قررت الحكومة السويدية ذات المسحة اليسارية، عدم تجديد اتفاقية التعاون العسكري مع المملكة السعودية، لأسباب متعلقة بمواقف العديد من الأحزاب السويدية، والداعية للتشدد بتنفيذ شروط ترخيص بيع السلاح وكل اشكال التعاون العسكري مع البلدان ذات الانظمة الاستبدادية او البلدان الداخلة بنزاعات عسكرية.
اتخذ هذا الموقف السويدي بعد تساوق مناقشته من قبل حزبي الائتلاف الحكومي المتشكل من الحزب الاجتماعي وحزب البيئة، مع انتقادات مباشرة أطلقتها وزيرة الخارجية السويدية في البرلمان السويدي، ضد التجاوزات المزمنة على حقوق الإنسان في السعودية. وكانت ملاحظاتها معززة بإدانة صريحة لعملية جلد الناشط الحقوقي السعودي رائف بدوي، وأيضا للتمييز المعلن ضد المرأة السعودية بدلالة منع قيادتها السيارة. ويبدو ان الوزيرة قد استبقت تلبيتها لدعوة الجامعة العربية لإلقاء خطاب في اجتماع وزراء خارجية مجلس الجامعة بهذه الانتقادات المباشرة سعياً منها لتعويد الاذان الرسمية العربية على نمط كهذا من الانتقادات. لكن!
التمييز ضد النساء بالردود الديبلوماسية
جاء الرد السعودي سريعاً وقوياً وغاضباً: كيف تتجرأ "حرمة" مهما كان شأنها أو هويتها على انتقاد شأن سعودي ملكي لا يفتي به غير وعاظ البلاط؟ كيف تفعل هذا وبلادها مستفيدة لحد بعيد من التعاون التجاري، ناهيك عن العسكري مع المملكة؟ كيف تتطاول، وملكها كان من أوائل المهرولين للتعزية بوفاة الملك عبد الله؟ حتى الأميركان يحسبون لكلامهم مع المملكة ألف حساب، يضعون انتقاداتهم على ألسنة بعض النواب او بعض الشخصيات التي ليس لها مهام تنفيذية، وهم يعرفون حساسية ان يأتي النقد من "حرمة"، فكيف تجرأت هذه الوزيرة السويدية التي لم يمر على استيزارها أكثر من 6 اشهر؟
بضغط سعودي، ألغت الجامعة العربية دعوتها للوزيرة، ثم اصدرت بياناً شجبت فيه تصريحاتها الصحافية حول حقوق الانسان في المملكة، ثم قررت الرياض سحب سفيرها من ستوكهولم، وزادت عليه بايقاف إصدار التأشيرات الممنوحة لرجال الاعمال السويديين، وتبعتها بهذا الإجراء حكومة دولة الامارات المتحدة!
لم يكن الموقف الحكومي السويدي يحظى بحماسة النافذين من رجال الأعمال السويديين الذين يدركون أن ما لا يدخل بجيوبهم من أرباح الصفقات مع المملكة سيدخل جيوب أقرانهم من المنافسين الذين يفعلون الأفاعيل لتسويق منتجاتهم في السوق السعودية. هناك شركات مرموقة كانت قد حجبت صور نساء من منشوراتها الرسمية لإرضاء رغبات الشاري الملكي في السعودية، وهناك من تخاتل مع قوانين التجارة والتصدير في بلاده لأجل كسب رضى القائمين على الأمر في السعودية! حذر فالمبري، وهو ممثل واحدة من اكبر عائلات المال والأعمال في السويد من استمرار حالة التشنج في العلاقة مع السعودية، ومن تأثير القطيعة معها على نمو التجارة الخارجية السويدية، وتبعه في ذلك العديد من رجال الأعمال ومديري الشركات الكبرى، بمن فيهم بعض مديري شركات إنتاج السلاح وهندسة المشاريع العسكرية.
من جانبه أعرب رئيس الوزراء السويدي بنبرة لا تخلو من الأسف عن أمله بتجاوز الأزمة الديبلوماسية بين البلدين. حتى الملك السويدي كارل غوستاف السادس عشر، وخروجاً على المألوف، اعلن عن استعداده للتوسط بين الدولتين لتجاوز الازمة الحاصلة. وقد ابلغ ذلك رسمياً لوزيرة الخارجية!
انتهت الأزمة بعودة السفير السعودي لممارسة أعماله في ستوكهولم، بعد ان اعتبرت السعودية ان تأسف رئيس الوزراء السويدي الذي قال "يؤسفنا اي تأويل بأننا أهنَّا السعودية والإسلام" على انه اعتذار حكومي، معزز بإطراء ملكي أعلنه كارل غوستاف عندما اكد على قوة العلاقة بين السويد والسعودية وعلى حرصه على استمرارها بينهما.
لم تسحب وزيرة الخارجية السويدية تصريحاتها، ولم تتنصل من مضامينها التي سببت الأزمة، فقد قالت للصحافة بعد إعلان السعودية عن عودة سفيرها "هل قلتُ كلاماً غير صحيح؟ أنتم أجيبوا"، وأعادت ما قالته بطريقة استفهامية: "هل حقوق الإنسان مصونة في السعودية، نعم أم لا؟ هل يُسمح للنساء هناك بقيادة السيارة، نعم أم لا؟ أنا لم أسئ للإسلام، لأن ليس لما قلته علاقة بالدين". لقد تحاشت الاستفاضة بالموضوع استجابة للضغوط. الوزيرة تنتمي لحزب رئيس الوزراء "حزب العمال الديموقراطي الاجتماعي"، وهو حزب اشتراكي يصنف في مرتبة يسار الوسط، لكنها أكثر يسارية منه وأكثر خبرة بنفاق العلاقات الدولية! لكن الأهم في الأمر، هو عدم العودة عن قرار إيقاف العمل بالاتفاقية العسكرية، وذلك لأنه قرار يتمتع بتأييد ناخبي أحزاب اليسار الحاكم، ولا يستطيع الملك السويدي نقضه، لأنه يملك ولا يحكم، ولا يستطيع رئيس الوزراء المغامرة بعدم التجاوب معه لأن اغلب قواعد حزبه تؤيده.
أسلحة الراشي والمرتشي
مصانع الأسلحة مستمرة في الإنتاج، وأسواق تصريفها ـ بيضاء كانت ام سوداء ـ تحتاج دائما لمستهلكين جدد. لكن عندما يزيد العرض على الطلب يكبر البحث عن أسواق بديلة لتحقيق شيء من التوازن الذي لا يتحقق الا بالمزيد من الحروب والنزاعات، الفعلية أو الافتراضية. والاستثمار في إنتاج الأسلحة بالنسبة للدول المصدرة لها مصدر مثالي للعائدات الخارجية، بأرباح خيالية لا يقاربها غير ارباح الاستثمار بمصانع الأدوية العملاقة، وأرباح شركات الاستثمار بالنفط استخراجاً وتحويلاً وتوزيعاً.
البلدان الصناعية وما بعد الصناعية منهمكة بتصدير ما يعود عليها بالإرباح الكبيرة، كالأسلحة والأدوية ووسائل إنتاج الطاقة، وكل ما يمكن أن يحتاجه المستهلك، وخاصة السلع الإستراتيجية التي يجري التنافس على التحكم بأسواق تصريفها بكل الأسلحة المتاحة. اما البلدان المدمنة على الاستهلاك فإنها تحاول ان تجد ما يعينها من موارد تسدد بها فواتير الاستيراد بما فيها ذاك الوهمي، كاستيراد الحماية!
السعودية تنفرد بكونها دولة كبرى لجهة تصدير سلعة إستراتيجية واحدة، وعلى نطاق فلكي (حوالي 10 ملايين برميل نفط يومياً)، مما يوفر لها عوائد ريعية مهولة من النقد تقدَّر بحوالي 450 ـ 500 مليار دولار سنوياً. وفي الوقت ذاته، هي اكبر دولة مستهلكة لكل ما تحتاجه بسبب تشوه نموها وتخلفه البنيوي. هذا التفرد يجعلها محط إغراء لكل البائعين على اختلاف سلعهم، ويجعلها في مقدمة الدول التي تثير طمع الباحثين عن الاحتكار.
السعودية الآن هي من بين الدول الخمس الأكثر تسلحاً في العالم. فقد جاء بتقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام أنه زادت نسبة مخصصات السعودية للتسليح عام 2014 بنسبة 4 في المئة عن العام الذي سبقه. واذا علمنا ان كلفة عام 2013 وحده من التسليح السعودي بلغت حوالي 68 مليار دولار، فإن "نموه" يأكل نسبة لا تقل عن ربع العائد الريعي السنوي للنفط، اذا حسبنا معه ميزانية التكلفة التشغيلية للمؤسسة العسكرية خلال عام واحد فقط. ربع الربع يذهب لرشوة المتعاقدين من الطرفين، وأحيانا يضاعف هذا المبلغ ليدخل حسابات الأمراء المتعاقدين، كما بينت فضيحة صفقة "اليمامة" التي بلغت كلفتها 86 مليار دولار. ولعام 2014 خصوصيته في صفقات التسلح السعودي مع أميركا تحديداً. ففيه تعهد بصفقة تقدر بحوالي 90 مليار دولار لتعزيز القطعات البحرية، وقبلها صفقات اقلها 2.2 مليار دولار مع روسيا عام 2009 لشراء اسلحة مدرعة لا معنى لها سوى كونها محاولة للتأثير على المواقف الروسية. تشير بعض التقارير التي سربتها الصحف الاميركية بأن هناك نية سعودية لشراء أسلحة أميركية إضافية بقيمة 80 مليار دولار حتى عام 2018.
ويلاحظ أن قيمة اغلب الصفقات التسليحية مع اميركا لا تتناسب مع كمية ونوعية ما تبتاعه منها السعودية، إضافة إلى وجود صفقات وهمية بعشرات المليارات كأسلوب لدعم الإدارات الاميركية التي تتردد باتخاذ مواقف مدافعة عن نظام المملكة. هي وسيلة من وسائل الرشوة، ووسيلة للتغطية على دفع تكاليف الحماية الاميركية للمملكة اثناء اشتداد الازمات الأمنية كما هي الحال مع الحرب الدائرة اليوم في اليمن.