لبنان: ملهاة سوداء

لبنان هو بلد الفساد المعطوف على وقاحة من الفاسدين قل نظيرها. المنظومة المصرفية ومرفأ بيروت كانا مفخرة النظام القائم، وهما وصلا إلى الحضيض، ولكنهما صارا يشتغلان وفق قواعد أخرى، مستترة وغامضة ومافياوية أكثر من سابقتها، وهو ما يحتاج فعلاً إلى استطلاع ودراسة يتجاوزان الشتائم، المحقة كلها، ولكن التي صارت حتى لا تشفي الغليل.
2021-02-25

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
صدام الجميلي - العراق

يمضي اللبنانيون وقتهم – أغلبية كبيرة منهم، وجلّ يومهم - في توفير مستلزمات الحياة لأسرهم. الرزق طبعاً، وتوفيره شاق، وإنما، ومع وجوده بالحد الأدنى، أو حتى بحدود معقولة، مجابهة مشكلات الكهرباء والماء والدواء، وفقدان العديد من المواد الضرورية، وليس فحسب ارتفاع أسعارها. حليب الرضع والأطفال الصغار مثالٌ، وهي أزمة ممتدة منذ أكثر من شهرين. وقد صار مألوفاً أن يجوب المرء الصيدليات كلَّها في دائرة سكنه، ثم يوسّع الدائرة، ثم يتصل بمعارفه في محافظات أخرى بحثاً عن علبة حليب لرضيع، ليس لها بديل، وبحثاً عن دواء ضروري، وهكذا..

يحدث ذلك في بلد طَبَعه على الدوام أنه غير منتج، وأنه يستورد كل شيء أو يكاد. وقد ضاعف من الأزمة "انهيار الثقة" بكل المؤسسات. فمن يقرّر أن هذا الدواء المتوفر كبديل – سواء كان مصنّعاً في لبنان، أو مستورداً من دول الجوار أو من الأقاصي – ليس مزوراً أو فاقداً للصلاحية، طالما لا رقيب ولا حسيب، وطالما الفساد يضرب أطنابه في بلد الإشعاع والنور. ويبدو أن المفتقد اليوم هو اللقاحات التي يحتاجها حديثو الولادة والأطفال الصغار، ممن لا يمكن التساهل بمواعيد إعطائها لهم. فلنكن واضحين: هذا ينطبق على المستوصفات التي يلجأ إليها أصحاب الدخول المحدودة، أو من كانوا بلا دخل أصلاً، كما ينطبق على المستشفيات "العادية"، وليس على تلك البضعة القليلة المنتمية إلى الـ"فيرست كلاس"، حيث يسدّد الأهل برحابة صدر ما يُطلب منهم كأثمان. هل سنشهد عودة أمراض وبائية كشلل الأطفال والحصبة والخانوق الخ.. من التي قُضي عليها، لأنه سيتم إهمال التلقيح؟! وهل تكفي اليافطات الإعلانية في الشوارع، التي تحث الأهل على تطعيم أبنائهم، وبعضها – التابع لمنظمات دولية - يتعهد مشكوراً بالمهمة؟

مقالات ذات صلة

لن نتكلم عن لقاحات كورونا. الفضيحة عُرِفت. 28 ألف لقاح هي الدفعة الأولى، الهزيلة بشكل يستدعي السخرية – بينما يحتاج لبنان إلى 6 ملايين وحدة. وسلطاته تباهت بأنها ستعطي اللقاح إلى كل المقيمين، أي إلى الفلسطينيين والسوريين أيضاً: فجأةً اختفت العنصرية المرعبة! ويُرجّح أن السر ليس إنسانياً ولا أخلاقياً بل هو مالي. فهذا القرار يوفر أبواباً للسرقة الإضافية، تبدأ من مسؤولين في السلطة وتشمل دوائر لا حصر لها من المتداولين في الأمر. اللقاحات التي وصلت ذهبت بأغلبيتها الساحقة إلى غير مستحقيها. قال مسؤول في مجلس النواب اللبناني إن النواب الحاليين والسابقين حصلوا على اللقاح لأنهم أكثر من "يشتغل"! في إسبانيا، استقال رئيس أركان الجيش، ميغيل أنخل فيلارويا، البالغ من العمر 63 عاماً، لأنه تجاوز دوره، وحصل على اللقاح، وتلاه عدد من الضباط رفيعو الرتب للسبب نفسه. أما رئيس الحكومة اللبنانية المستقيلة، والتي "تصرّف" الأعمال، فأعاد مرات بافتخار فُهِم منه التمنّن، إنه - انظروا - فهو لن يتناول اللقاح اليوم لأنه ليس دوره. وكان ذلك خلال حضوره حفل إطلاق حملة التلقيح في منتصف شهر شباط/ فبراير الجاري. أما نائب رئيس مجلس النواب اللبناني، الذي تخطّى دوره، فهدد بطرد المدير الإقليمي للبنك الدولي، وطالبه بالاعتذار، لأن الرجل استنكر التصرف باللقاحات، ولوّح بتعليق تمويل البنك لها (خَصص 34 مليون دولار لهذه الغاية حتى الآن). لبنان هو بلد الفساد المعطوف على وقاحة من الفاسدين قل نظيرها. وعلاوة على كل ذلك، يجري تداول أسماء صيدليات توفّر اللقاحات التي لا تحتاج إلى تدابير معقدة، كالتبريد وسواه، في سوق سوداء.

وكل ذلك بات مألوفاً من اللبنانيين الذين تحتجز المصارف أموال من أودع منهم فيها أي مبلغ (المودِعين الصغار، لأن الحيتان هرّبت أموالها)، ولا تهتم سلطتهم بالبحث عن حلول للانهيار المشهود، بل تتجاهله تماماً وتتجاهل مثلاً مصائر الطلبة الذين يتابعون دراستهم في الخارج، ويمكن لأهاليهم تدبر تمويل ذلك لو حُررت أموالهم (يعني لا يطلبون منحاً ولا قروضاً، وإنما تمكينهم من إنقاذ أبنائهم بمالهم الخاص المحتجز)... مألوفاً في بلد مضى على انفجارٍ مجرمٍ لمرفئه سبعة أشهر، في مشهد آخِروي قَتل 200 شخص وجرح الآلاف، ودمر أحياءً بكاملها وشرد أهلها.. ولا من يُساءَل.

مقالات ذات صلة

المنظومة المصرفية ومرفأ بيروت كانا مفخرة النظام القائم، وهما وصلا إلى الحضيض، ولكنهما صارا يشتغلان وفق قواعد أخرى، مستترة وغامضة ومافياوية أكثر من سابقتها، وهو ما يحتاج فعلاً إلى استطلاع ودراسة يتجاوزان الشتائم، المحقة كلها، ولكن التي صارت حتى لا تشفي الغليل. بينما يهيم الناس على وجوههم - والبعض يقول أن ذلك مرتّب تقصّداً بغاية الإلهاء، وفي ذلك تفاؤلٌ لا يريد أن يرى أن وضع لبنان منهار فعلاً - بحثاً عن.. راجع مطلع النص!

... "لا توجد فضائل سياسية من دون اعتزاز بالنفس، ولا يوجد اعتزاز بالنفس في المحنة" (وفق سان جوست أحد أبرز قادة اليعاقبة خلال الثورة الفرنسية). 

مقالات من لبنان

كلنا مستهدفون، كلنا HVT

خوف الناس من وحشية آلة الحرب الإسرائيلية قد تحوّل إلى خوف من بعضهم البعض. وصار هاجسهم ألا يكون الشخص الذي يقف إلى جانبهم، أو ذاك الذي يقود السيارة التي تسير...

للكاتب نفسه

كنيساً يهودياً في باحة "الأقصى"

تتجسد معاني "خروج الحسين"، لمواجهة الطغيان، هو وأهله وكل من يخصه - مع معرفتهم المؤكدة بما يقال له اليوم في اللغة السياسية الحديثة "اختلال موازين القوى" لغير صالحه - في...