الجديد في انتخاب الرئيس عمر البشير لدورة رئاسية إضافية تبقيه على سدة السلطة حتى العام 2020، انه قنن دخول السودان مرحلة "دولة الرئيس" بعد أن كان دولة الحزب. وفي مطلع هذا العام، وقبيل الانتخابات الأخيرة، أنجز البشير تعديلات دستورية تسمح له بتعيين ولاة الولايات بدلا من انتخابهم شعبياً، وتحويل جهاز الأمن الى قوة نظامية مثله مثل القوات المسلحة والشرطة، بعدما كان وضعه في السابق يقتصر على جمع المعلومات وتحليلها.
فالانقلاب الذي تم في العام 1989 وجاء بالبشير رئيساً لمجلس قيادة "ثورة الإنقاذ الوطني" كان تنفيذاً لقرار حزب الجبهة القومية الإسلامية قلب الطاولة على خصومها السياسيين. وتخوفاً من ردة فعل عدائية متوقعة داخلياً وخارجياً، أعتمد الانقلابيون خطة تمويهية شملت اعتقال بعض قيادات تنظيم الجبهة مع بقية قيادات الأحزاب الأخرى، وتقديم عسكريين واجهة للنظام الجديد، على أساس أن الانقلاب عسكري بحت. ولخص هذا الوضع زعيم الجبهة وعراب فكرة الانقلاب، الدكتور حسن الترابي، إذ قال للبشير: "إذهب الى القصر رئيساً وسأذهب أنا إلى السجن حبيساً"، كما ذكر فيما بعد. وبالفعل تم إيداع الترابي سجن كوبر الشهير مع بقية القيادات السياسية التي اعتقلت. ويقال إن خصم الجبهة، وزعيم الحزب الشيوعي الراحل، محمد ابراهيم نقد، الذي كان معتقلا بدوره توصل مبكراً إلى معرفة اللعبة التي قام بها الترابي وقال له بطريقته الساخرة "شكراً لك على مجاملتنا ومشاركتنا السجن، لكن من الأفضل أن تخرج لتقود هذا النظام الذي أقمته".
الخطة حققت نجاحاً باهراً لدرجة ان مصر، الأكثر أهتماماً ومعرفة بالشأن السوداني، اعتقدت ان الانقلابيين الجدد أقرب إليها، وتحركت على هذا الأساس لتأمين بعض الدعم السياسي الإقليمي والدولي للنظام الجديد. لكن الأمر لم يستمر كثيرا، فقد بدأ النظام في تنفيذ برامج حزب الجبهة الإسلامية، مفتتحاً باب إحالة الألوف من الموظفين والعاملين في الجيش والشرطة إلى "الصالح العام" ( التقاعد او الاحتياط)، وذلك في اطار إستراتيجية "التمكين" وإحلال الاسلامويين مكانهم. على ان التطور الأهم تمثل في خروج الترابي من السجن الى منزله في ضاحية المنشية في الخرطوم التي أصبحت مركز الثقل والقرار الفعلي في البلاد ووجهة الزوار الأجانب. ووصل الأمر الى أن أصبح الترابي يطلق التصريحات التي تحمل توجهات سياسية وأحياناً قرارات كان البشير يسمع بها من أجهزة الإعلام، مثل التصريح الشهير ان مجلس قيادة الثورة سيتم حله وذلك حتى قبل أن يناقِش المجلس الموضوع!
استمرت هيمنة الترابي على المشهد السياسي السوداني عقداً كاملاً من الزمان وذلك من خلال تلامذته وأعوانه الكثر الذين التفوا حوله عبر السنين، وهو ينتقل بالتنظيم من حركة طلابية محدودة الى تنظيم سياسي له بعده الشعبي الواضح مستفيداً من براغماتيته ومزاوجته بين التخطيط الإستراتيجي والتنفيذ التكتيكي. وأبرز محطاته في هذا الجانب مصالحته مع نظام الرئيس الأسبق جعفر النميري التي دخلها بنيّة بناء التنظيم واكتساب خبرة في جهاز الدولة ليكون القوة السياسية التي تخلف النميري. وعقب الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بهذا الاخير في 1985، برزت الجبهة كثالث قوة برلمانية ذات اذرع إعلامية قوية ومؤسسات مالية وتنظيم منتشر، ما جعلها تنفذ انقلابها على النظام البرلماني الذي سمح لها بالعمل تحت رايتها المستقلة، مشارِكة في الحكومة أحياناً ومعارِضة لها أحياناً حتى انقلبت عليها.
الحزب الوحيد المحلول
من مفارقات الانقلاب ان الحزب الوحيد الذي تم حله وتوقف نشاطه السياسي كان الجبهة الاسلامية ومؤسساتها. فالأحزاب الأخرى تم حلها رسمياً لكنها ظلت تعمل تحت الأرض، أما مؤسسات الجبهة فقد تم تجميد عملها فعلا بقرار من الترابي، وانشغل الجميع بتأمين النظام الجديد وتسيير دولاب العمل فيه. ويرى مراقبون أن الترابي استمرأ هذه الوضعية التي تماثل مكانة الأمناء العامين للأحزاب الشيوعية المتمتعين بكامل السلطة، لكنهم لا يتحملون مسؤولية تنفيذية.. فهو المرجعية التي يعود إليها حتى رأس الدولة، البشير. لكن بمرور الوقت، بدأ التململ وسط العسكريين من هذه الوضعية التي جعلت الدولة برأسين. وتفاقم الوضع بعد أن تولى الترابي رئاسة البرلمان والأمانة العامة للتنظيم السياسي الذي أقامه (الحزب الوطني)، واستخدمهما منصة لتحجيم العسكريين وتلاميذه في السلطة التنفيذية وإخضاعهم له. وتصاعد الصراع حتى بلغ ذروته فيما عرف بالمفاصلة في العام 1999، عندما ارتدى البشير بذلته العسكرية وأعلن حل البرلمان والأمانة العامة للحزب، وسانده في ذلك الرجل الثاني في "الجبهة الإسلامية"، علي عثمان محمد طه، الذي أصبح النائب الأول للبشير، ومجموعة من قيادات الجبهة التي رأت انه من الأوفق مواجهة الترابي في سبيل المحافظة على الدولة التي أقامها التنظيم.
أصبح الترابي المعارض الرئيسي للنظام في الداخل، ومد حباله إلى المعارضين الآخرين، بمن فيهم "الحركة الشعبية لتحرير السودان"، مما عرّضه الى اعتقالات متعددة. وفي الجانب الآخر، استمر البشير معتمداً على مجموعة من القيادات الإسلاموية التي تمتلك رمزية الحركة التاريخية ما يسمح باستمرار المحافظة على الصبغة الأيديولوجية لوجه النظام. استمرت هذه الفترة حتى العام 2005 عندما تم توقيع اتفاق السلام مع الحركة الشعبية متضمناً ملامح أساسية تتعلق بقسمة السلطة والثروة، بما في ذلك منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية، الأمر الذي جعلها شريكاً أساسياً في السلطة وذلك حتى انفصال جنوب السودان بعد فترة انتقالية استغرقت ست سنوات.
بعد ذلك برز البشير كأقوى شخصية، مستفيداً من انتمائه للمؤسسة العسكرية، بينما عانى حزب المؤتمر الوطني، الذي ورث الجبهة الإسلامية، وضم الإسلاميين وغيرهم من شخصيات وتيارات مختلفة، من الأمراض التي تصيب الأحزاب التي تقيمها السلطة، خاصة تلك التي يتقادم بها العهد في الحكم ولا يوجد فيها هامش حرية يسمح بالمنافسة. في هذه الفترة، تصاعد الصراع بين قيادات الإسلاميين، خاصة بين نائب البشير علي عثمان ومساعد رئيس الجمهورية لشؤون الحزب الدكتور نافع علي نافع على خلافة البشير اثر إعلان الأخير انه لا يرغب في الترشيح مجدداً لرئاسة الحزب والجمهورية.
انفصال الجنوب أدى الى صدمة سياسية واقتصادية، خاصة مع ذهاب معظم احتياطيات النفط المعروفة في السودان إلى الدولة الجديدة، الأمر الذي فاقم من صعوبات الوضع الاقتصادي، ما دفع الحكومة إلى القيام بإجراءات تتضمن رفع الدعم عن المشتقات البترولية، أدت إلى اندلاع تظاهرات قابلتها الحكومة بعنف مفرط. تبلور الحديث (حتى داخل الحكومة وحزبها) حول ضرورة التغيير، خاصة ومعظم الطاقم الحاكم ظل في مقاعد السلطة لأكثر من عقدين من الزمان. وكان أن شهد أواخر العام 2013 خروج عدد من كوادر الحركة الإسلامية ذات الثقل التاريخي من القيادة، يتقدمهم نائب الرئيس علي عثمان ورجل الحزب القوي نافع علي نافع، ووزراء متنفذون مثل وزير النفط عوض الجاز والكهرباء والسدود أسامة عبدالله والتعدين كمال عبد اللطيف. وسمح هذا التغيير للبشير أن يُحِل مكانهم شخصيات تدين له شخصياً بالولاء، مثل نائبه الأول الفريق بكري حسن صالح الذي ينتمي الى المؤسسة العسكرية، أو آخرين عرفوا دروب العمل العام بعد تولي البشير السلطة، مثل مساعده لشؤون الحزب البروفيسور إبراهيم غندور.
تعديلات دستورية
وتبع البشير هذا التغيير بأن دفع الى البرلمان بحزمة شملت 18 تعديلاً دستورياً من أبرزها تحويل الأمن إلى قوة نظامية ضاربة موازية للشرطة والقوات المسلحة، وتتضمن مهامها محاربة التهديدات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تواجه البلاد، وكذلك تعيين الولاة بدلاً من انتخابهم من قبل مواطنيهم كما كان الوضع الدستوري سابقاً، وتأكيد سلطة الرئيس في تعيين شاغلي المناصب الدستورية والقيادات الأمنية والعسكرية بل وحتى القضائية، مما اعتبر وسيلة للتأثير على القضاء من قبل السلطة التنفيذية. وفي تبرير هذه التعديلات، قالت رئيسة اللجنة التي قامت بها، السيدة بدرية سليمان، إنها صممت لمواجهة أثار الدستور السابق الذي نتج عن اتفاق نيفاشا مع الحركة الشعبية وكان، كما قالت، يهدف الى تفتيت السودان.. ولهذا اتجهت التعديلات الى تقوية سلطات الرئيس لتعزيز قوة المركز في مواجهة انبعاث التيارات القبلية والجهوية. وبالفعل شهدت المؤتمرات القاعدية لحزب المؤتمر الوطني في العام الماضي تنافساً محموماً للفوز بترشيح الحزب لمنصب الوالي، لجأ فيه المرشحون الى استثارة عوامل الدعم القبلي والجهوي، متجاوزين إرث الحركة الإسلامية وشعاراتها عن المبادئ واختيار القوي الأمين.
الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي جرت الشهر الماضي لم تتميز فقط بضعف الإقبال، وأنما ببروز ظاهرة المستقلين من الذين تحدّوا قرارات الحزب وقرروا خوض الانتخابات، معتمدين على شخصياتهم والدعم الذي يمكن أن يلقوه من مواطنيهم. وبالفعل، جاءت النتائج النهائية بقائمة من 19 عضواً برلمانياً جديداً تحت لافتة المستقلين مما يجعلهم ثالث أكبر كتلة بعد نواب الحزب الوطني الذي حصل على 323 مقعداً والاتحادي (الديموقراطي) وحصل على 25 مقعداً. علماً أن الأرقام الرسمية، التي تشكك فيها المعارضة وجهات أخرى، تشير إلى انه من جملة ما يزيد على 13 مليون ناخب معتمد في السجل الانتخابي فإن من صوتوا بلغ عددهم 6.9 ملايين شخص.
مرحلة الانتخابات التي انتهت تؤذن بدخول السودان مرحلة جديدة يتراجع فيها دور أول حزب إسلاموي وصل الى السلطة في المنطقة، وبقي فيها مطلق اليد لأكثر من ربع قرن من الزمان.. اتضح فيها خواء الشعارات حول الحلول الإسلاموية للمشاكل التي تواجه بلداً مثل السودان. على أن تسلمه السلطة الذي تم عبر انقلاب عسكري والبقاء فيها في وجه ضغوط داخلية وخارجية هائلة، يثير أسئلة عن مدى الالتزام الديموقراطي لهذه الحركات. فبخلاف الحركات الإسلاموية الأخرى في المنطقة، كان متاحاً للجبهة الإسلامية في السودان العمل تحت رايتها المستقلة مشاركة ومعارضة. كما أن الدرس الآخر أن عدم إتاحة الحرية للقوى السياسية الأخرى يرتد سلباً حتى على التنظيم نفسه الذي انتهى به الوضع ملحقاً بالنظام العسكري الذي جاء به الى السلطة.
تبقى النتيجة الأهم لهذا التطور هي عودة السلطة والقرار إلى المؤسسة العسكرية والأمنية، وانتهاء آخر تجربة حزبية حديثة لإحداث تأثير في الواقع السياسي من خلال المشاركة الشعبية ذات المنطلقات الأيديولوجية، وعودة الوضع في السودان للاتساق مع ما تشهده المنطقة بصورة عامة من هيمنة عسكرية على المشهد السياسي.