لا يوجد دليل يدعم الاتهامات التي تزعم بأن الإخوان يقتلون شبابهم للمتاجرة بدمائهم، كما لا يوجد دليل على استدعاء السلطات للسيناريو الجزائري، وعلى الزعم بأن القوات النظامية تقتل رجالها من أجل ادّعاء إرهاب وهمي. بالمقابل، فمن الواضح أن السلطة تقتل معارضيها بعنف مفرط، وأن هناك جماعات تمارس التمرد المسلح ضد القوات النظامية والإرهاب ضد المدنيين. فالحديث هنا ليس عن تلفيق الإرهاب أو صناعته، بل عن الاحتياج إليه، ليس على مستوى السلطة فحسب، بل وسط القواعد الداعمة لقمعها والمرحبة بعنف الدولة.
ما الاسترهاب؟
دعوة وزير الدفاع المصري، الجنرال عبد الفتاح السيسي، التي وجهها للجماهير للاحتشاد من أجل تفويضه لمواجهة العنف و«الإرهاب المحتمل» في 24 يوليو/تموز الماضي، كانت أوضح وأكثر صراحة مما ظنه المحللون الذين اشتبكوا مع نقد فكرة التفويض ونقضها، من دون التوقف أمام الصيغة المطلوبة، وهي إذ تفترض مسبقاً وقوع الإرهاب تقوم فعلياً بالتمهيد لطلبه واستدعائه. ففي ذلك الوقت، لم تكن قد ظهرت بعد الحوادث الإرهابية ضد المدنيين، أو تلك غير المكترثة بوجود المدنيين في ميدان الاشتباك مع القوات النظامية. تعالت الأصوات المحذرة من «صناعة الإرهاب» بالقمع المفرط والمذابح المتتالية في كل من «دار الحرس الجمهوري»، و«النصب التذكاري»، وفض اعتصامي ميدانَي «رابعة» و«النهضة». لكن الشهور المتعاقبة بدأت تكشف عن وجود ما يمكن تسميته بـ«الاسترهاب»، ليس على مستوى السلطة فحسب، وإنما على المستوى الشعبي أيضاً. و«الاسترهاب» هو الحفاوة بظهور الإرهاب بكل أنواعه، الكامن والمستتر والمؤجل، لرغبة حقيقية في توظيفه سياسياً وأمنياً.
وأما «صناعة الإرهاب» فلا تُفهم إلا على ضوء السياسات القمعية التي تساعد على دفع المتشددين فكرياً وسياسياً إلى خيار العنف المدعوم بأفكار أكثر فأكثر تطرفاً، حيث تبرر لهم تلك السياسات جنوحهم إلى العنف. ويمكن أن يكون اختلاق الحوادث الإرهابية جزءاً من هذه الصناعة، سواء بتلفيق نسبتها إلى تنظيمات موجودة أو وهمية، أم باختراق بعض التنظيمات لتوريطها في أعمال إرهابية تسوّغ السياسات القمعية وخطاب السلطة العنيف، الذي لن يقف في جنوحه القمعي عند حدود التنظيمات الإرهابية وحدها بكل تأكيد.وراء «الاسترهاب» إرادة جماهيرية وليست فقط سلطوية، بدلالة ثلاث قرائن، هي تباعاً: الحاضنة الجيلية لخطاب الحرب على الإرهاب، وأزمة خطاب الإسلاميين السياسيين، والتحفيز الإعلامي الدعائي كحلقة وصل بين السلطة والجماهير.
الحاضنة الجيلية للسلطوية
أحد أهم الاختلافات بين تنظيم «القاعدة» وتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» هو اهتمام الأول بوجود حاضنة اجتماعية لمن يسموهم «مجاهدين»، في حين أن المكوّن القطبي في تنظيم «الدولة» يحمل أعضاءه على «التعالي بالإيمان» والقطيعة مع «المجتمع الجاهلي».وللتوضيح وإن بمثال ينتمي إلى سياق مغاير، يمكن أن تُفهم الدعاية الجماهيرية الميدانية الكثيفة، أحادية الاتجاه، الدافعة إلى التصويت بـ«نعم» في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، كنوع من التسابق المحلي بين أصحاب المطامع في الانتخابات البرلمانية المقبلة. لكن مثل هذا التفسير البرغماتي للإنفاق المالي/السياسي لا يصمد أمام حالة الهيستيريا الانفعالية الواسعة التي رافقت عملية التصويت.
فقد يتم استئجار بعض الحشود من قبل السلطة لافتعال تأييد غير حقيقي، لكن لا يمكن التعامي عن المشهد الكرنفالي الذي اقترن فيه التأييد بمعارضة الإخوان و«الإرهاب»، والهتاف بشعارات وطنية تُعلي «مصر فوق الجميع»، وترديد الأغاني الوطنية القُطْرية، مع جرعة مكثفة من الأوبريت الشعبوي «تسلم الأيادي».وقد ظهرت الانحيازات الجيلية بوضوح في الاستفتاء على التعديلات الدستورية الذي أجري في مطلع العام الجاري. تعززت هذه الانحيازات بتعليقات المقترعين، ذوي الأغلبية العمرية المتقدمة في السن، كما أظهرتها التسجيلات المصورة التي تداولتها شبكات التواصل الاجتماعي، وبعضها تم بثه على الهواء في القنوات الفضائية. بعضهم تلفظ بعبارات عدائية ضد جيل الشباب وخياراتهم في الحريات والحقوق والديموقراطية، وكثيرات منهن رقصن على بوابات لجان الاقتراع، مع حرص عام على التقاط الصور الفوتوغرافية مع ذوي الزي الرسمي من القوات النظامية التي تؤمّن اللجان.
يبدو المشهد العام، كما عبرت عنه ذروته في يومَيْ الاستفتاء، تحت هيمنة جيلين، هما جيل «الكبار» الذين تشبعوا بخطاب نظام مبارك المعادي للإرهاب والإسلاميين عموماً، وهو الخطاب الذي وصل إلى ذروته في التسعينيات، والجيل «الأكبر»، الذي تشكل وعيه في زمن الدعاية الناصرية القومية، حيث تماهى الشعب مع حكم الجيش.
أزمة خطاب سلطة الإسلاميين
ظهر الخوف بادياً على أحد متابعي نقل فاعليات مؤتمر نصرة الثورة السورية الذي عقده الرئيس المعزول محمد مرسي في إستاد القاهرة قبيل 30 يونيو، وتساءل في هلع «كيف ينشدون كلهم أغاني لا يعرفها منا أحد؟». لم تكن الأغاني فحسب، مثل «لبيك إسلام البطولة» ذات الكلمات الدموية، هي التي أظهرت الإسلاميين كطائفة متمايزة عن سائر الشعب، أتت بها الصناديق لحكمه، بل أيضاً كان الخطاب الرطين للرئيس المعزول «بحقه الأبلج وباطله اللجلج»، من معزّزات الانفصال الخطابي والنفسي بين «الطائفة» والشعب.بالمقابل، نجح الجيش في استخدام خطاب قريب من الجماهير، بل أظهرت التسجيلات المسربة لاجتماع وزير الدفاع مع بعض القادة العسكريين في نهاية 2012 أنه حريص على الإبقاء على المتحدث العسكري، العقيد أحمد محمد علي، لكونه ذا شعبية وسط النساء. ويبدو أن هذه الإستراتيجية في الاستهداف النوعي لجمهور مؤيدي الجيش من ربات المنازل والأمهات، قد أتت بثمارها الواضحة في المغازلات الجنسية العلنية في الصحافة والتلفزيون، وبلغت ذروتها في يوميْ الاستفتاء، حيث كانت المشاركة النسائية عالية جداً وتضمن التعبير عن الاستجابة لما يريده السيسي... كشخص.لم تتوقف استجابة الجمهور النوعي للجيش ـ كبار السن والنساء ـ عند حد التأييد السياسي والأمني، بل بلغ التطرف بإحدى الأمهات أن قامت بالإبلاغ عن ابنها كعضو بحركة «6 أبريل»، وقامت بطرد المحامين الذين أتوا للدفاع عنه، وعززت ادّعاءها بأدلة قامت بتسليمها لإدانة ولدها.
على الرغم من كونه تطرفاً غير متكرر كثيراً، إلا أن خطاب هذه الأم في قاعات قسم الشرطة، وفق ما نقله الشهود، شائع جداً في منازل الكثير من الشباب الثوري المتناحر عائلياً مع الأهل الذين يتهمونه بالعمالة والخيانة، أو على الأقل بالرعونة وقلة الخبرة.نجح الخطاب «الوطني» (شبه الفاشي) في إيقاظ خطاب شعبوي سلطوي «يحتفي» بالحوادث الإرهابية، سواء كانت حقيقية أم مفتعلة، من أجل تدعيم موقفه المستند إلى استدعاء الدولة القديمة لدحر التغيير. تعْلم الجماهير أن الجماعة الفاشلة سياسياً التي أُسقطت من السلطة ثم تعرضت لأكبر مذبحة سياسية في تاريخ مصر المعاصر، لم يَثبُت قضائياً تورطها فيما يمكن أن تُصنَّف على أساسه بأنها إرهابية. لكن نشوة الوصم دفعت الجمهور إلى التغاضي عن عدم إعلان الحكومة «أنصار بيت المقدس» تنظيماً إرهابياً، بل تكتفي السلطة بترديد الاتهام له بأنه «موال لجماعة الإخوان الإرهابية»، رغم أنه هو الذي أعلن مسؤوليته عن تفجير مديريات أمن جنوب سيناء والدقهلية والقاهرة وليس الإخوان. ويقع هذا ضمن إجراءات التواطؤ العلني على التصنيف الاختزالي للأفراد والمجموعات: إما وطنية صالحة مؤيدة للجيش وموافقة على التعديلات الدستورية، وإما عدوة للوطن وخائنة للجيش الوطني وعميلة للأعداء ورافضة للتعديلات الدستورية أو مقاطعة للاستفتاء.
الدعاية الإعلامية كحلقة وصل
يؤكد العاملون في القنوات الفضائية المصرية وجود ممثل من قسم الاتصال بالمخابرات العسكرية أو جهاز الشؤون المعنوية للقوات المسلحة في استوديوهات القنوات كافة. فلا عجب إذن أن تتطابق الرسالة الدعائية المبثوثة عبر وسائل الاتصال الجماهيري مع ما يردده الجمهور النوعي للجيش، كبار السن والنساء. لكن افتراض أن المحتوى الدعائي بأكمله معد سلفاً فيه اختزال كبير لقدرات الإعلاميين التطوعية والإبداعية على توليد خطاب استرهابي يسوّغ القمع ومصادرة الحريات.فعقب تفجير مديرية أمن الدقهلية، وقبل إعلان الإخوان تنظيماً إرهابياً، جرى عبر شبكات التواصل الاجتماعي تداول تسجيل لجزء من إحدى حلقات برنامج «القاهرة اليوم»، ظهر فيه المذيع عمرو أديب محذراً من تفجير إرهابي كبير مرتقب، وبدا في الخلفية أن الكلام يتم تلقينه إياه من غرفة التحكم. المقارنة مثيرة بين هذا التسجيل وتسجيل آخر لزوجة أديب، المذيعة لميس الحديدي، التي أعلنت عن حريق المجمع العلمي خلال تظاهرات مجلس الوزراء عام 2011، قبل أن يتم حرقه فعلياً.
يقول المشككون إن هذه الفوضى صنيعة الأجهزة الاستخبارية التي تخترق حراك الشارع. لكن هذا قد ينطبق على أحداث 2011 و2012، وليس على فترة ما بعد 3 تموز/ يوليو، حيث الرغبة السياسية العارمة للسلطة تتمثل في فرض النظام والسطوة الأمنية لطمأنة المؤيدين في الخارج والداخل. سابقة لميس الحديدي، وسابقة أخرى للمذيع خيري رمضان، توحيان بالصناعة الاستخبارية لحوادث بعينها. لكن تضافر الأدلة اليقينية على وجود تنظيمات إرهابية، استطاع أحدها أن يسقط مروحية عسكرية لأول مرة في تاريخ الجيش المصري في صراعه مع قوات غير نظامية، ترجح أن توقعات عمرو أديب «الاسترهابية» لم تكن سوى مصادفة من خياله وخيال فريق برنامجه، ولدتها كثافة الشحن في هذا الاتجاه، فوافقت «صناعة» هذه التنظيمات، أو طابقتها وانسجمت معها.أما التنظيم السلفي الجهادي، «أنصار بيت المقدس»، الذي لم يستهدف بداية أي طرف مصري، وذلك منذ بدء نشاطه شبه المعلن في 2011، فهو خرج عن خطه الإستراتيجي المقاوم للاحتلال الإسرائيلي ومصالحه في سيناء (مثل تفجير أنابيب تصدير الغاز الطبيعي) وبدأ في الاشتباك مع القوات النظامية المصرية كتنظيم متمرد على السلطة، ثم لم يلبث أن تورط في إرهاب المدنيين واستهداف بعضهم أو تحميلهم مسؤولية التواجد في محيط المقار الأمنية والعسكرية. وهذا كله يعني أن ممارسة هذه الجماعة للإرهاب لم يتم اختلاقها استخبارياً، بل تمت صناعتها سياسياً في سياق «استرهابي» أوسع، لم يكن واضحاً بالضبط ما سيترتب عليه. لكن الاحتفاء بالإرهاب كان مستبطناً وكامناً كي يتم استثماره بعد وقوعه.
ويبدو أن مصر لا تزال في بداية المنحدر، الذي سيسرّع من الانزلاق فيه ترشّح وزير الدفاع بدعم رسمي من الجيش. فالمسؤول الأول عن الفترة السابقة بكل ما فيها، حين يترقى عسكرياً وسياسياً، فإن ذلك لا يعني للجماعات المسلحة سوى التصعيد، ولا يعني للمجتمع سوى مزيد من الإرهاب.