في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، اندلعت ما عُرف بحرب الأسعار بين منتجي النفط، وسعى الكل للحفاظ على حصته في السوق، لكن تفاقم الخسائر دفع جميع المنتجين من الأعضاء في منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) أو خارجها إلى الالتقاء في محاولة لوقف الاستنزاف الذي لم يسلم منه أحد.
وفي الاجتماع الذي استضافته جنيف امتلأت ردهات فندق أنتركونتيننتال بالوفود القادمة من كل حدب وصوب. ومن هؤلاء وفد "هيئة سكك حديد تكساس" الذي أنفق وقتاً كثيراً ليوضح للصحافيين صلته بما يجري من تطورات في السوق النفطية. تعود جذور هيئة سكك حديد تكساس إلى أواخر القرن التاسع عشر، لكن نشاطها امتد الى مجالات النفط والغاز منذ العام 1930 عبر سعيها لتثبيت الأسعار واستقرارها في ولاية تكساس، أكبر الولايات المنتجة للنفط والغاز، كما أصبحت تتولى مهمة تحديد مجالات العمل للشركات الراغبة، ولهذا فهي تعتبر نفسها أول جهة عملت على تنظيم سوق النفط، وهو الدور الذي ورثته عنها بعد ذلك "الشقيقات السبع"، بالإشارة إلى شركات النفط السبع الرئيسية في العالم التي كانت تسيطر على إنتاج النفط الخام والمكرر وعلى الأسعار. ونتيجة لقيام هذه الشركات بخفض الأسعار بدون مشاورة الدول المنتجة، ظهرت إلى الوجود منظمة "أوبك" في العام 1960 للدفاع عن حقوق المنتجين، لكنها لم تنجح في فرض نفوذها واعتبارها لاعباً رئيسياً في الصناعة النفطية إلا عقب حرب أكتوبر 1973، عندما تداخلت زيادة الطلب على النفط مع البعد السياسي لمنطقة الشرق الأوسط، وهي خزان احتياطي النفط الرئيسي في العالم.
وقتها، جاء حظر النفط العربي عن الولايات المتحدة وهولندا بسبب مواقفهما المؤيدة لإسرائيل ليرتفع سعر البرميل أربعة أضعاف ولتحدث أكبر عملية انتقال لرؤوس الأموال، الأمر الذي أعطى أوبك نفوذاً وهيبة دفعاها إلى رفع راية الحديث عن نظام اقتصادي عالمي جديد أكثر عدلاً. ثم جاءت الثورة الإيرانية لتزداد المخاوف بشأن الإمدادات ولتعزز من صورة أوبك ووضعيتها كمنظمة تعبّر من مصالح ومطامح دول الجنوب، وهو الدور الذي سعت إلى تطويره لتصبح مسؤولة عن تنظيم السوق مثل الشقيقات السبع أو هيئة سكك حديد تكساس.
قانون العرض والطلب
فترة الصعود تلك كانت في واقع الأمر تعبيراً عن وضع الصناعة النفطية وقتها التي يتحكم فيها المنتجون لأن العرض أقل من الطلب، ولهذا كانت الأسعار في حالة ارتفاع مستمر وكذلك نفوذ أوبك. فالنفط، برغم أهميته الإستراتيجية، هو في نهاية المطاف سلعة تخضع لقانون العرض والطلب، وبقدر ارتفاع الأسعار في بعض الأحيان فإنها معرضة للتراجع نتيجة لعاملين: الأسعار المرتفعة تؤدي إلى تراجع في الاستهلاك من ناحية كما تسهم من الناحية الأخرى في تشجيع التنقيب عن النفط في مناطق ذات كلفة عالية. وهكذا بدأت تبرز ومنذ أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الفائت مناطق إنتاج جديدة في ألاسكا وبحر الشمال لم يكن التفكير في الاستثمار فيها لاستخراج النفط لولا أن الأسعار العالية جعلت ذلك ممكناً.
ونتيجة لذلك بدأت تتدفق إمدادات إضافية إلى الأسواق من خارج أوبك. ونتيجة لهذا الوضع برزت الفجوة التي بدأت تتسع بين الأسعار الرسمية التي تعتمدها أوبك للبرميل وأسعار السوق الحرة من المنتجين الآخرين غير الأعضاء في أوبك، وبالتالي غير المقيدين بالسعر الذي تعلنه المنظمة، وإنما يهمهم أن يبيعوا نفطهم بالسعر الذي يمكنهم الحصول عليه.
وجدت أوبك نفسها أمام تحدي أن تثبت أنها "كارتل" بحق وحقيق، وتعمل على تحويل السوق لمصلحة المنتجين وذلك عن طريق خفض الإنتاج بصورة فعالة للسيطرة على الأسعار. ومع أنّ الدول الأعضاء في أوبك تربطها حقيقة أنّها ترغب في الحصول على سعر عادل ومجز لبرميل النفط الذي تنتجه، إلّا أنّ مصالح الدول تختلف في نهاية الأمر. فالدول الخليجية مثلاً تتميز بكثافة سكانية قليلة واحتياطيات نفطية ضخمة، وبالتالي فمن مصلحتها الإبقاء على الأسعار معقولة لضمان أن يستمر العالم معتمداً على النفط لأطول فترة ممكنة. منتجون آخرون مثل فنزويلا أو نيجيريا، عدد سكانها كبير، وبالتالي تحتاج إلى إيرادات ضخمة عبر الأسعار العالية، بينما دولة مثل الجزائر تتمتع باحتياطيات نفطية متواضعة وبالتالي فمن مصلحتها الآنية الحصول على أكبر سعر يمكنها الحصول عليه.
شهر العسل القصير
وتعبيراً عن هذا الاختلاف، برزت في أواخر السبعينيات من القرن الفائت مفارقة سعرية. وقتها كانت السوق في حالة صعود، وأوبك ترفع أسعارها عقب كل اجتماع، الأمر الذي أثار الرياض فكانت تبيع نفطها بسعر يقل دولارين عن السعر الذي تقرره أوبك، وذلك لكبح جماح تصاعد الأسعار. ولما لم تؤد تلك الخطوة إلى النّتيحة المرغوبة، خططت السعودية لإحداث فائض نفطي في مطلع الثمانينيات وإنتاج عشرة ملايين برميل يومياً لتفرض على الآخرين وقف مباراة رفع السعر ولتوحيده.
لكن شهر عسل توحيد السعر لم يستمر طويلاً إذ تصاعدت الإمدادات النفطية من خارج أوبك مما أدى إلى اتّساع الفجوة بين سعر أوبك الرسمي وسعر السوق الحرة، الأمر الذي فرض على المنظمة الاجتماع في 1982 لتحديد سقف إنتاجي في حدود 18 مليون برميل يومياً، وذلك في محاولة للعب دور الكارتل الذي يقيد الإمدادات لدعم الأسعار. لكن الوضع لم يتحسن كثيراً، مما اضطر أوبك إلى القيام بالخطوة التالية وهي تحديد حصة لكل دولة عضو على أن تخصص خمسة ملايين برميل يومياً للسعودية بصفتها المنتج المرجِّح الذي يرتفع بإنتاجه ويخفضه حسب احتياجات السوق.
وبما أن الطّلب كان ضعيفاً والدول الأعضاء لا تتقيد بحصصها الرسمية، وتنتج كميات إضافية للتعويض عن ضعف الأسعار، فقد وجدت الرياض إنتاجها يتراجع إلى مستويات تقل عما تنتجه بريطانيا من بحر الشمال مثلاً. فكان أن تخلت عن السعر الرسمي واعتمدت صيغة تسويقية مغرية للمشترين لتغطيتها عاملي الشحن والتأمين مع هامش ربحي للمصافي، وهي الخطوة التي أدت إلى اشتعال حرب الأسعار في منتصف الثمانينيات.
وبتلك الخطوة، لم تستعد الرياض حصتها في السوق فقط، وإنّما تخلّت عن السعر الرسمي لأوبك وتخلت كذلك عن دور المنتج المرجِّح وأصبحت تلك المسؤولية من نصيب دول الأوبك مجتمعة، التي قامت باعتماد استراتيجية جديدة تركز على استعادة نصيبها في السوق وزيادته بدلاً من الاهتمام بالأسعار. وبالفعل تصاعدت تلك الحصة من 18 مليون برميل يومياً وقتها إلى أكثر من 30 مليوناً في الوقت الحالي، لكنها لا تزال تمثل نحو ثلث احتياجات المستهلكين.
يتضح من هذا الاستعراض أنّ أوبك برزت إلى الوجود كرد فعل على سيطرة الشركات الأجنبية على الصناعة النفطية من دون أن يكون للمنتجين دور حتى في تحديد السعر الذي يبيعون به نفطهم. وبقيت المنظمة قابعة خلف المسرح 13 عاماً حتى توفرت تلك اللحظة المناسبة حيث تقاطعت التطورات السياسية في منطقة الشرق الأوسط مع تصاعد في الطلب وضعف في الإمدادات، ما دفعها إلى مقدمة المسرح الدولي. ذاك كان العقد الذهبي لأوبك الذي استمر حتى مطلع الثمانينيات، لتعقبه دورة تراجع وضعت إمكانية المنظمة ككارتل قادر على ضبط السوق على المحك، وهو الامتحان الذي لم تنجح فيه، واتجهت للتركيز على زيادة نصيبها في السوق وساعد على ذلك نمو الطلب منذ بداية الألفية الجديدة ببزوغ الصين والسوق الآسيوية عموماً ونموها الاقتصادي وبالتالي حاجتها إلى المزيد من النفط.
ومع دخول لاعبين مهمين إلى السوق في جانب الإمدادات، مثل روسيا وأميركا بتقنية جديدة لاستخراج النفط الصخري على حساب النفط التقليدي، فإن وضعية أوبك الضعيفة أصلاً انتهت عملياً، بدليل أنّها عندما تريد إحداث أثر في السوق فلا بد لها من التوافق مع دولة مثل روسيا. وهو امتداد لسجل سابق تلخص في عدم قدرة أوبك كمنظمة على التأثير في أي من المجالين الرئيسيين وهما الإنتاج أو الأسعار. فقرارات مثل لعب دور المنتج المرجح أو التخلي عن السعر الرسمي أو زيادة الحصة في السوق اتّخذتها دول منفردة مثل السعودية، وتلخصت مهمة أوبك في دور الكومبارس المساند الذي يتبنى قرارات اتّخذت من قبل، خاصة أنّ المتاعب السياسية والحظر الاقتصادي الذي تعرض له كل من العراق وإيران، وهما دولتان مؤسستان لأوبك وتتمتعان باحتياطيات نفطية ضخمة، أضعف من قدرتهما على لعب دور مؤثر في تسيير شؤون المنظمة. بل إنّ فشل المنظمة وصل إلى عدم قدرتها على انتخاب أمين عام جديد خلفاً لعبد الله البدري الذي استنفد فترتيه المقررتين، لكن بسبب عدم التوافق على من يخلفه، فإنّه يتم التجديد له كل مرة، وهي العملية المستمرة لنحو ثلاثة أعوام حتى الآن.