أعلن رئيس الوزراء المصري عن تنفيذ التعهدات الخليجيّة بتمويل اقتصاد بلاده، التي تُقدّر بـ 12 مليار دولار، وأن هناك مفاوضات لتمويل مشروعاتٍ استثماريّة مُختلفة. بثّ تدفّقُ هذه المساعدات، مصحوبا ببدء مرحلة انتقاليّة سياسيّة جديدة، أجواء من الحيويّة انعكستْ فورا في ارتفاع أسعار البورصة المصريّة، وشيوع تفاؤل بإمكانيّة إخراج الاقتصاد المصري من أزمته العميقة. فهل يُمكن مساعدة الاقتصاد المصريّ بالفعل من خلال هذا التمويل؟ وهل يُمكن أن يؤدّي هذا لتمهيد الطريق لتشكيلِ نظام سياسي أكثر استقرارا في بيئة تتمتّع بالسيولة السياسيّة العالية وسقف المطالب الاجتماعيّة المُرتفع؟ إن إدارة الأزمات الماليّة للدولة مسألة سياسيّة بالدرجة الأولى، تتّصل باختيار السلطة لانحيازاتها الاجتماعيّة عبر كيفية استخدامها لموارد الدولة وشكل توزيعها. كما أن حجم الاستفادة من المعونات الخليجيّة سيكون مرهونا بمداها الزمني، وبشكل استثمارها في المدى المتوسّط. وفي الخلاصة، فإنّ سؤال الاقتصاد المصري اليوم ليس تقنيّا فحسب، بل هو سياسي، يرتبط وثيقا بإعادة هيكلة الاقتصاد الكلّي لصالح بناء قاعدة اجتماعيّة مُحدّدة الملامح لنظام سياسيّ أكثر استقرارا ومقدرة على الاستمرار.
سنة مرسي: سياسة اقتصاديّة قاصرة
تجسد الملمح الأساسي الذي يُمكن رصده خلال عهد مرسي في الميل الواضح للاستدانة بُمختلف أشكالها كاستجابة للأزمة. وقد لفت تقرير «المبادرة المصريّة للحقوق الشخصيّة»، المعدّ لمناقشة الوضع الاقتصادي خلال تلك الفترة، الى أنّ مداخل حل الأزمة الاقتصاديّة اقتصرتْ على سدّ العجز المتنامي في الموازنة من خلال اللجوء إلى إجراءات قصيرة الأجل، والاعتماد المُكثّف على الاقتراض، بدلا من تصميم سياسات تتعامل مع جذور الأزمة الهيكليّة في الاقتصاد المصري.
وقد حَفًز هذا المنطق للتعامل مع الأزمة في الواقع شكلين من الاستدانة. تمثل الأوّل في السعي الدؤوب للحصول على قرض صندوق النقد الدولي بقيمة 4.8 مليارات دولار، وهو ما يرتبط بمجموعة شروط تستهدف بالدرجة الأولى اعتماد إجراءات تقشفيّة من خلال تقليل الإنفاق الحكومي وفرض ضرائب جديدة. وقد سعت حكومة مرسي للاستجابة لهذه الشروط من خلال خطوات هدفتْ لزيادة أسعار الغاز والمازوت المستخدمين في الصناعات الثقيلة، وزيادة ضرائب وأسعار سلّة مُحدّدة من السلع، وأخيرا، العزم على تنفيذ برنامج ترشيد الدعم للوقود من خلال بطاقات الحصص الذكيّة. وواجهتْ كلّ هذه
الإجراءات مُعارضة شعبيّة كبيرة، فتراجعت عنها الحكومة، ولكن بعد أن كانت الضغوط التضخميّة قد وجدت طريقها لترفع الأسعار وتزيد من الحنق الشعبي ضدّ مرسي. وفي المحصّلة، لم تستطع حكومة مرسي تلبية الشروط، ما دفع صندوق النقد لوقف المفاوضات حول القرض وإرجاء دفعه لأجل غير مُسمى. وكما يستخلص تقرير المُبادرة المصريّة، فإنّ السعي للحصول على القرض كان يقوم على تصوّر بأنّه سيمنح «جواز مرور» للحكومة لمزيد من التمويل الدولي. أي أنّه كان حلا مرحليّا لاجترار المزيد من الحلول المرحليّة. تمثّل الشكل الثاني للاستدانة في الاعتماد على المواطنين المصريّين لتمويل عجز الموازنة. وقد شهدتْ أرقام الماليّة العامّة المصريّة انحدارا غير مسبوق بسبب ارتفاع نسب الاستدانة الداخليّة والخارجيّة. وطبقا لتقريرٍ لوزارة الماليّة المصريّة، ارتفع عجز الموازنة الكلّي كنسبة من الناتج المحلّي إلى 11.8 في المئة خلال الفترة بين تموز/يوليو وأيار/مايو 2012-2013 ليبلغ 204.9 مليارات جنيه مُقارنة بعجز قدره 136.5 مليار جنيه خلال الفترة نفسها من العام السابق. أمّا تمويل هذا العجز فقد تمّ بشكل رئيسي من خلال الاستدانة الداخليّة، عبر إصدار سندات وأذونات خزانة جديدة أو من خلال الاقتراض من البنوك المحليّة، أي من ودائع المواطنين المصريّين أنفسهم. وتعكس أرقام وزارة الماليّة المصريّة، مُجدّدا، هذا الميل المُفرط للاستدانة الداخليّة، إذ تقول أنّ إجمالي الدين العام المحلّي قد ارتفع من 1052.7 مليار جنيه في آذار/مارس 2012 إلى 1342.2 مليار جنيه في آذار/مارس 2013.
بالإضافة لهذين الشكلين، أدّى صعود الأخوان المسلمين للسلطة لتدفق مُساعدات من دول مُحدّدة وعلى رأسها قطر، التي ضخّت مساعدات بقيمة 8 مليارات دولار خلال عهد مُرسي. يُمكن إدراج هذه المساعدات تحت مسمّى «الريع السياسي». وقد كان لافتا مؤخّرا إعادة البنك المركزي المصري لوديعة قطريّة قيمتها 2 مليار دولار، كتعبير عن التبدّل في مصادر الريوع السياسيّة بعد إسقاط مُرسي. وفي الخلاصة، لم تستطع هذه المساعدات، ومعها كلّ الديون التي حمّلها مُرسي للخزانة المصريّة، أن تُشكّل استجابة عمليّة لحاجات المصريّين المُتعلقة بعيشهم اليومي، وراكمت مزيدا من الغضب الذي انفجر في وجهه مُرسي وأسقطه بعد عام واحد فقط من انتخابه.
من دولة الريع إلى دولة الجباية
يثير هذا سؤالا يتعلق بكيفية إدارة السلطة لمواردها الماليّة كشأن سياسيّ بالدرجة الأولى. فالموازنة العامّة التي تضعها أيّ سلطة وتُحدّد فيها مصادر إيراداتها وأوجه إنفاقها، تعكس في الواقع علاقتها مع مُجتمعها. فالموارد الضريبيّة للدولة، وطبيعة الأوعية الضريبيّة المُستخلصة منها، يحددان النمط الذي تتبنّاه هذه الدولة لإعادة توزيع الثروة، وبالتالي طبيعة القواعد الاجتماعيّة التي ترتكز عليها. وقبل ما يزيد عن عقدين، كتب حازم الببلاوي، رئيس الوزراء المصريّ الحالي، أطروحة شهيرة عن «الدولة الريعيّة»، التي عزا فيها الملامح الاستبداديّة للدول العربيّة إلى اعتمادها الكبير على المصادر الريعيّة للدخل، مثل عوائد النفط، بحيث لا تكون بحاجة لمُجتمعاتها. وقد توسّع مفهوم الريع عن حدوده المعروفة في الاقتصاد الكلاسيكي ليشمل أيضا الموارد المُتحقّقة للدولة نتيجة لموقعها الاستراتيجي أو أدوارها الأمنيّة والسياسيّة خارج حدودها.
في دراسته الهامّة، المُعنونة «النظام القوي والدولة الضعيفة»، يستخلص الباحث سامر سليمان، من خلال قراءة إيرادات الدولة المصريّة خلال ثلاثة عقود، أنّ نموذج الدولة الرعوية الريعيّة قد تآكل لصالح نموذج دولة الجباية. فبعد عقود من اعتماد الدولة المصريّة الكثيف على المصادر الريعيّة في تمويلها وتدفق المساعدات التي يمكن تصنيفها على أنّها ريع سياسي، تحولت الى دولة جباية من مواطنيها لأنّها باختصار فقدت جزءا كبيرا من إيراداتها. ويلفت الباحث الى أنّ هذا النمط من العجز المزمن في الموازنة واللجوء إلى الاستدانة الداخليّة لعلاجه، واللذين أصبحا من السمات البنويّة للاقتصاد المصري، ساهما في فقدان النظام لما سمّاه «القوة الشرائيّة السياسيّة»، إذ لم يعد قادرا على تقديم شيء لمُجتمعه نتيجة انحسار مظلّته الاجتماعيّة. وقد أسهم هذا في نشوء قوى اجتماعيّة منفصلة عن النظام، يُمكن أن تُشكّل «بنية تحتيّة ماليّة» لتحوّل ديموقراطي في مصر. واليوم، مع إعادة عمليّة حقن المُساعدات الخليجيّة في الاقتصاد المصري، يمكن استخدام الإطار الذي وضعه سليمان لمُساءلة جدوى هذه المُساعدات وقدرتها على الدفع في اتجاه نشوء نظام أكثر استقراراً في ظل الأزمة الاجتماعيّة والماليّة التي تعيشها البلاد.
خطة مارشال؟
في تقرير حديث ٍلوكالة «ستاندرد آند بورز» المُختصّة بنشر تحليلات وتقييمات حول الأوضاع الماليّة للدول المُختلفة، قُيّم وضع الماليّة العامّة المصريّة بوصفه «ضعيف جدا». وقد عزت الوكالة ذلك إلى العبء الكبير على بنود الموازنة المصريّة الذي يُشكّله نظام الدعم الحكومي وخدمة الدين العام المُرتفعة. ويرى التقرير بأنّ قدرة الدولة المصريّة على زيادة إيراداتها أو تخفيض نفقاتها كسُبلٍ لحلّ هذه المشكلة تبقى محدودة. وحين يُناقش تأثير المعونات الخليجيّة الأخيرة لمصر، يَخلُصُ إلى أنّها سوف تُقلّل الضغط على العملة المحليّة التي فقدت 17 في المئة من قيمتها منذ بدايات العام 2011 بسبب دعمها لاحتياطيّات مصر من النقد الأجنبي. يُشير التقرير أيضا إلى أنّ هذه المعونات ستُخفّض من احتمالات نشوء أزمة في ميزان المدفوعات في المدى القصير.
إحدى أهمّ المشكلات البنيويّة الخطيرة التي تواجه الاقتصاد المصري هي اعتماده على الخارج بشكل كبير. فمصر تستورد ما يقرب من 60 في المئة من غذائها و40 في المئة من وقودها. تُفسّر هذه الأرقام الأزمة في ميزان المدفوعات التي تندرج حسابات التعامل مع العالم الخارجي ضمنه. مصر بلد استهلاكيّ ضخم، وتبدو لذا شديدة التفاؤل الفرضيّة القائلة بأنّ المعونات الخليجيّة الأخيرة قد تُسهم في إحداث تعافٍ عميق في اقتصاده. فهي في أحسن الأحوال تُمثّل استجابة محدودة وقصيرة الأجل لمشكلة مُزمنة مُتمثّلة بتمويل الدولة لواردات السلع الأساسيّة. وتضعنا أزمة العجز المزمن هذه تحت وطأة سؤالٍ مهم عن مدى الالتزام الخليجي بإمداد مصر بالمُساعدات. ففي النهاية، يحتاج تمويل استهلاك بلد كمصر تدفقا كبيرا ومستمراً لمليارات الدولارات.
يتّفق الباحث المصري في الاقتصاد السياسي، عمرو عادلي، مع هذا التصوّر. ويُشدّد على أنّ سياسة المساعدات النقديّة لتمويل مستوردات مصر من السلع الأساسيّة لن تحل المشكلة، وهي لم تستطع إنقاذ مرسي ونظامه من قبل. لكن عادلي يُشير إلى تصريحات زياد بهاء الدين، نائب رئيس الوزراء المصري، عن وجود «خطّة مارشال» مصريّة بتمويل خليجي. وبالنسبة لعادلي، قد ينطوي هذا الحل الاقتصادي في المدى المتوسّط على تصوّر نخبة الحكم الحاليّة بإمكان تسخير الالتزام الخليجي لتثبيت دعائم نظامٍ سياسيّ مُحافظ، في تكرار لسيناريو أوائل التسعينيّات، حين استفادت مصر ـ التي كانت على حافّة الإفلاس ـ من تدفّق المساعدات الخليجيّة وإلغاء نصف ديونها (التي كانت ما يقرب من 45 مليار دولار)، كنتيجة لدورها في حرب الخليج الثانية. ودُفعت بعدها إلى إعادة هيكلة اقتصادها على أساس برنامج التكيّف الهيكلي المُصمّم من قبل المؤسّسات الدوليّة.
تحتاجُ «خطّة مارشال» مصريّة إلى تدفقات رأسماليّة ضخمة وحقن استثمارات كبيرة في البنية التحتيّة وإعادة هيكلة شاملة للماليّة العامّة. يصعب الآن، بالطبع، تصوّر شكل النظام السياسي الذي سينبثق عن مشروع كهذا، لأنّه من غير المعروف مدى استعداد دول من الخليج العربي للذهاب في تمويله حتّى النهاية. لكن حزمة مُساعدات كبيرة تُعيد تنشيط الاقتصاد المصري، أو تُسكّن مشكلاته جزئيّا على الأقل، يُمكن أن توفّر، في ضوء السياق الحالي، قاعدة لنشوء شكلٍ من «الديموقراطيّة المُحافظة» المُرتكزة على فئات اجتماعيّة تتوسّل الاستقرار، آخذين بالاعتبار الدور الذي سيلعبه الجيش، الذي يحظى بشعبيّة مُعتبرة الآن. تكمنُ إشكاليّة هذا السيناريو في أنّه سيكون بالأساس حلّا مرحليّا، لأنّه لن يستطيع استيعاب كلّ مصادر التوتّر السياسي والاجتماعي في السياسة المصريّة بعد الثورة. علاج مُشكلات الاقتصاد المصري، وبالتالي طبيعة النظام السياسي الذي يُمكن أن يتمخّض عن هذه العمليّة، مسألة أكبر بكثير من عجز الموازنة وجدوى سياسات الريع والمساعدة الخارجيّة. تُعلّمنا تجربة الإصلاح الهيكلي المصريّة بأنّ حلّ مشكلة الاقتصاد المصري ليست مسألة تقنيّة، بل مسألة سياسيّة مُرتبطة بإعادة بناء الترتيبات المؤسّسية التي تنظم علاقة الدولة بالمجتمع. وهو ما يحتاج بالضرورة إلى تبلور فئات اجتماعيّة بعينها، تُعبّر عن مصالحها بشكل مُحدّد، وتمتلك تصوّرات عن السياسة وعن نموذجها التنموي المُقترح للاقتصاد، وتخوض صراعا لفرض أو إدماج هذه التصوّرات في بنية النظام مُستقبلا.
لقد أفضى انهيار ايرادات الدولة المصريّة وتراجع مظلّتها الاجتماعيّة، مُقترنا مع إجراءات تحرير السوق في العقدين الأخيرين، إلى استقلال فئات اجتماعيّة مثل «الطبقة الوسطى» عن بنية الدولة من خلال نجاحها في شقّ طريقها في قطاع الأعمال. لكنّه أفضى، في الوقت نفسه، إلى إفقار مُتزايد لطبقات اجتماعيّة أدنى. ونتيجة للطبيعة الفوضويّة التي وسمت عمليّة التحول الليبرالي في أوائل التسعينيّات، فإنّ الرأسماليّة المصريّة التي بزغت من هذا التحوّل حملت مكوّنات التشوّه. فهي رأسماليّة تميل للتحالف الوثيق مع البيروقراطيّة، وتُحجم عن المُبادرة، وتمتلك تصوّرات أقرب للمُحافظة في السياسة. ونستطيع أن نلحظ بأنّه في حيّز «الطبقة الوسطى» مثلا، فإنّ هناك أكثر من مزاج ثقافي وسياسي، وتُغري الموجة الشعبيّة الحاليّة لدعم الجيش بالاستنتاج بأنّ المكوّن «المحافظ»، أو أقلّه الإصلاحي، يكتسب صوتا حقيقيّا في السياسة المصريّة. وقد يساعد وجود موارد ريعيّة كبيرة في المدى المنظور على تلطيف حدّة الأزمة، وتوفير الأرضيّة لنظام سياسي مُحافظ مؤقّتا. ولكن يبقى مهما رصد موقف الفئات الاجتماعيّة الدنيا التي تُشكّل نسبة كبيرة في مصر، بالإضافة الى شرائح الطبقة الوسطى التي تحمل تصوّرات تغيير أكثر جذريّة. فلأجل نظام سياسي ديمقراطيّ وأكثر استقرارا، يجب أن تُستوعب مصالح هؤلاء ضمن النظام. وهي عمليّة لن تتحقّق بدون بناء مؤسّسات جديدة، وبالتالي إعادة كتابة العقد الاجتماعي كلّه. فالريع قد يموّن سيارتك بالوقود لكنّه لن يبنِ لك بحال مدرسة ومستشفى وإدارة مؤسّساتيّة حديثة. هذه قصّة أخرى تماما.