كان واحدا من أوّل القرارات التي اتّخذها ياسر عرفات في أعقاب وصوله إلى غزّة عام 1994 هو إعادة إحياء ما عُرف آنذاك بـ«إدارة شؤون العشائر». كان القرار بمثابة اعترافٍ رسميّ بالدور العملي الذي سيلعبه «القضاء العشائري» في حلّ المُنازعات الاجتماعيّة يدا بيد مع السلطة الرسميّة الناشئة، بأجهزتها الشُرطيّة والقانونيّة، وبالموقع الذي ستحتلّه العشيرة في علاقات السلطة مع المجتمع. كان ياسر عرفات، الذي ساس الفلسطينيّين على مدار خمسة عقود، يعرف بالحس العملي كسياسي محنّك، وبالحسّ البدائي كفلسطيني قبل كلّ شيء، أنّ العصبيّات العائليّة والعشائريّة هي مركز التركيبة الفلسطينيّة الاجتماعيّة التي لم تُتِح لها ظروف النكبة والشتات أنّ تتطوّر بشكل طبيعي، بطريقة تُؤدّي إلى تقويض موقع هذه العصبيّات ودورها. ولم يكن غريبا بالتالي أنّ الرجل لم يكتفِ بهذا الاعتراف، بل سرعان ما سعى لأن يدمغ عمليّة تأسيس سلطته الجديدة ببصماتٍ عشائريّة واضحة. فقد استوعب أبناء العائلات الكبيرة في الأجهزة الأمنيّة المختلفة، ومنح أبناء العائلات التقليديّة مواقع مرموقة في الوزارات والسلك الديبلوماسي والدوائر البيروقراطيّة الأخرى. وقد ضمن له هذا بطبيعة الحال الولاء السياسي لهذه المجموعات، وبالمعنى الأوسع، فقد أفادته هذه السياسة في توسيع قاعدة السلطة، ومن قدرتها بالتالي على اختراق مكوّناتٍ اجتماعيّة مختلفة. فالعشيرة، بسبب حضورها المؤثّر وطبيعة علاقاتها وشكل تموضعها الاجتماعي في الواقع الفلسطيني، غدتْ الآن مجالا حيويّا لكلّ أشكال المساومات التي تجريها السلطة مع الناس، وعلامة دالّة على التوازنات التي تحكمهم من خلالها. لكن، وفي غضون 14 عاما، حتى 2007، جرتْ مياهٌ كثيرة في النهر، وأصبح النموذج الذي أسّس عرفات من خلاله لأوّل سلطة فلسطينيّة، من الماضي. ففي صيف 2007، كانت «حماس» تُنهي ما تبقى من سلطة عرفات وتبدأ بتأسيس سلطتها الجديدة على غزّة. وقد لا يكون من المفارقة أنّ الحركة الإسلاميّة استهلتْ عهدها بإنهاء نفوذ العائلات المرتبطة بالسلطة الزائلة عبر حملاتٍ أمنيّة عنيفة. هذه محاولة للامساك بالمفارقة وكتابة قصّة قصيرة غير مكتملة بالقطع عن سلطة «حماس» والعشيرة وغزّة خلال سبعة أعوام، وللاضاءة على الظروف الموضوعيّة التي أسهمتْ في أن تكون القصّة على ما كانت عليه خلال حكم «حماس» لغزّة.
من رابطة علماء فلسطين
إلى لجان الإصلاح
لا يمكن في الواقع فهم سيرة «حماس» في السلطة دون وضعها ضمن السرديّة الأوسع لحماس كحركة اجتماعيّة متجذّرة في قلب المجتمع الفلسطيني. سعتْ «حماس» منذ انطلاقتها لأن تطرح نفسها كبديلٍ للحركة الوطنيّة الفلسطينيّة بفصائلها مجتمعة. ولأجل ذلك، تمحورت حركيّتها حول النشاط السياسي الهادف إلى بناء أشكال اجتماعيّة موازية في مجالات الصحّة والتعليم والقضاء. في عام 1992، أسّست «حماس» رابطة علماء فلسطين التي وضعتْ من ضمن أهدافها الرئيسيّة «معالجة قضايا الأمّة الدينيّة والدنيويّة» و«العمل على إصلاح المجتمع وتنقيته من الأدران التي لحقتْ به». وهكذا راحتْ الحركة، من خلال كوكبة من قادتها الدعويين، تُؤسّس ما يشبه نظاما قضائيّا متكاملا لحلّ مشكلات الناس مستندا لأحكام الشريعة الإسلاميّة. إذ أنّ الرابطة التي أُعلن تأسيسها من المسجد الأقصى كانت تضم فيما تضمّ دائرة للإصلاح وأخرى للقضاء الشرعي وثالثة للإفتاء.
ليس بين أيدينا تأريخٌ كامل للنشاط الاجتماعي لـ«حماس» منذ انطلاقتها أواخر الثمانينيّات. لكن ما من شكّ أن قدرة الحركة على احتلال هذا الموقع المعتبر في السياسة الفلسطينيّة خلال فترة قياسيّة قد جاء كمحصّلة لنجاحها في جعل بدائلها الاجتماعيّة، بما فيها شبكات الإصلاح الاجتماعي، أمرا واقعا. عبر هذه الاستراتيجيا، نجحت «حماس» في التواصل مع دائرة أوسع من الفئات الاجتماعيّة المختلفة، ومعايشة مشكلاتها اليوميّة، واستقطابها لصالح بدائلها على الأرض. وبحلول العام 2004، أصبح نشاط رابطة علماء فلسطين أكثر تنظيما مع تأسيس لجان الإصلاح التي أصبحت لها مكاتب معروفة كعناوين يتوجّه إليها الناس لحلّ مشكلاتهم العائليّة الكثيرة. يمكن أن نرى منحى التطوّر الذي سلكه القضاء العشائري من خلال الأرقام الإحصائيّة التي قدّمتها رابطة علماء فلسطين في تقريرها الصادر العام 2010 للحديث عن إنجازات لجان الإصلاح منذ تأسيسها. فالتقرير يكشف أنّ اللجان عالجتْ 992 قضيّة في العام 2004 ليرتفع هذا العدد إلى 5000 قضيّة في العام 2007 إبان تأسيس سلطة «حماس» على غزّة. لا يعكس هذا الارتفاع المضطرد في عدد القضايا المعالَجة توسّع نفوذ «حماس» الاجتماعي فحسب، بل يؤشّر أيضا إلى أنّ هذا التوسع قد اقترن بالفراغ الذي بدأ يتزايد نتيجة لتراجع دور السلطة وتآكل أجهزتها الأمنيّة، وبالتالي تأثّر قدرتها على الفصل في المشكلات الاجتماعيّة. فالسنوات الثلاث بين 2004 و2007 هي ذاتها السنوات التي ضربتْ فيها الفوضى أركان أجهزة السلطة، ما عزّز الحاجة الموضوعيّة لوجود جهاز قضاء موازٍ خلال حقبة الفلتان الأمني. وتدلّ طبيعة القضايا المعالَجة، التي تتراوح بين السرقة والقتل والمواريث والأراضي الخ.. أنّ «حماس» نجحتْ من خلال هذه الشبكة في تعميق نفوذها في الأوساط العشائريّة وتقوية سلطتها المعنويّة والدينيّة عليها، ناهيك بالطبع عن أنّ هذا النشاط قد وفّر لها سجلّا موثّقا ومفصّلا للأحوال المعيشيّة للفلسطينيّين في غزّة، ما سهّل من قدرتها على الضبط الاجتماعي وفق رؤيتها الإسلامويّة.
مع البدء بتدشين سلطة «حماس» على غزّة وتوسّع مؤسّساتها البيروقراطيّة، بدأت العلاقة بين دوائر القضاء العشائري والأجهزة الشُرطيّة تأخذ شكلا أكثر تكاملا وتنظيما. وقد لعب سعيد صيام، وزير الداخليّة الحمساوي الذي اغتالته إسرائيل خلال حملة «الرصاص المصبوب» العام 2009، والذي كان عضواً نشطا في شبكات الإصلاح الاجتماعي، دورا أساسيّا في هذه العمليّة. أُحدِثتْ في هذا الإطار «الإدارة العامّة لشؤون العشائر والإصلاح»، وأصبحتْ دائرة تابعة لوزارة الداخليّة بهدف تنسيق الجهود بين الجهاز الرسمي ولجان الإصلاح. وكما يتضح من تقرير رابطة علماء فلسطين آنف الذكر، فإنّ عدد القضايا المعالجة قد شهد مجدداً طفرة، بارتفاعه إلى 13408 قضيّة عام 2010. ولعله من المناسب الإشارة إلى أنّ قضايا القتل بوجه خاص قد ارتفعت من 50 حالة في 2007 إلى 117 حالة في 2010، ما يعكس في جانب منه طبيعة التحدّيات التي واجهتها «حماس» في فرضها لسلطتها، وفي جانبٍ آخر الدور الذي لعبته شبكات الإصلاح في مساندة السلطة في معالجة هذه التحديات عبر تخفيف الاحتقان الاجتماعي في بيئة تعتنق مفاهيم الثأر. ومن الواضح أنّ هذه العلاقة التكامليّة عزّزت من حضور القضاء العشائري كرديفٍ للقضاء الرسمي، ما حدا بمدير شرطة غزّة للاعتراف «بأنّه شاهد بأمّ العين أن كثيرا من القضايا لا تُحلّ بالإجراءات القانونيّة لكنّها تُحلّ بالعرف وعبر قنوات رجال الإصلاح المُعوّل عليهم في صون المجتمع الفلسطيني المحافظ».
بالرغم من ذلك، فإنّ قصّة نظام لجان الإصلاح وفهم فاعليّتها لا ينبغي أن تعزل بطبيعة الحال عن السمة المميزة لسلطة «حماس» خلال حكمها لغزّة، وهي إصرارها الحثيث على أن تكون المالك الحصري لحقّ استخدام العنف. فقد بدأت «حماس» بفرض سلطتها من خلال إنهاء كافّة المظاهر المسلّحة في الشارع ومصادرة السلاح التابع لسلطة «فتح» والعائلات الكبيرة، ومنعت ظاهرة إطلاق النار في الأفراح التي تعتبر مظهرا مهمّا من مظاهر استعراض القوّة العشائرية، ونظّمت بالإضافة لذلك العلاقة مع الأجنحة العسكريّة لتقنين استخدام سلاحها ضمن الحدود المرتبطة بطبيعة عملها. وهكذا، فإنّ ازدهار لجان الإصلاح خلال حكم «حماس» لغزّة كان مرتبطا في جزءٍ رئيسي منه بالقوّة التي ساندته ومهدت له الطريق. فالفصل بين عائلتين غير مسلحتين يبقى أكثر سهولة بكلّ الأحوال.
واقع جديد وحدود جديدة
جاءت الظروف الاستثنائيّة التي تشكّلتْ فيها سلطة «حماس»، وما رافقها من تبعاتٍ سياسيّة واقتصاديّة أهمّها ضرب الحصار الإسرائيلي المشدّد على غزّة، ليرسم حدودا مغايرة للعلاقة بين «حماس» والعشيرة. فعلى العكس من سلطة عرفات التي حظيتْ بالدعم الماليّ الدوليّ، فقد أسّست «حماس» سلطتها بموارد أقلّ بكثير وفي ظلّ شروط سياسيّة أكثر صعوبة. وكان من الطبيعي أنّ تنعكس هذه الظروف بعمق على الاقتصاد السياسي لعمليّة تشكيل بيروقراطيّتها التي أصبح مفروضا عليها أن تكون أصغر حجما وأقل تشعبا. وعلى هذا الأساس، فإذا كان تعدّد الأجهزة الأمنيّة والبيروقراطيّة في عهد عرفات قد أعطاه المرونة الكافية لاستيعاب العائلات في جهاز السلطة، فإنّ «حماس» لم تحظ بنفس الإمكانيّة، ما أثّر بالتالي على شكل وحجم حضور العشيرة في الجهاز البيروقراطيّ التي شيّدته وعلى قدرتها في إدماج فئاتٍ اجتماعيّة أوسع فيه.
لكنّ المُفارقة أنّ هذه الظروف الاستثنائيّة سرعان ما أسهمتْ في إحداث تحوّل آخر سمح لحماس في استيعاب عائلاتٍ أخرى ضمن علاقة مختلفة وفي مكانٍ آخر تماما. فإغلاق معابر قطاع غزّة وتشديد الخناق على الحركة التجاريّة عبرها أدّى إلى ازدهار تجارة الأنفاق في رفح جنوب القطاع. وهذا بدوره ساعد في أن تنشا علاقة خاصّة بين «حماس» والعائلات التي تمتلك الأراضي المحاذية للشريط الحدودي والتي تدير تجارة الأنفاق وتمتلك الخبرة فيها. ضمن هذه العلاقة استطاعت هذه العائلات تنمية أعمالها بفعل التسهيلات الممنوحة لها، واستطاعت «حماس» على الجانب المقابل في أن تخفّف من قيود الحصار جزئيّا ـ وكان هذا هدفا سياسيّا مهمّا بالنسبة لها - وأن تحظى أيضا بموارد ماليّة تمثّلها الجبايات التي فرضتها على السلع القادمة عبر الأنفاق، والأرباح التي جنتها نتيجة لشراكتها المباشرة في تجارتها، ما دفعها لأن تستحدث لأجل كلّ هذا هيئة حكوميّة أسمتها «هيئة الأنفاق»، لتنظيم مجمل العمليّة تحت سلطتها. وقد أحدث هذا التحوّل في النهاية سيولة في الثروة بطريقة أدّت لانتقال جزءٍ منها من المراكز الماليّة التقليديّة للعائلات التي نشطتْ في عمليّات الاستيراد والتصدير الرسميّة إبان سلطة عرفات، إلى مراكز عائليّة جديدة في جنوب القطاع الذي كان يَعتبِر نفسه مهمّشا دائما.
بالرغم من ذلك، يبقى من الصعب فهم «سياسات العشيرة» خلال حكم «حماس» لغزّة، والنموذج الذي استقرتْ عليه، بدون رصد التحوّلات الكليّة الذي مرّ بها المجتمع الفلسطيني في غزّة، وأهمّها الزيادة السكّانيّة. فعدد سكان القطاع، الذي تبلغ مساحته 360 كيلومترا مربعا ازداد من مليون نسمة في العام 1997، بعد سنواتٍ قليلة من تأسيس أوّل سلطة فلسطينيّة عليه، إلى 1.4 مليون نسمة في العام 2007، وصولا إلى ما يقرب من 1.8 مليون نسمة بحلول العام 2014. كيف أثّرت هذه الزيادة على ملكيّة الأرض؟ نستنتج بأنّ زيادة سكّانيّة بهذا الحجم في شريطٍ جغرافيّ ضيق ومحدود، قد فرضتْ تآكلا في مساحات الأراضي، المزروعة والخالية على السواء، وساهمت بالتالي في خلخلة الملكيّات العقاريّة الكبيرة والمتوسطة التي اعتُبرتْ تاريخيّا الأصل الماليّ الأهمّ للعشائر والعائلات الفلسطينيّة التقليديّة، ومصدر نفوذها. ولعلّ حكم «حماس» لغزّة يُقدّم دليلا على هذا المنحى، لأنّه اقترن بانخراط الحركة ورجال الأعمال المرتبطين بها والأثرياء الجدد الذين ازدهر عددهم في عهدها، وتحديدا تجّار الأنفاق، انخراطهم في نشاطٍ واسعٍ لشراء الأراضي التي شهدتْ أسعارها ارتفاعا مجنونا، ما يشير الى نمط المضاربات الذي كان رائجا حول الأرض خلال هذه الفترة.
ماذا بعد؟
تَضافر سعي «حماس» لأن تكون المالك الحصري لحقّ استخدام العنف منذ العام 2007 مع طبيعتها كحركة اجتماعيّة متجذّرة، ناجحة في فرض هيمنتها الأيديولوجيّة والمعنويّة على المجتمع، بالإضافة للظروف البنيويّة التي فَرضتْ نفسها على القطاع وشكل تعامل الحركة معها، ليجعل من «حماس» عشيرة غزّة الكبيرة التي استطاعتْ أن «تُؤمّم» المجال العشائري بحيث تكون كلّ دقائق الواقع الاجتماعي تحت سلطتها اللصيقة والمباشرة. وقد كان من الممكن لهذا النموذج أن يتطوّر وأن يتعضّد أكثر ليكشف عن سماتٍ جديدة، لولا أنّ جملة من العوامل المستجدة خلال العام الأخير قد وضعته على محكّ التحوّل الذي لا فُكاك منه على ما يبدو. فقد أغلق الجيش المصري أنفاق رفح نهائيّا (وها هو ينشئ منطقة عازلة كبيرة no mans land حول المدينة). ونجمتْ عن الحرب الأخيرة خطّة لعمليّة إعادة إعمارٍ كبيرة ستخلق إنْ وصلت لخواتيمها - مصالح تجاريّة وعائليّة مختلفة عن تلك التي سادتْ خلال السنوات الأخيرة، وقد تفتح الباب لعمليّة سياسيّة موازية تستعيد السلطة الفلسطينيّة من خلالها السيطرة على غزّة مجدّدا.
لكن، إذا كان لهذه التطوّرات أن تُقوّض الشكل «الدولتي» الذي اتخذته سلطة «حماس»، والذي تجسّد في الوزارات والأجهزة الأمنيّة والدوائر البيروقراطيّة المختلفة التي شيّدتها خلال سبع سنوات من حكمها، فإنّ سلطة «حماس» الاجتماعيّة الأعمق، التي ترتكز على الإرث الحركي الطويل، والمدعومة بالقوّة المسلحة المنظّمة، لن تكون هي الأخرى بمنجى من الاختلالات العميقة التي أفضى إليها الحصار والحرب. وستكون هذه المكتسبات التي حقّقتها الحركة خلال تاريخها السياسي القصير، والتي مكّنتها من احتلال موقعها المعتبر في السياسة الفلسطينيّة، في قلب الصراع على مستقبل غزّة القريب.