هذه الأيّام عصيبة وغريبة لكنّها، لحسن الحظ، مليئةٌ بالدروس. تأمّلوا في المشهد لثوانٍ فقط ولن يكون بمقدوركم أن تُخطئوا النظر: هذه ليستْ حربُ إسرائيل على غزّة، بل حرب كلّ العرب عليها. خلال الأسبوعين الماضيين، كان من السهل أن نرى كيف تشكّل تحالفٌ إقليميٌ مدعومٌ دوليّا تحت راية وحيدة: كسر غزّة وإخضاعها. كانتْ واحدة من أبلغ المُفارقات في هذا التحالف أنّ إسرائيل هذه المرّة لا تتصدّره ولا تقوده ولا تضع خطط عمليّاته، بل تكتفي فيه بلعب دور المدفعيّة العمياء الموجهة عن بُعد.
في المرّة السابقة، أعلنتْ وزيرة الخارجيّة الإسرائيليّة الحرب علينا من القاهرة. اليوم، لا يحتاجُ الإسرائيليّون لذلك، فوزارة الخارجيّة المصريّة نفسها تنطقُ بأكثر مما تُريده إسرائيل وجنرالاتها. ولأوّل مرّة، لا يكون الإسرائيليّون بحاجة لأن يحمّلوا غزّة المسؤوليّة، فالناطقون باسم الحركة التي قادت النضال الوطني الفلسطيني يتطوّعون بالنيابة عنها ليقولوا لنا بوقاحة شديدة إنّ غزّة يجب أن تدفع الثمن، وإنّ موتها الأخير والكئيب مسؤوليّتها وحدها. أولادُ الوسخة! لأوّل مرّة أيّها الأحبّة يكون القبح أوضح بكثيرٍ من الدم.
خلال السنوات السابقة كان كلّ ما يقوله محمود عبّاس للعالم: «دعوا حماس عليّ»، ولم نكن نعرف أنّه كان يُريد أن يصل في مُغامرته الجنونيّة إلى هذا الحد. إنّنا نختلف مع «حماس» وننتقدها، في السلطة والمقاومة، وفي وقت السلم ووقت المعركة، لكنّنا نعرف اليوم بأنّ «حماس» هي جزءٌ من حالة أكبر اسمها المُقاومة الفلسطينيّة في غزّة.
غزّة التي يعيش سكّانها المليونان في هذه المساحة الضيّقة لا يمكن إلا أن تكون «أهل» المقاومة، لأنّ شوارعها وأزقّتها التي تحتضن أفراحنا وأتراحنا وعيشنا ومعاشنا هي نفسها الشوارع التي تُحفر تحتها الأنفاق، ولأنّ سماءها الوادعة التي تُظلّل أحلامنا الصغيرة والكبيرة هي نفسها التي تفتح مداها الرحب للصواريخ التي تضرب تل أبيب، ولأن أسرّة بيوتها هي نفسها الأسرّة التي ينام فيها المقاومون، أخي وأخوك، وصديقي وصديقك... هؤلاء هم أهلنا.
من يُريد أن يُخضع المُقاومة فإنّه يُخضع غزّة، ومن يُريد أن ينزع سلاح غزّة يحكمُ على كلّ أهلها بالموت. لا مجال لأن نعود بعد هذه الحرب إلى المُربّعات الأولى. لا نُريد لأحدٍ أن يكذب علينا وأن يقول لنا إنّ هناك «وحدة وطنيّة» مُمكنة مع العملاء. لا نُريد لأحدٍ أن يعدنا بالازدهار والاستقرار وهو يتحالف علنا مع عدوّنا. ولا نريد لأحدٍ أن يحجب عنّا الحقيقة الساطعة التي تقول ببساطة بأنّ الذين قبلوا أن يلعبوا خلال عشر سنواتٍ دور شرطي الاحتلال في الضفّة الغربيّة هم أنفسهم العبيد المُستعدّون أن يحققوا بخضوعٍ مُنقطع النظير نبوءة سيّدهم الإسرائيلي وأن يرموا غزّة في البحر!