التنوع هو أهم ما يميز الثورة المصرية والجموع التي قامت بها. فالميدان والشوارع كلها كانت مفعمة بالحياة والحركة والتركيبات اللانهائية. لم يطغ أي لون، لا الزيتي (أي الجيش) كان لونها الرئيسي، ولا أزرق العمال سيد مشهدها، ولم تكن صيحات الطلاب المتحمسة والمتدفقة من جامعتها هي صوتها الأعلى... لم تتكون هنا «الكتلة التاريخية». كان تنوع الأفكار واختلافها سمة رئيسية، على عكس ما يقال غالباً من أن الثورة كانت انعكاسا لتوحد الجموع وتجمعها، وظهور الشعب المصري ككتلة موحدة في مواجهة السلطة. هذا طرح رومانسي يحاول إظهار «الشعب المتجانس»، بينما الاختلاف والتباين لم يذبلا في أي لحظة. ثم ان أحداً لم يستطع تجميع هذا «الشعب» المفترض تحت لواء تنظيم واحد، أضف إلى عدم استطاعة أي تنظيم ادعاء تمثيل الجموع.
رفض التمثيل والنيابة عن...
ومنذ اليوم الأول، حملت الثورة المصرية في طياتها عداء شديداً للتمثيل، والحديث بالنيابة عن الجموع. فالجموع تتحدث وتمثل نفسها وتعبر عنها بشكل مباشر. هذه ثورة بلا رأس يمكن قطعه. إلا ان هذا لا يعني أنها بلا عقل.
وعلى الرغم من كثرة الائتلافات والتجمعات، لم ينجح أحد في تمثيل الثورة أو التفاوض باسمها. ولقد سعت السلطة منذ اليوم الأول، بجد كبير، لمحاولة خلق رأس للثورة. والبداية كانت مع مفاوضات عمر سليمان حيث حاول تجميع المعارضة السياسية الرسمية المتمثلة في أحزاب هشة مثل «التجمع» و«الوفد»، أو التفاوض مع جماعة قوية ولكنها لم تكن المولِّد الحقيقي للثورة، مثل «الإخوان المسلمون» وبعض ائتلافات شباب الثورة. ثم لحق ذلك أكثر من محاولة لخلق رأس، أو محاصرة تمثيل الثورة في بنية ما، مثل البرلمان ولقاءات بعض الأحزاب مع المجلس العسكري. باءت أغلب تلك المحاولات بالفشل، فلم تتمكن من ضبط ما يجري ولا من توليد أطر للتفاوض والمساومة الفعالين. ويمكن تفسير هذا الفشل بعدم فهم السلطة آنذاك لطبيعة الجموع الجديدة، وعدم قدرة الأنماط المعتادة من العمل السياسي والتشريعي والتفاوضي على احتوائها أو تمثيلها. والفشل امتد الى الأحزاب. فالنوع الأول منها، المتأثر بالفكر اللينيني، يرى أهمية وجود حزب ثوري، وطليعة ثورية، تقود الجموع في عملية منظمة ومحسوبة، وتكاد تكون مهندسة سلفاً بمعادلات رياضية دقيقة. وقد جرت محاولات كثيرة لتكوين تنظيم ثوري من رحم ميدان التحرير. كما فشلت الاحزاب او التنظيمات الإصلاحية التفاوضية والتدريجية في استيعاب ديناميات الثورة وأنماط تفاعلها، لأنها لا تملك مفردات المناورة والمباغتة في اللحظات الحرجة، بقدر ما تعرف التدرج والمكاسب المجزأة وفقاً لمراحل محددة. أضف إلى أنها تعوَّدت على نوع آخر من العمل السياسي الذي يفترض التفويض، والتمثيل، والخبرة، وحكم القلة التي تعبر عن الأغلبية، سواء كانت منتقاة بشكل ديمقراطي أم لا. المهم في تجارب تلك التنظيمات هو وجود «مركز»: نقطة ارتكاز تمثِّل العملية السياسية، وتُركِّزها في حكم بعض الخبراء، وليس الجموع المنضمَّة للتنظيم.
مفارقات جذرية بين شكلين من الفعل
كانت هذه الطبيعة الشجرية/الهرمية مغايرة بالكلية لثورة قامت ضد بنى القمع والقهر، ورفضت الأحزاب، والكتل الضخمة، والمؤسسات المختلفة، التي فشلت في التعبير عنها أو تحقيق أدنى مطالب لها، أو حتى خوض معارك حقيقية ضد السلطة. ولم يكن هذا الشكل الشبَكي الذي اتخذته الثورة وليد الصدفة أو اللحظة، بل كان نتاج معاناة كبيرة قبل الثورة مع التنظيمات «الشجَرية»، وكذلك ملاحظة رؤيتها وهي تفشل في خوض المعارك المختلفة ضد السلطة كمنظومة، حتى صارت جزءاً من منظومة السلطة في رؤية الكثيرين. ومن هنا لم تكن مصادفة أن نشهد سلسلة طويلة من الاضطرابات والتمردات داخل الأحزاب المختلفة قبل الثورة وبعد الثورة. وكان الفشل أيضاً من نصيب القيمة المعيارية للسلطة الأبوية كمؤسسة اجتماعية تمتد داخل أغلب التنظيمات وليس في تنظيم بحد ذاته. فقد ذهبت هباء كل محاولات الضغط التي مورست على الثوار من قبل السلطة الحاكمة أو الأعلام، أو من قبل أهاليهم، والقائلة بضرورة العودة إلى بيوتهم، واحترام الرئيس/الأب، وهيبة الدولة، وكل هذه الأشياء...
وتتسم عموماً أغلب الأجيال الشابة التي كانت العماد الرئيسي للثورة برفض شديد للهرمية والتراتبية. وقد انعكس ذلك في أشكال التنظيمات والحركات السياسية التي ابتكرتها. أضف إلى ذلك الغياب الملحوظ لتسلسل رأسي في تلك التنظيمات. ففي أسوأ الأحوال، تسمى بعض اُلقيادات ب«المنسقين» وليس بالرؤساء. وبفضل الوسائل التكنولوجية، صارت القدرة على التعبير والفعل والتنظيم المباشر متاحة للفرد العادي. ومن هنا بدأت تقل الحاجة إلى تنظيمات متماسكة للتعبير عن الأفراد والجماعات. فهناك فرصة للتمثيل عن النفس بشكل مباشر، ومن دون حاجة إلى بنية أو مؤسسة وسيطة. وهناك حالة عامة من التحرر والعداء للأعباء التنظيمية التي تترافق مع البنى الثقيلة. ولم يتحقق توقع البعض بأن الأحزاب السياسية ستشهد رواجاً كبيراً بعد الثورة، وظللنا نشهد ميلاد وموت حركات شبابية خفيفة وسريعة وأكثر قدرة على المناورة.
الخفة والتجدد الدائمان
لم تشهد الأحزاب الوليدة من رحم الثورة (كما يُحب أن يروِّج لها أصحابها)، أي حضور ملحوظ على الساحة، إلا بعض التأثير لقيادات من تلك الأحزاب، وبشكل شخصي أكثر مما هو حزبي. والمتابع لحركات الشباب قبل وبعد الثورة، يلاحظ اتسام تلك الحركات بالتجدد والترحال. فكثيراً ما كنت تجد عضواً في «حركة 6 أبريل» مشترِك في «الحملة الشعبية لدعم البرادعي» مثلاً، وهو نفسه أحد أعضاء «الاشتراكيين الثوريين»، أو على تواصل عميق معهم. فهناك رغبة في السرعة والمرونة والفاعلية أكثر من الثبات والاستقرار والديمومة والترقي. ولا شك في أن كل تلك العناصر معادية بالتعريف للبُنى الشجَرية. ويتسم هذا الجيل بكره قيود التنظيم الجامد، والضجر منها، وبقدر كبير من ممارسة التواصل والتشبيك على الرغم من الخلاف الأيديولوجي. وسيكون من التعجل الحكم بتجاوز الأيديولوجيا، لأنها ما زالت حاضرة في جوانب كثيرة، إلا انه يمكننا القول بأن مقدار المرونة القائم يقلل من حدة الانقسام على خطوط أيديولوجية مثل ما كان يحدث في نضالات القرن الماضي. وهذا التحرر والتجاوز وفّرا قدرة عالية على مواجهة السلطة من مواقع مختلفة وبأنماط متعددة. وهو ما وضعها في حالة من الإرباك الدائم، وجعلها «محاصرة». ثم إن أشكال المواجهة والمقاومة تمثلت في خطوط تتقاطع وتتواصل في شبكات ممتدة، وليس من خلال مراكز ونقاط معروفة، ويمكن رصدها وضبطها ان لم يكن القضاء عليها.
الشباب بين السوق وبقايا المجتمع الانضباطي
في مصر، مرت هذه الأجيال بأزمة شديدة مع مؤسسات المجتمع الانضباطي، مثل الأسرة والمدرسة والسجون والشرطة والمستشفيات والمصنع... ففي المدينة تحديداً، فقدت الأسرة دورها الحقيقي كمؤسسة ضبط مجتمعي قيمي لسببين رئيسيين: صعوبة الحياة المادية وتفشي قيم الفردية والاستهلاك. وتحقق هذا الأمر على مستويي الأسر الفقيرة والمتوسطة والغنية على السواء. فالفقيرة والمتوسطة صار على آبائها وأمهاتها العمل لمدد طويلة أو العمل بوظيفتين، بينما حل تنافس نيوليبرالي على قيم الاسر الغنية، وصار النجاح يعني مضاعفة الصفقات. ولم يتبق من الأسرة غير شكلها كسلطة مانعة وإن غابت عنها إمكانية القمع. والمدرسة تحلل دورها لصالح الدروس الخصوصية، ولم يتبق منها غير القمع والعنف الجسدي لمن بقي في الصف ولم «يزوغ» عبر الأسوار أو حتى من البوابة الرئيسية. فأغلب المدارس الحكومية، وحتى كثير من الخاصة تعاني من ظاهرة عدم الحضور. وبالتالي فالمدرسة كمؤسسة انضباط و«جهاز إيديولوجي» فقدت قدرتها على ممارسة السلطة، وتبقى فقط العنف الذي واجهه الطلاب بعنف مضاد ضد المدرسين والمشرفين. بل تحلل دور الجامعة لصالح التدريبات الخاصة والكورسات الخارجية. وعلى كل، فلم تعد المدرسة ولا الأسرة هم من يمتلكون «القصة الكبرى» أو السردية التي تشكل وجدان الفرد في مراحله الأولى. وصار الأعلام البديل والإعلام الاستهلاكي والشارع المفتوح... يفككون تلك السردية بكل قوة. أما المستشفيات فتحللت لمصلحة المستوصفات الخيرية الخاصة والاحسانية بالنسبة للأغلبية الساحقة، وما تبقّى منها تابعاً للدولة صار مُحاطاً بأصناف من العذاب وسوء المعاملة للجسد بشكل خاص، وامتهان كامل للآدمية. وشهد السجن تحولاً خطيراً في عصر مبارك، حيث صار ملتقى نجوم العالم المحليين في الإجرام، لتطوير العمل فيما بينهم بدلاً من أن يكون عقاباً. وكما تروي روايات الإسلاميين وبعض مؤسسات حقوق الإنسان، فهناك أمران تفشيا معاً داخل السجون المصرية: العنف الجسدي ورخاوة الانضباط والتماسك الإداري للسجن. وأخيراً فالشرطة المصرية، في عقد مبارك الأخير، صارت رمزاً للخوف والفزع وليس لأي أمن. وضعف دورها الجنائي بشكل غير مسبوق، وأصبح كثير من أفرادها ضالعين في شبكات الإجرام كالمخدرات والدعارة أو الإتاوات والمصالح الاقتصادية. والأخطر هو أنها غابت بشكلها المؤسسي اليومي عن مساحات اجتماعية كثيرة وواسعة، وصارت تظهر فحسب في الحملات العنيفة للبطش المفاجئ. في الأخير هناك فشل كامل لمؤسسات المجتمع الانضباطي في تأدية دوره وتحقيق المنافع المرجوة من ورائه.
وتعاني الأجيال الشابة أيضاً مع «السوق»، رمز مجتمع السيطرة، الذي قام بسحقها مع اشتداد رياح الاقتصاد الخدمي في مصر، الذي كاد يحول عدداً ضخماً من الشباب إلى أنصاف عبيد، وبالأخص بعدما شهدته الدولة والمؤسسات المختلفة من فساد وتوحش في العقود الأخيرة. وهكذا تولد عداء شديد لدى تلك الاجيال تجاه ميكانزمات الإخضاع. ومع أزمة المؤسسات وتعدد مصادر المعرفة إلى حد السيولة، بدأ يتم انتاج الذات في مساحات تبعد عن جدران مؤسسات المجتمع الانضباطي. ويمكن القول أن الوعي بدأ يتشكل خارج إطار الدولة إلى حد بعيد. ففقدت هذه الاخيرة أغلب أدواتها في ممارسة السلطة لإنتاج فرد طيع يقبل بما تفرضه عليه من قوانين ونمط حياة وتصورات معرفية عن دوره ودور الدولة وأهميتها.
خلاصة: الجموع الجديدة
إن الأشكال التنظيمية والتمثيلية للجماهير مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بظروف عصرها المعرفية والمادية. فلقد كانت الثورة العُرابية مهداً لميلاد الأحزاب. وفي مطلع القرن العشرين، تشكلت الأحزاب السياسية في مصر من أجل تمثيل الجموع التي استشعرت بُعدها الوطني الجديد، وكانت هناك حاجة ماسة لمواجهة الدولة الوطنية الحديثة والاستعمار، ثم لاحقاً حاجة للمنافسة على السلطة بكافة مستوياتها، من نقابات إلى مقاعد البرلمان. ثم، ومع فشل الأحزاب السياسية والتنظيمات الثقيلة في إحداث أي تغيير في مصر، ومع التحولات العالمية، شهدنا ميلاد الجموع الجديدة. وفي مصر تحديداً، شهدنا نجاح تلك الجموع الجديدة في إحداث ثورة تمكنت من الاطاحة برأس الهرم، وهي ما زالت تكمل مشوارها.