أنا لست تابعة لمنظومة ما، ولا أهتم لكون خالد درارني صحافياً. ما أعترض عليه في محاكمته هو الانتهاكات الجسيمة لحقوقه المدنية.
وهو يشهد، محلّ كل المواطنين والمواطنات معتقلي الرأي تحت مسمّى النظام العام، خلال وبعد حركة الاحتجاج الشعبية في 22 شباط/ فبراير. ما يلفت الانتباه في هذه المحاكمة، هو الفارق الذي يفصل بين ثقل العقوبات المترتبة على الاتهامات الموجهة إليه، وبين خفّة الأدلة التي تبرر وتثبت وتبيّن أن خالد درارني فعلياً مذنب وأنه ارتكب الفظائع التي اتُهِمَ بها: المساس بالوحدة الوطنية، والدعوة للتجمهر غير المسلح. يكادُ يكون إرهابياً! وهو ما يفسر اضطراب الآراء التي، حتى وإن انتهت المحاكمة وصدرَ الحكم الأولي، لا تزال تتساءلُ لحدّ الآن: لكن ما الذي فعله تحديداً؟
الشك لم يترك شخصاً دون أن يساوره، حتى الفئة التي لا تتبع بالضرورة ما يجسده خالد درارني اليوم على طريق "دولة مدنية ماشي عسكرية"، إذ أنها حتى ولو كانت تتنصل مما يمثله، فهي تؤكد: "لم يُقل كل شيء"، وتضيف "دعونا نرى ما في الملف".
ينطوي هذا الـ"هم - يخفون - عنّا - أمراً - ما" على الشك الذي تبعثه هذه المحاكمة التي ترفض أن تَنفذ، أن تنتهي، والتي لا تزال تنتظر فكها عن طريق الأدلة المثبتة.
"لا أحد ينكرُ أن خالد درارني ومحاميه من مرتادي بعض السفارات. رفعت الجلسة"، يطمئن أحد مستعملي الإنترنت نفسه هذا الصباح.
أية جلسة، جلسة الشيطان؟
الشيطان في هذه القضية هو الإشاعة، العمل الدعائي للمكاتب الخفية للتضليل، والتي رافقت هذه المحاكمة حتى تهيئ الآراء، من دون أن تترك أي آثار قانونية، حتى تقبل سياسياً بالحكم الذي لا يتطلّع إلا لحماية البلد، الأمة التي يهددها الخونة، تلك الكائنات المخادعة التي تتآمر مع القوى الخارجية متخفية خلف جمالها الملائكي.
محاكمة خالد درارني لم تعد محاكمة مواطن صحافي، وإنما محاكمة مرتاد للسفارات، تماماً مثل محاميه، وهو ما يستدعي كل الخيالات المبنية حولَ التآمر.
أو ليس، علاوة على ذلك، مراسل قناة TV5 Monde و France 24، مراسل "الصحافة الأجنبية"، دون أن ننسى أن ما يزيد الطين بلة هو عمله مع "مراسلين بلا حدود"، وSOS racisme ؟ وفوق كل هذا فهو يعمل من دون أوراق اعتماد.
وإذا كان الملف فارغاً، فلا شيء يمنعنا من ملئه بالخيالات.
لكوني أنا نفسي عملت كمراسلة ل TV5، من دون اعتماد، ولكوني أنا نفسي سبق وأن تقاسمت طاولة الغذاء مع سفراء، (فرنسيين إذا ما كان هذا ما يزيد الأمر سوءاً)، ولكوني أنا نفسي عملت لصالح مراسلين بلا حدود وكتبت كتاباً بعنوان " أن تكون صحافياً في الجزائر" خلال الحرب الأهلية، وقد دفعوا لي أجراً مقابله، فعليّ أن أشهد بأن هذه الأمور تافهة واعتيادية حين تكون صحافياً.
"أصدقاء الجزائر" أو "أعداء الجزائر"؟
في جميع بلدان العالم، يتقاسم الصحافيون طاولة الغذاء مع سفراء أجانب، وإذا كان بإمكان جدران سفارة الجزائر في باريس أن تتحدث، لشهدت بذلك.
الصحافيون - وهذا ما تقتضيه المهنة - يتناولون الغذاء والعشاء ويحتكّون بكل أنواع الكائنات. في الصباح هم مع شخص سرق هاتفاً، وفي المساء مع سفير، وعند الظهر مع ملياردير. هكذا يَعلمون، ويتعلّمون ويُعلِمون حين يأخذون عملهم على محمل الجدّ، وهذا تحديداً ما يجعل الأمرَ مثيراً.
بالطبع السفارات لا تدعو جميع الصحافيين، وإنما أولئك الذين تأمل منهم وتقدّر أن لهم تأثيراً ومصداقية كفاية حتى يُسمعوا صوتهم فعلياً في نهاية المطاف. هذه هي قواعد اللعبة، والقواعد تصبحُ جرائم فقط إذا ما تمّ إثباتها.
حين يتقاسم صحافي فرنسي طاولة الغذاء مع سفير جزائري، فهو يعدّ "صديقاً للجزائر"، وحينَ يتقاسم صحافي جزائري طاولة الغذاء مع سفير فرنسي فهو يعدّ "عدواً للجزائر".
معادلة عبثية، لكنها ليست عبثية لهذا الحدّ، فهي تبعث بنا إلى تاريخنا: في الجزائر غالباً ما يتمّ خلط الأخبار مع المخابرات. وهو الإرث الذي حصلنا عليه من حرب التحرير الوطنية.
حين تكتب جريدة المجاهد، بعد قتل عبان رمضان من طرف رفاقه في الحرب، قائلة أنه مات في الكفاح، فهي لا تكذب، إنما هي تواصل شن الحرب على فرنسا. شرح لي لاحقاً حمايَ، رحمه الله، بيار شولي، المقرب من عبان رمضان، وأحد محرري جريدة المجاهد بتونس في ذلك الوقت: "ما الذي كنت تريدين أن نفعل؟ أن نذهب ونشتكي للسفارة الفرنسية؟"، كانت الحرب قائمة، ولم يكن بإمكانهم أن يكتبوا شيئاً آخر سوى أن عبان رمضان مات في الكفاح.
في الجزائر، غالباً ما يتمّ خلط "الأخبار" مع "المخابرات". وأما مسألة اعتماد المراسلين في الصحافة الدولية تحديداً فتكشف لنا أمراً هاماً: ألا يكون لك اعتمادٌ في الجزائر ليس استثناءً وإنما القاعدة العامة. هذه القاعدة غير المكتوبة هي نوع ماكر من إدارة المعلومة ومهنة الصحافة، تتفاقم سوءاً بسبب غياب البطاقة الوطنية للصحافي المحترف.
انتهت الحرب رسمياً مع فرنسا، والأمر متعلق بنا الآن لنقول من قتل عبان رمضان، وكلّ عبان رمضان.
لن يخالفني الرئيس عبد المجيد تبون الرأي: لأنه قبلَ بكلّ ظرافة أن يجيب على كلّ الأسئلة الممنوعة على الصحافيين الجزائريين على France 24، قناة تلفزيونية ليست فقط فرنسية وإنما تحمل صوت فرنسا.
ما تضعه هذه المحاكمة على المحك ليس العلاقات بين الجزائر وفرنسا، وإنما العلاقات بين الأخبار والمخابرات.
عالمُ الإعلام وعالمُ الخدمات السرية
مسألة اعتماد المراسلين في الصحافة الدولية تحديداً تكشف لنا أمراً هاماً: ألا يكون لك اعتمادٌ في الجزائر ليس استثناءً وإنما القاعدة العامة.
وبهذا يكون خالد درارني، مراسل TV5 غير المعتمد، في المعايير العادية غير المنطوقة وغير المكتوبة، لكنها بمثابة ممارسة مفروضة ومقبولة من طرف الجميع، الشرطة السياسية والصحافيين على حد سواء. لكن "في حرب الظل هذه، الصحافيون هم الممثلون الوحيدون الذين فرض عليهم الظهور بوجه مكشوف، حتى ولو وقعوا على أعمالهم بأسماء مستعارة لأنه، في نهاية المطاف، أن تكون صحافياً يعني أن تعرض عملك علنياً.
كذلك، يؤسفني أن العشرات والعشرات من الصحافيين مراسلو الصحافة الأجنبية لم يخرجوا من الظل ليدلوا بشهاداتهم حول هذا الواقع أمام العدالة والآراء العامة: أجل، نحن جميعاً مراسلون من دون اعتماد.
على الرأي العام أن يعرف أن كل المراسلين الجزائريين المقيمين بالجزائر من كلّ بلدان العالم يعملون في نفس ظروف خالد سواء لصالح الصحافة التركية، الصينية، الأمريكية، الإيرانية، الأنجلوساكسونية، الكندية، اللبنانية، الروسية، وأخرى لا أتذكرها.
العالم كبير، وجدار برلين قد سقط .. حتى في الجزائر، فلا داعي للندم على ذلك.
طلبت مرة واحدة اعتماداً - ولا أزال أنتظر الردّ عليه - من وزارة الشرطة تحت غطاء وزارة الاتصال، وهو ما لم يمنعني يوماً من ممارسة عملي، وعليّ أن أعترف بأنّه لم يوقفني أحد.
هذه القاعدة غير المكتوبة هي نوع ماكر من إدارة المعلومة ومهنة الصحافة، كما أنها تتفاقم سوءاً بسبب غياب آخر: غياب البطاقة الوطنية للصحافي المحترف، والتي من المفروض أنها تقدم بشكل قانوني من طرف الدولة الجزائرية.
في الدول المعروفة بالديمقراطية، لا يوجد صحافي من دون بطاقة صحافة وطنية. هذه البطاقة الاحترافية تمكنك أولاً من إثبات هويتك المهنية التي تسمح لك بالتحقيق، بطرح الأسئلة، وبدفع الأبواب المغلقة على العامة، تماماً مثل شرطي، غير أنك لست شرطياً.
هنا، من الضروري أن نذكّر أنّ ما يثبت، حسب القانون، أنك صحافي محترف هو أجرك الذي لا بد وأن تحصل عليه بشكل رئيسي من هذا العمل، من هذه المهنة بدوام كامل. ما يشهد على مهنتك هو الأجرة، بدل الأتعاب التي تتلقاها مقابل هذا العمل شبه الحصري.
ذنب خالد درارني أنه كسر ميثاق الصمت الذي يربط وسائل الإعلام والشرطة المدنية والعسكرية بالجزائر، مساهماً بذلك في تعزيز روح الحراك في أيامه الأولى، في حيويته الشعبية التي حاولت خلق قطيعة، على نطاق أوسع على مستوى البلاد، مع التواطؤ الضمني الذي يربط الجزائريين والجزائريات بما نسميه "النظام".
وبهذا، حين تسأل القاضية خالد درارني عن أجوره، فهي لا تبرهن فحسب على أن قرار الاتهام، الحقيقي، غير المنطوق: هو غير مدروس، وإنما تظهر عن طريق البرهان بالخلف، أن درارني فعلاً صحافي، وأن كشوف رواتبه هي تحديداً ما يدل على ذلك. عموماً، الأجر الحقيقي للخونة لا يتم عرضه عن طريق كشف راتب.
أضف إلى ذلك أنه خلال المحاكمة، حين ضلت أسئلة القاضية طريقها لمعرفة ما إذا كان مراسلاً ل TV5 و FR 24، أو هو مراسل FR 24 فقط، فإن ذلك يبدو وكأنها تحاول أن تحدد مقداراً على سلم الخيانة، حتى تقيّم العقوبة بشكل أفضل: "هيّا أيها الفتى، اعترف، قل لي، هل أنت خائن 100% أم 50% أم 25% ؟". أسلوب التقييم هذا، إن دل على شيء فإنما يدل على المماحكة القائمة من أجل تغذية ملف فارغ. فالمرء إما أن يكون خائناً أو لا يكون.
هذه المؤامرة اللعينة
هي ما تجعل من محاكمة خالد درارني محاكمة منفصلة، محاكمة فريدة من نوعها، لأن هناك مواداً تعزز المؤامرة وتزينها، على عكس بقية المحاكمات التي تخص بقية متهمي الحراك، وهم مجهولون بمهن بسيطة مثل صديقي حميطوش، ابن أحد مفقودي الحرب الأهلية، الذي يعمل كادحاً منذ سنوات كموظف في بلدية المرادية، وينتقل من عقد هش إلى عقد هش آخر، ها هو اليوم حر أخيراً، ويتساءل عما إذا كان عقد عمله سيتجدد، وبالتالي ليس هناك ما يؤهله ليكون عميلاً سرياً.
الجزائر: اللامرئيون في "ثورة الابتسامة"
23-04-2019
على النقيض منه، خالد يملك كل شيء ليجسد الجاسوس: هو شاب جميل، طويل، قوي، يعجب النساء، كما أنه صحافي. وبهذا فهو مثالي ويجمع كل المقومات ليجسد بطل سينما على طريقة جيمس بوند في بذلة رسمية جالساً على طاولة غذاء السفير الصيني.
شخصية مثالية لتجسيد المؤامرة. لا تهم الأدلة الموجهة ضده، إذ يكفي الإيحاء بها، كل شيء هنا: المال يتدفق، المعلومات، وسفر دفعت تكلفته SOS racisme
يكفي أن نفرغ خشبة المسرح من ثقل العالم، من ثخانة الجزائر، وأن نقلّصها لأبعاد صالة محاكمة مغلقة:
" ما الذي كنت تفعله يوم السبت 7 آذار/ مارس في شارع ديدوش؟" تسأل رئيسة المحكمة بجدية زائفة.
"كنت أحرض سيدتي العزيزة، على تجمهر غير مسلح مع أصدقائي حميطوش والعربي، وذلك بهدف المساس بالوحدة الوطنية."
يكفي أن نمحو من الملف بأنه في اليوم نفسه، كان المئات من الجزائريين و الجزائريات بصدد خلق "تجمهر غير مسلح" في يوم سبت، بالإضافة إلى أيام الجمعة والثلاثاء، تماماً مثلما هو الحال منذ 22 شباط/ فبراير. يكفي أن نمحو أنه في اليوم نفسه، تم إلقاء القبض على 30 شخصاً على الأقل في نفس ظروف خالد درارني، حميطوش، والعربي، وأنه تم إطلاق سراحهم جميعاً يومها. وهو ما يجعلنا نفترض أنهم لا يتمتعون بالمزايا التي تخولهم ليقوموا بمؤامرة.
هذه المؤامرة اللعينة، يجب أن نتمكن من إظهارها، من التجول بها في الساحة العمومية، من إقعادها على كرسي، ومن إعطائها اسماً حتى نجرّم كل مطالب الوطنية: وأن نواصل منع هذه الأخيرة عن طريق التشكيك فيها.
ها قد فعلنا ذلك: صار اسمها : خالد درارني.
لكن الأمر باء بالفشل، فالرأي العام لا يصدق ذلك، ويتساءل: أين المؤامرة؟ إنهم يخفون عنا أمراً ما. لا، أصدقائي أو أعدائي القراء الأعزاء، هم لا يخفون عنكم شيئاً، وُضع كل شيء على الطاولة: ليس هناك من مؤامرة. لكن، هناك قضية خالد درارني.
حين تخفي محاكمة ٌ محاكمةً أخرى
لم تدر هذه القضية في شارع ديدوش، وإنما في أروقة الثكنات حيث تم استدعاؤه، وفي قصر العدالة حيث تمت جرجرته. دارت هذه القضية، على الأقل رمزياً، يوم قال في ثكنة: "ليس بإمكاني أن أفتح هاتفي النقال لإرضاء فضولكم الشرعي من دون أن أدنس عملي"، قال على انفراد في تلك المكاتب المخيفة، ثم بشكل علني: "أنا صحافي ولستُ شرطيا". رسمَ الحدود الفاصلة بين مهنة الإخبار ومهنة الاستخبار عن طريق ممارسة ما نسميه الأخلاقيات وليس فقط عن طريق الحديث.
هذه هي جريمته، هذه هي شجاعته، وهذا هو ما نحاول أن نجعله يدفع ثمنه.
ذنب خالد درارني أنه كسر ميثاق الصمت الذي يربط وسائل الإعلام والشرطة المدنية والعسكرية بالجزائر، مساهماً بذلك في تعزيز روح الحراك في أيامه الأولى، في حيويته الشعبية التي حاولت خلق قطيعة، على نطاق أوسع، على مستوى البلاد، مع التواطؤ الضمني الذي يربط الجزائريين والجزائريات بما نسميه "النظام"، من دون أن نحدده لنتبين ماهيته السياسية والاجتماعية والأنثروبولوجية، ومن دون أن نسمي المصالح التي يدافع عنها.
خالد درارني رجل شجاع من دون أدنى شك، يفرض احترامه، وأكتب هذا من دون أي انحياز لأي منظومة، وبكل حرية، حيث أنني لم أُخْفِ يوماً أني كنت بعيدة عن تبني نظرته وقراءته للحراك مثلما روّج لها على الوسائط المختلفة، مرات باعتباره صحافياً في وسائل الإعلام، سواءً على موقعه Casbah Tribune أو في وسائط هؤلاء "الأجانب" المزعومين، ومرات باعتباره مواطناً مثل الآخرين على مواقع التواصل الاجتماعي.
ومن الجدير بالذكر أن العدالة أولت اهتماماً بما ينشره على مواقع التواصل الاجتماعي أكثر من إنتاجيته الصحافية. وهنا، نجد عبرة لأولئك الذين يريدون أن يخلقوا فارقاً بين أسطورة "الصحافة مهنة"، وحقيقة "أجل، لكن لتمارسها، فعليك أولاً أن تعرفها وتحددها". هذا ما أراد خالد فعله، لكني أمنع نفسي من تسميته "بطلي". لماذا؟ لأنه من دون شك، في عمري المتقدم هذا، تعلمت أن السياسة والرومانسية لا يمكن خلطهما في مزيج متجانس.
لكن، بجدية أكبر، وفي الوقت الحالي، وإذا كنت أشدد وأركز على التمييز بين هذه الاختلافات - ما يُفرّق - فأنا لا أفعل ذلك لأقلل من شأن كفاحه، بل على العكس، أنا أتضامن معه وأسانده، وأحاول التخفيف من ذلك العبء الثقيل الذي تحاول أن تحمّله إياه هذه الفئة التابعة من الصحافيين، الفئة الغالبة أيديولوجياً، والتي يسمح لها ظهورها بشكل أكبر بتعيين كبش فدائها.
هذا هو دور التضليل، جميع التضليلات، أن تدعّم قصة المهيمنين بينما هي تخفي حقيقة العالم، ضراوة المصالح المتناقضة، وهو ما يفسر، ولو جزئياً، شراسة هذه القصة تجاه كل أولئك الذين على الرغم من تبعيّتهم للمنظومة نفسها، إلا أنهم لا ينسخون ما يمليه عليهم رؤساؤهم في العمل مثل الببغاوات.
علمني عملي أن الكلمات لها معنى: حين نعلن أنه بطل، فإننا نعزله، نفصله ونميزه. البطل شخصية خارقة للعادة، في الأساطير، نقول أنه نصف إله ونصف إنسان. هذه الصفة تساهم في وضعه جانباً، على الخشبة الفارغة لمسرح القضية، تساهم في تسليمه للشرطة في عزلته كبطل.
وهو ما يجعل بقية الصحافيين أناساً بسطاء عاديين، لا يتكبدون عناء تغطية محاكمته، وإنما يكتفون بتنظيم جوقة، وكأننا في تراجيديا قديمة حتى نحضّر المدينة إلى أضحيتها: البطل قد وقف، وتحدث واقفاً.
هاهي الضحية التكفيرية في هذه المحاكمة القديمة والمعاصرة، بين الجوقة والصحافة. فلننزل الستار سريعاً على خشبة مسرحِ ما هو خارق للعادة، ولنعد للسباحة في مياه الغموض الاعتيادي.
علّمني عملي أن الكلمات لها معنى: حين نعلن أنه بطل، فإننا نعزله، نفْصله ونميزه. البطل شخصية خارقة للعادة. في الأساطير، نقول أنه نصف إله ونصف إنسان. هذه الصفة تساهم في وضعه جانباً، على الخشبة الفارغة لمسرح القضية، تساهم في تسليمه للشرطة، في عزلته كبطل.
وإلا، فكيف نشرح غياب رؤساء العمل في الصحافة، أصحاب الأسهم مثلما يقولون بتغطرس، غياب قادة الرأي، الأقلام، نخبة الصحافة مثلما يعرّفون أنفسهم؟ دائرة يجب توسيعها. وهو سؤال يجب أن نطرحه كذلك على قادة الأحزاب، على المنتخَبين، على نواب البرلمان، على رؤساء البلديات، على تحالف البديل الديمقراطي (دعوني أضحك... التحالف) والمذكور مع ذلك في المحاكمة غير العادلة.
مهنتي تقتضي كذلك أن أتساءل حول ماهية هذا الفراغ.
وحتى ولو لم أكن قاضية، فبإمكاني أن أفرّق بين محاكمة عادلة وأخرى غير عادلة.
البرهان؟
حتى تكون هناك دعوة إلى"تجمهر غير مسلح" لا بد وأن تخبروني عن الساعة، المكان، الوسائل المستعملة والأغراض المستهدفة من طرف المتهم. وحتى "يمس بالوحدة الوطنية" فلا بد أن تخبروني أين، ومتى وكيف ومع من ولماذا؟
إلا إذا ما كانت بعض السطور المرمية على فيسبوك، ونتائج التفتيش في الإيميلات الشخصية والمهنية، تعتبر كافية للاتهام والمحاكمة والإدانة انطلاقاً من اتهامات بالغة الخطورة، خطورة يمكن قياسها فيما التمسه وكيل الجمهورية، حين وصل به الأمر إلى طلب حرمانه من حقوقه المدنية لمدة 4 سنوات.
تشديد العقوبات هذا استثنائي ونادر، لأنه يحرم مواطناً من كل حقوقه التي يعترف له بها الدستور، وعلاوة على ذلك، فحسب القانون تدخل هذه العقوبة حيز التنفيذ حتى بعد خروجه من السجن. عقوبة مخزية، وما يزيدها خزياً هو أنه لا يوجد شيء في الملف ليعلّلها، وهو ما اعترف به القضاة في نهاية الأمر، حيث لم يُتبعوا الأحكام بالاتهامات.
"في الجزائر، أكثر شعور منتشر ومشترك هو الإحساس بعدم الفهم. فجأة، يصير العالم المألوف بأسره غريباً، غير معروف، وتتشوش كل المعايير. هذا الشعور بعدم الأمان يكسر التضامن، ويشتت القوى، ويشلّ الطاقة والعقلانية، إذ لا يترك مجالاً بعدها سوى للرأي الذي يكون حتماً ذاتياً ومتحيزاً". من كتاب غنيّة موفق: "أن تكون صحافياً في الجزائر".
في هذه المحاكمة، وحتى يثبت العكس، لم يتم احترام أي شرط من الشروط الضرورية والإجبارية بموجب القانون، انطلاقاً من قانون الإجراءات الجنائية وصولاً إلى قانون العقوبات. وهو ما كشفه محاموه، ولم تستطع إخفاء الافتقاد لشروط سرية هذه المحاكمة التي جرت في جلسة مغلقة تقريباً، في غياب المتهم الذي تعذر سماعه بوضوح حسب شهادات الحاضرين. هل يجب أن نذكر بأن المادة الأولى من قانون العقوبات تقول فيما يخص مبادئها العامة "لا جريمة ولا عقوبة أو تدابير أمن بغير القانون"؟
أجل، يجب أن نذكّر بهذا.
الجزائر: الجانب المظلم من "المصالحة الوطنية"
24-12-2015
كُلّنا ضِدَّ الجلاد... ولا أحدَ مع الضحية
24-01-2020
وفي النهاية ، وحتى نختم، فإن أولئك الذين يقولون أنهم لم يفهموا شيئاً ليسوا على خطأ، حيث أن ذلك هو الهدف المنشود من وراء مثل هذه المحاكمات. ففي 1996 كتبت في كتابي "أن تكون صحافياً في الجزائر" لصالح "مراسلين بلا حدود": "في الجزائر، أكثر شعور منتشر ومشترك هو الإحساس بعدم الفهم. فجأة، يصير العالم المألوف بأسره غريباً، غير معروف، وتتشوش كل المعايير. هذا الشعور بعدم الأمان يكسر التضامن، ويشتت القوى، ويشلّ الطاقة والعقلانية، إذ لا يترك مجالاً بعدها سوى للرأي الذي يكون حتماً ذاتياً ومتحيزاً". اليوم، لن أغير حرفاً مما كتبت، للأسف.
أنا الموقعة أدناه، غنية موفق، خائنة منذ مئة عام. لاتخاذ الإجراءات اللازمة.
*ترجمته من الفرنسية رحيل بالي.