تدخل الصناعة النفطية الليبية اليوم مرحلة ثالثة، بعد مرحلة البدايات والتأسيس، حين بلغ الإنتاج ذروته بضخ ثلاثة ملايين برميل يوميا في ستينات القرن الماضي، ثم المرحلة الثانية التي لازمت تولي معمر القذافي السلطة وإحكام الهيمنة عبر تأميم الصناعة النفطية. وقد تأثرت الصناعة النفطية الليبية سلبا بعلاقات النظام المتوترة مع الخارج، فعانت بسبب الحظر الاقتصادي والعقوبات وتراجُع الاستثمارات الغربية المصحوبة بالتقنية والادارة الحديثة. أما المرحلة الحالية فهي انعكاس لتدهور الوضع السياسي وبروز سيطرة المليشيات، مما أدى الى تراجع ملحوظ في حجم الإنتاج وتجميد خطط تطويره. وقد وصف مركز الابحاث السويسري «بتروماتريكس» هذه المرحلة قائلا انها تشهد تحلل الدولة الليبية واتجاه الميليشيات المتنافسة ـ التي يقدر عدد أفرادها بحوالي ربع مليون عنصر مسلحين جيدا ـ للسيطرة على الموارد وعلى رأسها النفط.
في منتصف كانون الأول/ديسمبر الماضي، وبينما نواب البرلمان الليبي منهمكون في جلسة عادية، اقتحم القاعة نحو 30 من عناصر بعض الميليشيات مطلقين الطلقات النارية في الهواء، وأغلقوا الأبواب مطالبين الأعضاء بسحب الثقة من الحكومة التي يترأسها علي زيدان. ويذكر ان زيدان نفسه تعرض الى عملية اختطاف قصيرة في الصيف الماضي، الأمر الذي يشير الى مدى تدهور الوضع الأمني وعجز الحكومة عن حماية قياداتها ومؤسساتها التي يفترض فيها التأسيس لليبيا الجديدة. وبدلا من الانتقال الى مربع التحول الديمقراطي ودولة المؤسسات، تبدو ليبيا أقرب الى التفكك والوقوع في أسر ميليشيات متناحرة. وهذا الوضع دفع وزيرة الخارجية الايطالية أيما بونينو الى التصريح لصحيفة «لاريببليكا» ان ليبيا أصبحت خارج السيطرة المركزية وان الأمور تسوء باستمرار. وقد ربط المراقبون بين هذا التصريح وافتراضات شائعة بأن شركة «أيني» النفطية الايطالية، وهي صاحبة وجود ملحوظ في الصناعة النفطية الليبية، هي على طريق وقف أعمالها وأغلاق مكاتبها.
بروز الميليشيات
بعد أكثر من عامين على الأطاحة بالزعيم الليبي السابق معمر القذافي، بدعم مؤثر من حلف الناتو عبر الضربات الجوية التي أنزلها على قوات النظام، تبدو القضية الأكثر الحاحا هي بسط الأمن وتثبيت هيبة الدولة التي تعرضت الى تآكل على المستويات الجغرافية والسياسية ووصلت الى الصناعة النفطية. وهذه الاخيرة تشكل العمود الفقري للكيان الليبي، فهي تمثل 96 في المئة من ايرادات البلاد و98 في المئة من عائداتها من العملات الصعبة، التي تتراوح في حدود أربعة مليارات من الدولارات شهريا، تستخدمها الحكومة في تسيير أمورها بما في ذلك دفع رواتب للكثير من أعضاء هذه الميليشيات، حيث قضى الترتيب والتوافق السياسي باستيعاب الميليشيات التي أسهمت في الأطاحة بالقذافي في الجيش، ودفع رواتب افرادها عبر هذا المدخل.
المعلومات متعددة المصادر تشير الى مساندة تجمعات من العلمانيين والليبراليين لميليشيات في الزنتان، بينما يركز تحالف الاسلاميين على دعم ميليشيات في مصراتة. ويعود ذلك الى ضعف القناعة بامكانية بناء مؤسسات الدولة على أسس مهنية، خاصة مع مشاركة حلف الأطلسي (الناتو) في عملية إعادة البناء والتأهيل. فالتحفظات وعلامات الاستفهام تطال بالطبع الدور الغربي في تشكيل ليبيا الجديدة، اضافة الى وجود عناصر محسوبة على النظام السابق في عملية إعادة البناء هذه.ولهذا فان تلك الميليشيات لم تتخل عن تنظيماتها ولا عن أجندة زعاماتها، لتحقيق بعض الأهداف السياسية لقياداتها والداعمين لها من داخل الحكومة والبرلمان. ويوفر أسبابا كافية للاستمرار في حمل السلاح ما يُرى كمظالم للعهد السابق، المولِّدة للإحساس بالغبن (الحقيقي منه والمتوهم) لأسباب جهوية أو مناطقية. وقد وصل الأمر الى سيطرة بعض المجموعات على مرافق نفطية مثل الموانئ التي يتم تحميل الشحنات منها الى الأسواق الخارجية كميناءي السدر ورأس لنوف، ويمثلان منفذا لنحو 60 في المئة من الصادرات النفطية الليبية. كما قامت مجموعات أخرى بالسيطرة على ميناء الحريقة في منطقة طبرق.
وقامت مجموعة ثالثة بأغلاق خط الأنابيب الذي يحمل الغاز الى إيطاليا، كما أعلن في برقة عن انشاء هيئة مستقلة للنفط والغاز منفصلة عن الحكومة المركزية، والأقليم معروف باحتياطياته النفطية الكبيرة، خاصة في المنطقة الممتدة من شرق طرابلس الى الحدود مع مصر. وأدت هذه الخطوات أحيانا الى بروز سوق سوداء شجعت البعض على محاولة بيع النفط مباشرة وخارج نطاق السيطرة الحكومية، وهو ما حمل رئيس الوزراء زيدان على التهديد بقصف أي ناقلة تدخل الى الموانئ الليبية بدون علم أو إذن طرابلس، الأمر الذي لم يحدث بعد. الدول الغربية تشارك في برامج تدريبية، كقيام الولايات المتحدة بتدريب قوات خاصة، لكن هجوم بعض الميليشيات على مراكز التدريب هذه، ومصادرة بعض الأجهزة الحساسة أدى الى قطع برامج التدريب ومغادرة المدربين. بينما يستمر الاتحاد الأوروبي، وخاصة بريطانيا، في المهام التدريبية، تحوطاً من أن تصبح ليبيا مركزا لتنظيم القاعدة بثروتها النفطية وقربها من القارة الأوروبية. فـ70 في المئة من صادرات ليبيا من النفط والغاز تتجه الى السوق الأوروبية. وفي العام 2011 ضخت الوكالة الدولية للطاقة 60 مليون برميل من الاحتياطي الاستراتيجي في الأسواق بسبب الخوف من تأثير تراجع الإنتاج النفطي الليبي، وذلك في أول خطوة من نوعها منذ العام 2005، حين وقع أعصار كاترينا في خليج المكسيك في الولايات المتحدة، حيث تم القيام بخطوة مماثلة لضمان عدم حدوث تخوف من انقطاع الإمدادات مما ينعكس على وضع الأسعار.
تراجع الانتاج النفطي
باحتياطياتها النفطية المؤكدة التي تصل الى 48 مليار برميل، تحتل ليبيا المرتبة التاسعة عالميا فيما يخص الاحتياطيات، هذا الى جانب جودة نفطها الخفيف وقربه من الأسواق الأوروبية تحديدا، الأمر الذي يعطيه ميزات اضافية. على ان عدم الاستقرار السياسي والاضطراب الأمني أديا الى نتيجة مباشرة تمثلت في تراجع الإنتاج النفطي إلى أقل من ثلث ما كان عليه قبل سقوط القذافي (حيث كان 1.6 مليون برميل يوميا). بل انه، وعند إغلاق المرافق النفطية في الصيف الماضي، تراجع الإنتاج الى أقل من 200 ألف برميل يوميا.
وكانت لدى ليبيا خطط قبل الثورة لرفع الانتاج الى 1.7 مليون يوميا كمرحلة أولى تعقبها مرحلة ثانية تصل الى مليوني برميل يوميا، وذلك عن طريق التركيز على برنامج لرفع نسبة الاستخلاص من الحقول المنتجة، وهو ما يطلب ضخ الكثير من الاستثمارات، واستقدام التقنية الملائمة، والتعويض عن سنوات الحظر والعقوبات الاقتصادية بسبب اتهام ليبيا بممارسة الإرهاب، ما بين ثمانيات القرن الماضي وحتى العام 2004، عندما تم التوصل الى اتفاق بتعويض ضحايا لوكربي ومن ثم رفع الحظر، مما سمح للشركات بالعودة الى الساحة الليبية. وهذا البرنامج التطويري الذي يعود الى العام 2009 قام بتحديد 24 حقلا وتشجيع الشركات الأجنبية للعمل فيها حتى يمكن اضافة 775 ألف برميل يوميا الى الانتاج. لكن تدهور الوضع السياسي والأمني، وعدم وجود بيئة قانونية واضحة (اذ يعود القانون الموجود الى العام 1955) عوامل لا تشجع الشركات على ضخ استثماراتها رغم عودتها الى الساحة النفطية الليبية بعد رفع العقوبات.وليبيا عضو في منظمة الأوبك منذ العام 1962، وهي دولة نفطية قديمة، إلا أن عمليات التنقيب عن النفط فيها تظل قابلة للمزيد من النشاط، كون تقديرات الاحتياطيات المؤكدة تمثل نحو ثلث احتياطيات القارة الأفريقية، وكون 80 في المئة من النفط المكتشف يتركز فحسب في أربعة أحواض رسوبية رئيسية هي مرزوق، وغدامس، وبرقة، والكفرة، الأمر الذي يتيح مجالا واسعا للعمل في مجالات الاستكشاف والتنقيب، وهو ما كان يؤمل أن يتم الانطلاق فيه عقب الاطاحة بنظام القذافي.
لكن النظام الذي أعقبه حتى الآن لم يشكل تغييرا يذكر فيما يتعلق بسيادة حكم القانون. ووفقا لمؤسسات حقوقية، فإن الميليشيات تتبع أساليب التعذيب نفسها وتحتجز ما لا يقل عن ثمانية آلاف معتقل من أنصار النظام السابق ومن خصومها السياسيين (بحسب هيومان رايتس ووتش في تقرير لها أصدرته الشهر الماضي عن ليبيا وطالبت فيه بتأكيد سيادة القانون في البلاد).على ان إعلاء راية القانون يتطلب بداية فرض هيبة الدولة، وهو ما أدى الى تداول أفكار حول السماح بتشكيل قوات أممية تحت الفصل السابع حتى تتمكن من استخدام القوة ومواجهة الميليشيات. ويحظى هذا التوجه بدعم رئيس الوزراء زيدان، ويبدو ممكناً كون ليبيا قادرة على الانفاق على عملية كهذه. لكن زيدان لم يستطع تأمين الدعم السياسي الداخلي حتى الآن ليمضي في خطوات عملية. والولايات المتحدة ليست في وارد ارسال جنود لهذا الغرض في الوقت الذي تعمل فيه ادارة الرئيس باراك أوباما على تقليص الوجود العسكري في الخارج. ويبقى خيار اللجوء الى اتفاقيات ثنائية مع بعض الدول الأوروبية، وترشّح فرنسا لتكرار تجربتها في مالي، لكن مع الثمن الملائم!وجود ستة ملايين نسمة في بلد يمكنه انتاج مليوني برميل يوميا بقليل من الجهد، فتح الباب واسعا أمام بروز ليبيا كمنطقة جذب جديدة لصالح أهلها وللإقليم عموما والصناعة النفطية. لكن تلك الآمال تبخرت سريعا وحل محلها خوف من الا تتمكن الحكومة من توفير حتى رواتب موظفيها، ومن بينهم عناصر الميليشيات المختلفة، وهو ما يفتح المجال واسعا أمام مزيد من التدهور والصراع للسيطرة على مورد النفط اذا لم تستغل فترة تمديد الفترة الانتقالية للوصول الى توافق وطني ودستور وفتح الباب أمام انتخابات جديدة قبل نهاية هذا العام.