الجزائر: لئلا يُحوَّل ترسيمُ اللغة الأمازيغية إلى جدل "هوياتي" عقيم

يقترح مشروع الدستور الجزائري المعدّل في مادته "3 مكرر" الاعترافَ بالأمازيغية لغةً "رسميةً" إلى جانب "اللغة الوطنية والرسمية"، العربية. ولا يسع كلَّ عارف بما يمثله عدم حل المشاكل اللغوية العالقة من تهديد لكيان المجتمع الجزائري سوى أن يرحب بهذا الترسيم، لأنه يهيئ الميدان لسياسة ثقافية جديدة لا تهميش فيها للغة رُبع الجزائريين بل ربما ثُلثهم. ولا يغيّر من الأمر شيئا
2016-01-21

ياسين تملالي

صحافي من الجزائر


شارك
رمضان حسين - سوريا

يقترح مشروع الدستور الجزائري المعدّل في مادته "3 مكرر" الاعترافَ بالأمازيغية لغةً "رسميةً" إلى جانب "اللغة الوطنية والرسمية"، العربية. ولا يسع كلَّ عارف بما يمثله عدم حل المشاكل اللغوية العالقة من تهديد لكيان المجتمع الجزائري سوى أن يرحب بهذا الترسيم، لأنه يهيئ الميدان لسياسة ثقافية جديدة لا تهميش فيها للغة رُبع الجزائريين بل ربما ثُلثهم. ولا يغيّر من الأمر شيئا كونُه سيتم في إطار سياسي تسلّطي، إطار تعديل دستورٍ هو ذاتُه فُرض على الجزائريين فرضاً من دون أدنى احترام للقواعد الديموقراطية.
لكن، في الوقت ذاته، يحق لنا التساؤل عن الأهداف غير المعلنة التي يعتزم النظام بلوغَها من وراء إعلان عزمه على ترسيم الأمازيغية، فإدراكها ضروريٌّ للنظر إلى قراره هذا نظرة واقعية، من دون تحمس زائد. من الصعب أن يوهمنا حكام البلاد بأنهم، هكذا فجأة، من دون سابق إنذار، اقتنعوا بحقوق الناطقين بالأمازيغية إلى درجة ترقية لغتهم إلى مصفّ لغة رسمية (لا "وطنية" فحسب كما هو حالُها منذ 2002). ويزيد إيهامنا بذلك صعوبة أنهم اتخذوا قرارهم في ظرف يميزه تراجع التحركات الشعبية في المنطقة القبائلية، تراجعاً شبه تام، ونجاح الأحزاب الرسمية (جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديموقراطي) وشبه الرسمية (الاتحاد من أجل الديموقراطية والجمهورية) في تحسين انغراسها فيها بشكل غير مسبوق منذ بدء التعددية الحزبية في 1989.
أوّل ما يتبادر إلى الذهن من دوافع ترسيم الأمازيغية هو أمل النظام في أن يتيح له ذلك إشراك المنطقة القبائلية في الإجماع - الشكلي - الذي ينوي الوصول إليه حول مشروع الدستور الجديد، وكذا تقليل حظوظ الحركة من أجل تقرير مصير المنطقة القبائلية (برئاسة فرحات مهني) في اجتذاب المزيد من الشباب الراديكالي.
ثاني هذه الدوافع قد يكون الرغبة في تحييد قسم من النخب السياسية والثقافية في المنطقة القبائلية (الوحيدة التي يُعدّ فيها المطلب اللغوي الأمازيغي بحقٍّ مطلباً جماهيرياً)، وذلك عن طريق الإدماج في الإدارة العمومية وأكاديمية اللغة الأمازيغية المزمع إنشاؤها بنص مقترح الدستور الجديد. وينبغي أن نذكِّر هنا بأن تدريس اللغة الأمازيغية في سلك التعليم العام وإنشاء المحافظة العليا للأمازيغية - وإنْ شكلّا تنازلين مهمين لحركة مقاطعة المدارس في المنطقة القبائلية في 1994/1995 - أسفرا عن اندماج قطاع من مناضلي الحركة الثقافية الأمازيغية في الأطر الرسمية، سواء في مجال التعليم أو في هيئات المحافظة المذكورة. وليس من الصدفة أن بدأ مسار اختفاء الحركة الثقافية الأمازيغية من الساحة السياسة تحديداً في 1995، وهو ما حرم التحركات الشعبية في المنطقة القبائلية (1998 بعد اغتيال المغني معتوب الوناس، انتفاضة "الربيع الأسود" في 2001) من قيادة متمرِّسة وفتح الباب على مصراعيه لتطوّر حركة فرحات مهني شبه الانفصالية.
وأخيراً، وبالنظر إلى براعة النظام في استغلال المسائل اللغوية والثقافية بما يخدم مصالحه الآنية الضيقة، لا يُستبعد أن يستهدف قراره بترسيم الأمازيغية على المدى القريب إلهاء الرأي العام عن واقع إعادة توجيه دفّة الاقتصاد في الأشهر الأخيرة وجهةً ليبرالية صريحة. لن نستغرب كثيراً إن رأينا أجهزته الخفية - حتى وإن تضارب ذلك مع الخطاب الحكومي الرسمي - تسعى إلى إدخال الجزائريين في متاهات من الجدل حول مغزى ترسيم الأمازيغية، وهل هو تهديد لـ "هويتهم الأصيلة" أم لا. ذلك أنه من مصلحة الحكّام وكوكبة رجال الأعمال المتحالفة معهم من ناهبي الموارد العمومية أن يُغْرِق الرأي العام في التأمل في "هوية" الجزائر العربية الأمازيغية المغاربية المتوسطية الأفريقية الأرضية الكونية.. كي لا ينشغل مثلا بتقليص دعم الدولة للأسعار - فاتحة لإلغائه تماماً - وما إلى ذلك من قرارات عظيمة اتُّخذت عبادة لإله التقشف العالمي.

هذه (بعض) حسابات النظام المحتملة، لكنها لا يجب أن تُنْسينا واقع أنّ الجزائر سيكون لها قريباً، على الأقل دستورياً، لغتان رسميتان لا واحدة فقط هي العربية. وقد بدأ الجزائريون يتساءلون فعلاً عن معنى ترسيم الأمازيغية وحدود تطبيقه الإدارية (جميع المناطق الأمازيغية أم بعضها أم البلاد كلُّها؟) وإن كان سيعني "تمزيغ" الإدارة والقضاء والصحافة، وعلى أي مدى زمني، الخ... لا جواب ممكن على هذه التساؤلات اليوم، إذ لا وجود لأي نص تشريعي قد يساعدنا على تحديد معنى عبارة "الأمازيغيةُ كذلك لغة وطنية ورسمية" الواردة في نصّ مقترح التعديل الدستوري. من هذا المنظور، ما سيحدّد محتوى "المادة 3 مكرر" هو ميزان القوى على الأرض، حين يحين أوان النقاش البرلماني عن القانون العضوي المؤوّل لهذه المادة وتحديد مهام أكاديمية اللغة الأمازيغية واختصاصاتها.
ومن دون إهمال كون ترسيم الأمازيغية سيعطي أسلحة قانونية لا يستهان بها لمناضلي "القضية الأمازيغية"، يجب أن ننظر إلى "أثره الذاتي" إن صح التعبير، بعين النسبية في بلد تعديل الدساتير فيها هواية الحاكمين. ولا بدّ في هذا السياق من الإشارة إلى أن تدريس الأمازيغية في المنظومة التعليمية العمومية بدأ في 1995، أي سبع سنوات قبل الاعتراف بها لغة وطنية في الدستور. كذلك، لم تستطع اللغة العربية فرض نفسها في العديد من المجالات برغم أنها لغة البلاد الرسمية الوحيدة منذ 1962، فيما تحتل الفرنسية، على عدم تحديد وضعها بقانون أيّا كان - ناهيك عن الدستور - مكانة لغة ثانية في الإدارة والسلك التعليمي والإعلام وفي القطاعين الاقتصادي والمالي.. بل ويصاغ بها - كما يعرف الجميع - جزءٌ من تشريعات البلاد في الجريدة الرسمية.
وباختصار، من دون ضغط منظَّم من المعنيين بالأمر، أي الناطقين بالأمازيغية أنفسهم، قد يُغرَق ترسيم لغتهم في بحر من التسويف سيبرَّر تارة بضرورة توافق "الخبراء" حول مسار تنميط اللهجات الأمازيغية، وتارة أخرى بالكلفة المادية لسياسة البلاد اللغوية الجديدة في سياق اقتصادي تقشفي، الخ..
هذا التسويف غير مستبعد البتة، وعدا أنه ينذر بتأجيل ترجمة ترسيم الأمازيغية على أرض الواقع سنوات طويلة، فقد يهدر فرصة - ربما هي الأولى من نوعها منذ الاستقلال - لتناول المسائل اللغوية بشكل براغماتي (ما هي اللغات التي نحتاج إليها اليوم؟) والخروج من الجدل "الهوياتي" العقيم (مَن أكثر أصالة، "العرب" أم "الأمازيغ"؟) وما يرافقه من شوفينية وشوفينية مضادة تهددان كيان الجزائر أجمعها بالاندثار.. "عربها" و"أمازيغها".

مقالات من الجزائر

للكاتب نفسه

الجزائر: اللغات وهستيريا الهويات

الجزائر لم تغوِها بعد دعوات المنظمة الدولية للفرنكوفونية إلى الانضمام إليها، إلا أن الفرنسية فيها تحتلّ مكانةً هي أشبه بمكانة لغة رسمية ثانية إلى جانب العربية. فبرغم أن وضعَها القانوني...