لا يأتي الاكتشاف المتأخّر لمرض سرطان الثدي لدى السيدة العربية خارج هذه المنظومة التي تدربها منذ نعومة اظفارها على تجاهل ذاتها تحت مسميات الصبر والتعفف والإيثار والتحمل، فتكون النتيجة ارتفاع معدلات الوفاة بمرض سرطان الثدي في البلدان العربية حيث لا تصل نسبة الشفاء الكامل في دولة مثل مصر لأكثر من 30 في المئة بينما تشير المعدلات العالمية الى ارتفاع نسبة الشفاء منه فى حالة الاكتشاف المبكر الى 95 في المئة.
الفوز بالعلاج الأساسي فقط
في مصر تأتي الصورة محملة بكافة عناصر الوجع، حيث امرأة تكتشف متأخرة إصابتها بمرض خطير، وهي لا تملك نفسيا او اجتماعيا او مادياً القدرة الحقيقية على مواجهته، فتكون النتيجة وحسب احصاءات المشروع القومي لمكافحة الأورام في مصر، ان تحتل الخلايا السرطانية أثداء 35 في المئة من المصريات بينما لا تتخطى المؤشرات العالمية بأغلب الدول الغربية الـ 8 في المئة.
من الساحة الرئيسية بالدور الرابع بمعهد ناصر الحكومي حيث تتراص أجهزة الإشعاع والمقاعد الطبية المخصصة لتلقي الدواء الكيماوي، تتواجد عشرات السيدات يومياً على اختلاف أعمارهن وديانتهن، تبدو عليهن علامات الخوف أكثر من الوهن. ينطوي هذا المبنى المدعم بطبقة خرسانية عازلة على تجربة إنسانية تحتاج بالتأكيد، الى جانب العلاج الطبي، الى دورات تأهيل نفسي واجتماعي وخبراء تغذية وإخصائيي تخفيف الألم، وهو ما يطلق عليه عالمياً فى مجالات علاج الأورام بـ "الطب التلطيفي"، ولا يمكن بالتأكيد توفيره في مصر على أية حال في ظل الظروف الاقتصادية التي يصبح معها الحصول على قرار "علاج على نفقة الدولة" هو الأمل المنشود لكل مريضة. ومن ثم تتكفل هي بمواساة نفسها وتدريبها على تحمل خوض التجربة.. وحدها .
غالباً، لا تقل دورة الحصول على العلاج أقل من سبع مرات، سبع زيارات تعرف فيها السيدة المصرية معنى الانتظار الصعب لتلقي علاج موجع على أمل الوصول لشفاء يبدو بعيداً. تبدأ الرحلة مع تذكرة الكشف بالعيادة الخارجية التي تعمل من الثامنة صباحاً، ووصول السيدة في حوالي التاسعة والنصف يسمح لها بحيازة مركز متقدم في طابور الانتظار، فتحمل ورقة صغيرة مكتوب عليها رقم "14" غالباً، تخرج من هناك بورقة تنطوي على كلمات انجليزية صغيرة لا تعيها، لكن تأخذها أقدامها الى معمل التحاليل لسحب عينة من نسيج ثديها التي تخبرها طياته انه لم يعد كما كان أبداً.
لا يوجد بحبوبة من الوقت تكفي من أجل استيعاب الأمر وتقبله. فالمرض غالباً دخل مرحلته الثالثة ومن ثم لا بد سريعاً من اجراء تدخل جراحي للاستئصال وبدء العلاج للقضاء على باقي الخلايا السرطانية. لكن هناك عائقا قويا وكبيرا يطرحه هذا الزائر الذي يتحول بلحظات قليلة للهم الأكبر، وهو "توفير المقابل المادي المطلوب لإجراء الجراحة". يوجد طريقان لا ثالث لهما: اما السعي سريعاً نحو مبنى المجالس الطبية المتخصصة على أطراف القاهرة، وهو الطريق الوعر بكل تأكيد حيث تستطيل الطوابير بشكل لا يمكن استيعابه الا بقراءة قائمة الأمراض التي يغطيها العلاج على نفقة الدولة، ومن ثم يصبح الانتظار غير مضمون العواقب، ولهذا تسعى أغلب الأسر المصرية وهي محدودة او متوسطة الدخل، الى إجراء العملية الجراحية على نفقتها الخاصة حتى صدور القرار، والاستفادة منه في مرحلة العلاج الاشعاعي والكيمائي فقط.
مستورة؟
تجربة كمرض السرطان تكشف سريعاً وهم فلسفة "مستورة" التي تدار بها أغلب البيوت المصرية، فتساوي تكلفة مواجهة المرض بين الغالبية العظمى، ولا يفلت من ذلك الا الشريحة فوق المتوسطة والعليا والتي لا تمثل الا 20 في المئة من حجم السكان. أما ما دونها فلا يتمكن بالتأكيد من مجاراة المصروفات المطلوبة حيث لا تقل تكلفة إجراء العملية عن 10 آلاف جنيه بينما تتراوح تكلفة تلقي العلاج ما بين 30 ـ 150 ألف جنيه حسب نوع الدواء المستخدم.
وهكذا يعكس المرض، كغيره ولكن هذه المرة بطعم مرارة خاصة، حالة التفاوت غير العادي وكأن شعبين يعيشان فوق الأرض نفسها، حيث من جهة مراكز العلاج الفخمة المنتشرة بالأحياء المترفة، وعلى الجانب الآخر مراكز العلاج الحكومي والتي لا يزيد عددها عن 11 مركزا على مستوى الجهورية، تابعين لوزارة الصحة، إضافة إلى صرح كبير وعظيم رغم حجم السلبيات الذي يضمه، وهو معهد الأورام القومي التابع لجامعة القاهرة. الصورة من أمامه لا تحتاج لشرح، حيث كثافة أعداد المرضى وقلة الامكانيات البشرية والمادية أمر لا تخطئه عين، ناهيك عن هذا الاحساس غير المرئي الذي يصدق مع البعض ويمحي مع آخرين، وهو فقدان المريض إحساس التعاطف والرفق به من معالجيه ممن يعيشون بدورهم في منظومة استهلاك مختلفة.
أزمات تهالك المبنى القديم، قلة عدة الأسرّة، نقص فصائل الدم، تعطل جهاز الأشعة، انسحاب شركة النظافة لعدم حصول العاملين على مرتباتهم، نقص أنواع هامة من الأدوية العلاجية وإضطرار المريض المعدم الى تحملها مرغماً رغم هذا القرار الممهور بختم الجمهورية والذي يقر بحقه في الحصول على العلاج مجاناً.. لكن ماذا تفعل الإدارة مع تراكم مديونيتها لشركات الأدوية؟ وفق البيانات الرسمية المعلنة فإن حجم الميزانية السنوية من الدولة لا يزيد عن 50 مليون جنيه، ولا تغطي أكثر من 30 في المئة من حجم المصروفات بينما تتكفل التبرعات التي تصل الى 150 مليون جنيه بتوفير كلفة الخدمات العلاجية التي يستفيد منها 240 ألف مريض سنوياً بزيادة 25 ألف مريض سنوياً كمريض حديث.
ولأن زلازل الاهمال لا تتوقف، فقد تعرض هذا المكان الذي يستوعب ما لا يقل عن 40 في المئة من أعداد مرضى السرطان في مصر لتصدع مبنى كامل، وبهذا اختفت من الوجود 6 غرف عمليات رئيسية و300 سرير. وعلى الرغم من أن أولى الزيارات الميدانية لرئيس الحكومة الحالية كانت لهذا المبنى، فإن شيئا لم يتغير على الأرض. وهذه الصورة لا تتغير كثيراً داخل المستشفيات الحكومية، وأمام الأرقام التي تعلنها الحكومة المصرية والتي تشير إلى ذهاب ثلث ميزانية العلاج على نفقة الدولة، والتي تتراوح ما بين 2.5 إلى 3 مليارات جنيه سنويا، لعلاج مرضى السرطان، فإن التقديرات المطلوبة وفق نقابة الأطباء المصرية لا تقل عن 11 مليار جنيه سنوياً من اجل تحقيق حلم علاج المصريين دون شقاء.
تولد مستشفيات خيرية جديدة تنضم لقائمة مؤسسات علاجية أهلية تحاول شق طريقها وسط هذا الضيق المادي الخانق، فتساعد في خلق بسمة ما تخرج من صدور مريضة. ويأتي "الكشف المبكر عن سرطان الثدي" في المقام الأول، وكأنه دعوى مجتمعية لأن تلتفت كل سيدة لصحتها ولا تنسى حقها في الحياة. وفي احتفال أخير بمناسبة عيد الأم، تم الكشف عن حجم الدور الذي تلعبه تلك المؤسسات فى مواجهة ليس المرض وحده، ولكن كلفة علاجه، وعدم امكانية تصنيع العلاجات محليا حيث يصل سعر بعض الأدوية الكيمائية الى 50 ألف جنيه بينما لا تتمكن الدولة من توفير إلا أنواع محدودة تتراوح أسعارها بين 800 ـ 5000 آلاف جنيه. ووسط هذه الأرقام المعلنة تكمل كل مصرية بسيطة تحمل في طياتها هذا المرض، طريقها الملغوم، داعية الله أن يكتب لها الشفاء. دعاء يأتي بدوره، وحسب منظومة القيم التي هذبتها وأرهقتها عمراً، من أجل آخرين قبل أن يكون من اجل ذاتها.