهم يعون تماماً أن الطريق لذلك سيكون صعباً وطويلاً ومليئاً بالمخاطر.