"إنهم لا يريدونهم بالخارج"، فهذا الخارج حتى وإن بات صامتاً خامداً إثر العطب، فهو باقٍ وللأبد رهن الغضب، وهؤلاء المستبعدون هم الشرارة السابقة، والمحتملة لشرارات قادمة. هم الدرس الذي يجب أن يتمترس في الرؤوس حتى لا يفكر غيرهم في ممارسة الحرية والدعوة لحياة كريمة ممكنة.
وفي ضوء ذلك المنطق، تعددت العناوين الظالمة: حبس احتياطي، تدوير، مراقبة، تدابير احترازية، أحكام مغلّظة، وهي تفضي جميعها إلى الأبواب المصمتة نفسها وتحقق النتيجة: الاستبعاد داخل السجون لأجل غير مسمى.
باب الحبس الاحتياطي
قالت منظمة العفو الدولية في بيانٍ قبل شهور، إنه يجب إلغاء القرارات الصادرة عن محكمة جنايات القاهرة في الفترة من 4 إلى 6 أيار/ مايو الماضي، والقاضية بتمديد الحبس الاحتياطي لما يزيد عن 1600 محتجز، كثير منهم سجناء رأي.
هكذا جاء حصاد يومين، وهو ما يدعو ـ دون الدخول في تباين الإحصاءات الرسمية وغير الرسمية ـ إلى التفكّر في أعداد المحبوسين احتياطياً في مصر على ذمة قضايا سياسية، وعن كيف تحولت هذه الآلية التنظيمية إلى "أداة عقاب" كما اتفقت على هذا التوصيف كافة الجهات، ومن بينها "المجلس القومي لحقوق الإنسان" وهو رسمي ويتبع الدولة، والذي أوصى عدة مرات بمراجعة ملف المحبوسين احتياطياً، وإخلاء سبيل من تجاوزوا مدة العامين ممن لا تنطبق عليهم شروط التجديد. وجاءت توصيته الأخيرة بعد وفاة الفنان "شادي حبش" داخل سجن طرة بسبب تسمم. واعتبر المجلس الحالةَ نموذجاً لتجاوز مدة الحبس الاحتياطي.
وكان الرئيس المؤقت عدلي منصور، خلال الفترة الانتقالية 2013-2014، قد أدخل بموجب صلاحياته تعديلاً على قانون الإجراءات الجنائية، يسمح بإلغاء الحد الأقصى للحبس الاحتياطي بقضايا الإعدام والمؤبد، وهو ما شمل عدداً كبيراً من المعارضين على مدار السنوات السبع الأخيرة ممن وُجهت لهم اتهامات بالتحريض على العنف أو التخابر، وأغلبهم ينتمون لجماعة الإخوان المسلمين.
ولكن أوجاع الحبس الاحتياطي لا تقتصر على تخطي الخط الزمني للعامين، وإنما في التوسع باستخدامه في قضايا وصفها نقيب المحامين الأسبق في إحدى مرافعاته قائلاً: "لا تنطوي على بند رئيسي وهو جدية الاتهام"، بندٌ تفتقر له مئات القضايا ،وهو ما دفع عدة جهات أيضاً، من بينها تكتل 25 - 30 المعارض داخل البرلمان للاتفاق على مطلبٍ واضح وهو إخلاء سبيل كل من تجاوز مدة حبس 150 يوماً دون حكم قضائي.
باب التدوير
ووفق توصيف "الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان": "التدوير في الأصل فكرة مبتكرة في الصناعات الحديثة، توفر التكاليف وتقلل من مخلفات عملية الصناعة، إلا أنه في مصر تحولت إعادة التدوير إلى واحدة من آليات جهاز العدالة، وعلى عكس سِمتها في مجال الصناعة، يزيد تدوير الظلم من تكاليف ومخلفات عملية العدالة".
هل التدوير مجرد تحايل قانوني على تجاوز المتهمين المدة القانونية المحددة للحبس، وهي عامان، أم أن هناك أسباباً أخرى، وأن القصد منها هو ابتكار آليات متجددة في الضغط النفسي والتعذيب.
فخلال السنوات الأخيرة، تكرر سيناريو "التدوير"، وهو ما يعني إقدام وزارة الداخلية، في حال حصول أحد المعارضين على قرار قضائي بإخلاء السبيل، بالتقدم بمحضر تحريات جديد، يسمح بطرح اسمه على قضية جديدة قبل أن يفارق جدران السجن. وقد شملت قائمة من تعرضوا للتدوير سياسيين من بينهم المرشح الرئاسي السابق عبدالمنعم أبو الفتوح وناشطات وناشطين ثوريين وصحافيين ومحامين.. وشملت قائمة الاتهام أصنافاً عديدة من بينها تهمة جديدة، وهي "إدارة اجتماعات تنظيمية بهدف التآمر داخل السجن" !
تقول تقديرات حقوقية إن عدد من تعرضوا للتدوير في السنة الأخيرة يقترب من الخمسين، ولا يوجد تفسير واضح حول السبب في اتباع هذه الآلية، وهل هو تحايل قانوني على تجاوز المتهمين المدة القانونية المحددة للحبس وهي عامان؟ أم أن هناك أسباباً أخرى يراها البعض استمراراً لآليات الضغط النفسي والتعذيب.
باب المراقبة والتدابير الاحترازية
"يلتزم المُراقَب بالتواجد في محل الإقامة/المراقبة داخل قسم الشرطة لمدة 12 ساعة من السادسة مساءً وحتى السادسة صباحاً. هكذا ينص القانون، فالتدابير الاحترازية هي بديل للحبس الاحتياطي، حسبما ينص قانون الإجراءات الجنائية، دون وضع حد زمني أقصى لنهايتها. وفي حالات أخرى تكون عقوبةً تكميلية لعقوبة السجن الأصلية، تنتهي بعد عدد محدد من السنوات يُحددها الحُكم الصادر من القاضي.
ما سبق هو عقوبة شائعة في مصر، تترجم يومياً على هيئة صفٍ طويل من الشابات والشبان، يقفون أمام ساحات المحاكم بهدف البت في قرار مد التدابير والمراقبة أو إلغائها.
"هنا نفعل أشياء لا تصدّق"
07-09-2017
إلى ليلى سويف...
22-05-2020
يتطلعون للإلغاء بلهفة، فقرار المبيت ثلاثة أيام داخل "حجز ضيق" بقسم الشرطة منذ السادسة مساءً، يعني استكمالاً للحبس بشكلٍ جزئي حيث لا إمكانية حقيقية للحصول على حياة طبيعية على مستوى العمل والأسرة والسلام النفسي، هي حياة مطلوب أن تبقى مشروطة. وقد امتدت هذه العقوبة ببعض السجناء المُخلى سبيلهم لمدة 5 سنوات، ومن بينهم المهندس "أحمد ماهر"، مؤسس "حركة 6 إبريل" المعارضة لنظام مبارك، ومن بينهم من تم القبض عليه خلال تسليمه لنفسه داخل قسم الشرطة لقضاء فترة المراقبة مثل المعارض المصري اليساري الشهير "علاء عبد الفتاح" ليتم ترحيله إلى النيابة باتهاماتٍ جديدة في أقل من 6 أشهر .
"التدابير الاحترازية" هي بديل "الحبس الاحتياطي"، حسبما ينص قانون الإجراءات الجنائية، دون وضع حد زمني أقصى لنهايتها. وفي حالات أخرى تكون عقوبةً تكميلية لعقوبة السجن الأصلية، تنتهي بعد عدد محدد من السنوات يُحددها الحُكم الصادر من القاضي. وهي عقوبة شائعة في مصر، تُترجم يومياً على هيئة صفٍ طويل من الشابات والشبان يقفون أمام ساحات المحاكم.
"أحمد دومة" علامة بارزة لنماذج متكررة ممن يُستخدمون كعبرة. فقد تخطت مجمل الأحكام الصادرة بحقه الـ 25 عاماً، باتهامات عدة كالتخريب والتحريض على التظاهر، ومن بينها أيضاً "التطاول والسخرية من منصة المحكمة"، وكان هذا حين سمع منطوق الحكم بحبسه 25 عاماً، فما كان منه إلا التصفيق من داخل القفص، وهو يضحك ساخراً.
ليسوا وحدهم بل هم آلاف، مما يترتب عليه تدمير علاقات اجتماعية ومسيرات مهنية على امتداد السنوات، ووصفت العفو الدولية هذه الإجراء بالقول: تضييقٌ بشروط لا تُحتمل".
باب الأحكام المغلّظة
تعج السجون بسجناء سياسيين من أصحاب الأحكام المغلّظة، تم إدانة أغلبهم باتهامات التظاهر غير السلمي والتحريض على العنف والتخريب وتكدير السلم العام، ويواجهون أحكاماً تتراوح ما بين 15 ـ 25 عاماً بالسجن، قضى أغلبهم منها ما يقارب سبع السنوات حتى الآن، بينما يستمر الدفاع في التقاضي، في محاولة لنقض تلك الأحكام المغلظة التي كانت كفيلة برحيل كبار السن داخل الحبس، وتدمير مستقبل شباب صغار لم يحصلوا بعد على شهادتهم الجامعية.
"دخل إليه طفلاً وخرج منه رجلاً"، هو التعليق المتكرر على صفحات التواصل الاجتماعي مع خبر الإفراج عن الشاب "عبد الرحمن الجندي" الذي قبض عليه من ميدان رمسسيس في تشرين الأول/ أكتوبر 2013 خلال مظاهرة دعت إليها جماعة الإخوان المسلمين آنذاك، ولم يكن قد أكمل بعد عامه الثامن عشر، وكان قد التحق لتوّه بالجامعة الألمانية في القاهرة. خلال حبسه رحل له من هذه الدنيا أحباءُ، وتخرج زملاؤه من كلية الهندسة، ورفعوا صورته هو وزميلٌ آخر هو "أيمن موسى" مطالبين لهم بالحرية، وقد حصل عليها "عبد الرحمن" أخيراً لدفع محاميه بمخالفة حبسه لقانون الطفل، حيث لم يكن قد تخطى السن القانوني عند القبض عليه، وهو الدفع الذي تقدم به منذ اليوم الأول، لكن لم يتم تفعيله إلا بعد 7 سنوات. عاد الطفل الذي أصبح رجلاً إلى منزله، بينما لا يزال صديقه يكمل مصيره لأنه يكبره في السن بعدة أشهر لا أكثر.
امتدت "التدابير الاحترازية" ببعض السجناء المُخلى سبيلهم لمدة 5 سنوات، ومن بينهم المهندس "أحمد ماهر"، مؤسس "حركة 6 إبريل" المعارضة لنظام مبارك، ومن بينهم من تم القبض عليه خلال تسليمه لنفسه داخل قسم الشرطة لقضاء فترة المراقبة، مثل "علاء عبد الفتاح"، ليتم ترحيله إلى النيابة باتهامات جديدة.
ويبقى اسم الناشط السياسي الشاب "أحمد دومة" علامةً بارزة حول نماذج متكررة لدفع الفاتورة كاملة نيابة عن آخرين. فقد تخطّت مجمل الأحكام الصادرة بحقه الـ 25 عاماً، باتهامات عدة كالتخريب والتحريض على التظاهر، ومن بينها أيضاً "التطاول والسخرية من منصة المحكمة"، وكان هذا حين سمع منطوق الحكم بحبسه 25 عاماً، فما كان منه إلا التصفيق من داخل القفص وهو يضحك ساخراً، فصدر حكم بحبسه ثلاث سنوات إضافية، وهو المشهد الذي دفع رسام الكاريكاتير البرازيلي من أصلٍ لبناني "كارلوس لطوف" إلى رسم المشهد وتخليده، حيث يزمجر القاضي من فوق المنصة "25 عاماً"، ويزمجر الشاب من داخل القفص "25 يناير".
..
هي قصصٌ كئيبة لم تُطوَ بَعد، فلعلّه يأتي يوم يُنهي كل هذا البُعد.