تزامن هبوط أسعار النفط مع تطورات سياسية وأمنية في المنطقة تمحورت حول الموقف من النظام السوري، والاصطفاف الإقليمي التنافسي بين السعودية وإيران ومن خلفهما الولايات المتحدة وروسيا، الأمر الذي دفع إلى اعتبار تراجع سعر برميل النفط كجزء من خطة أمريكية - سعودية لإضعاف المحور الروسي الإيراني. فما هي تجربة السعودية السابقة مع انهيار أسعار النفط، وكيف تتعامل مع حسابات السياسة وحسابات السوق؟
مراجعة
في مطلع العام 1986 قامت السعودية بخطوتين انفراديتين فتحتا الباب وقتها لما عُرف بحرب الأسعار، وأدتا في الوقت ذاته إلى ترتيبات جديدة وسمت ممارسات منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) منذ تلك الفترة. والخطوتان هما تخلي الرياض عن السعر الرسمي الذي كان تعتمده المنظمة، وتحديدا خام «العربي الخفيف» الذي تنتجه السعودية ويعتبر مؤشر للأسعار، والاستعاضة عن ذلك بما أطلق عليه صيغة «نيت باك» Netback، وهي الصيغة التي تضمن للمصافي هامشا ربحيا بعد حسم كلفة الشحن والتأمين والمصاريف الأخرى، واعتبرت مغرية ووسيلة فعالة لاستعادة السعودية لنصيبها في السوق الذي تدنى الى ما يزيد وقتها عن مليوني برميل يوميا، أي أقل مما كانت تنتجه بريطانيا من بحر الشمال.
أما الخطوة الثانية فهي تخلي السعودية عن لعب دور المنتج المرجح Swing Producer الذي يرتفع بإنتاجه ويخفضه وفق حاجة السوق. وللدقة، فأن الرياض وضعت تصرفها في هذا الجانب تحت بند المسؤولية السيادية وليس الالتزام اتجاه الأوبك. قبل ذلك قررت المنظمة سقفا إنتاجيا معينا لضمان الدفاع عن سعر البترول، وخصصت لكل دولة حصة معينة، كان نصيب السعودية منها هو الأكبر أي خمسة ملايين برميل، كونها المنتج المرجح. لكن الممارسة العملية أوضحت بجلاء انه كلما خفضت السعودية من حجم إنتاجها وردت إمدادات إضافية من أعضاء أوبك الآخرين، وذلك بسبب عدم التزامهم بحصصهم المقررة. وعندها أقدمت السعودية على هاتين الخطوتين اللتين دفعتا سعر البرميل ليهبط الى أقل من عشرة دولارات في بعض الأحيان.
كان الهدف من حرب الأسعار تلك تقليص حجم الإمدادات الواردة إلى السوق، خاصة من خارج أوبك، وذلك لأن تدني السعر يمكن أن يجعل الإنتاج من المناطق ذات الكلفة العالية مثل بحر الشمال غير مجز اقتصاديا، أو يدفع المنتجين من خارج أوبك الى تحمل شيء من العبء وخفض إنتاجهم دفاعا عن السعر. لكن شيئا من ذلك لم يحدث، لأن تلك الحرب لم تستمر فترة كافية لتحقق تلك الأهداف. هذا الى جانب النزف المالي الذي عاشته السعودية نفسها، ودفعها حتى إلى عدم إعلان ميزانية للدولة ذلك العام بسبب اضطراب السوق النفطية وصعوبة تقدير إيراداتها من بيع النفط. ثم هناك الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة خوفا على ولاياتها المنتجة للنفط. وللمفارقة فإن ضحية حرب الأسعار تلك كان مهندسها وزير النفط وقتها الشيخ أحمد زكي يماني الذي أعفي من منصبه بعد قرابة ربع قرن من الزمان قضاها في قيادة الوزارة.
ثلاثة اعتبارات
هل يمكن أن تتكرر حرب الأسعار هذه المرة، خاصة والسوق تعاني من تخمة تدفع بسعر البرميل نحو الهبوط؟ قبل الأجابة على السؤال يستحسن ايراد بعض الملاحظات، وأولها ان أوبك تحولت من استراتيجية الدفاع عن سعر رسمي الى استراتيجية جديدة تقوم على زيادة حصتها في السوق والحفاظ عليها. كما انها أعفت السعودية من مسؤولية وعبء المنتج المرجح، ولو أن الرياض، في إطار تفاهم ضمني ومن واقع قدراتها الإنتاجية والتصديرية العالية واحتفاظها بطاقة فائضة، حددت لنفسها موقع من يقوم بإنتاج ربع الإنتاج الكلي للمنظمة، وهي النسبة التي ارتفعت مع غياب النفطَين العراقي والإيراني بسب العقوبات الدولية على هذين البلدين، وحدوث انقطاع من هنا وهناك كما مع فنزويلا ونيجيريا وغيرهما. وقد عوضت السعودية عن تلك الإمدادات الغائبة.
ظلت السياسة النفطية السعودية تتحرك وفق ثلاثة اعتبارات: أن تحافظ على سعر معقول لبرميل النفط لتضمن وجود سوق ومشترين إلى أطول فترة ممكنة، وذلك بسبب احتياطياتها الضخمة التي تشكل ربع الاحتياطيات العالمية المؤكدة، كذلك الاحتفاظ بطاقة إنتاجية فائضة (ما بين مليون إلى مليوني برميل يوميا)، لتعوض بها عن أي انقطاع في الإمدادات من أي منتج، وذلك لتعزيز وضعها الاستراتيجي عالميا. ويذكر انه في العام 2005 استضاف الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش ولي العهد السعودي وقتها الأمير عبد الله بن عبد العزيز في مزرعته في تكساس، وكان على جدول اللقاء بينهما بند وحيد وهو برنامج شركة أرامكو لرفع طاقتها الإنتاجية إلى 12.5 مليون برميل يوميا. أما الهدف الثالث فهو الحصول على عائدات كافية تمكّن الدولة من الوفاء بالتزاماتها المحلية ،من تنمية وخدمات، وكذلك الإقليمية.
وكي تتمكن أي دولة من الدخول في حرب أسعار، فإنها تحتاج إلى التمتع باحتياطيات مالية ضخمة يمكن الاستناد إليها وتحمل عبء الخسائر التي ستتعرض لها، وكذلك وجود إمكانيات تصديرية نفطية حتى يمكن التعويض ولو جزئيا عن تدني العائدات بسبب انخفاض سعر البرميل، بزيادة حجم مبيعات الصادرات. السعودية تبدو في موقف أفضل من غيرها في هذين الجانبين. ووفقا لتقديرات مؤسسات مالية عديدة، فإن المملكة تتمتع باحتياطيات من العملات الصعبة تبلغ 768.5 مليار دولار تمكنت من جمعها خلال السنوات الماضية بفضل ارتفاع حجم صادراتها الذي تزامن مع ارتفاع الأسعار. أما صناعتها النفطية فهي تتميز بمرونة بائنة تتمثل في قدرتها على الارتفاع بإنتاجها إلى أكثر من 12 مليون برميل يوميا، وتعدد منافذ التصدير لديها في الخليج والبحر الأحمر، وفوق هذا الكلفة المنخفضة لإنتاج البرميل التي تبلغ حوالي دولارين وتعتبر الأقل والأرخص في العالم.
وبالإضافة إلى هذا، فإن السعودية نجحت خلال العقود الماضية في المضي قدما في تطبيق استراتيجيتها الهادفة إلى تكرير نسبة كبيرة من النفط الذي تنتجه، وذلك تلبية لاحتياجاتها الداخلية المتنامية من ناحية ولزيادة القيمة المضافة لصادراتها بدلا من تصدير النفط خاما، وهو ما يساعد على استيعاب تقلبات الأسعار، خاصة وأوبك لا شأن لها بالمنتجات المكررة كما الحال مع النفط الخام. فللسعودية ثمانية مصاف داخلية يبلغ إجمالي إنتاجها مليونين ونصف المليون برميل يوميا. وتمكنت هذا العام من بدء العمل في مصفاتي الجبيل التي تنتج بعض البتروكيماويات أيضا مع الشركة الفرنسية توتال، وفي ينبع مع الشركة الصينية صينوبيك، وطاقة كل منهما 400 ألف برميل يوميا، كما يتوقع لمصفاة جازان أن تبدأ العمل في غضون العامين المقبلين بطاقة 400 ألف برميل يوميا كذلك. وللسعودية أيضا مشاركات في سوق التكرير الدولية أهمها تلك التي في الولايات المتحدة والصين واليابان وكوريا الجنوبية، وطاقتها مجتمعة 2.4 مليون برميل يوميا. واذا حسم نصيب الشركات الأجنبية، فأن نصيب شركة أرامكو السعودية في قطاع المنتجات المكررة داخليا وخارجيا يصل الى 4.8 مليون برميل يوميا. وهناك تقارير تشير إلى أنها تخطط لإنفاق 100 مليار دولار في استثمارات جديدة في هذا القطاع لتصل بحجم المنتجات المكررة التي تسيطر عليها إلى ما بين 8 - 10 ملايين برميل يوميا.
حسابات حرب الأسعار
ومع ان السعودية تبدو هكذا مؤهلة أكثر من غيرها للدخول في حرب أسعار وحماية حصتها في السوق، الا ان تبعات مثل هذه الحرب فد تدفعها إلى التريث. وعلى رأس هذه انه حتى قبل التراجع الأخير في أسعار النفط، فأن صندوق النقد الدولي توقع أن تشهد موازنة العام المقبل في السعودية عجزا يصل الى 1.5 في المئة من حجم الناتج المحلي الإجمالي، علما أن تقديرات الصندوق السابقة كانت تتوقع حدوث هذا العجز في العام 2018، الأمر الذي سيدفعها أما إلى اللجوء إلى الاحتياطيات لسد ذلك العجز أو إلى خفض برامج التنمية والدعم الاجتماعي وتوفير الوظائف.. وما قد تؤدي اليه خطوة مثل هذه من تبعات سياسية، خاصة وعدد سكان السعودية قارب 30 مليون نسمة. وكان الإنفاق على هذه الجوانب قد شهد ارتفاعا ملحوظا بلغ 52 في المئة ليصل الى 265 مليار دولار منذ 2010 وبعد اشتعال ثورات «الربيع العربي». وهناك أيضا الدور الإقليمي الذي تقوم به الرياض ويكلفها دعما ماليا كبيرا، مثلما هو الحال مع مصر وغيرها، اذ بلغت التزامات السعودية الخارجية خلال السنوات الأربع الماضية 22.7 مليار دولار. ودفع هذا الوضع الأمير الوليد بن طلال الى تحذير وزير النفط المهندس علي النعيمي، في رسالة مفتوحة، من تبعات تدهور أسعار النفط على البلاد.
من ناحية ثانية، هناك من يرى في تراجع أسعار النفط الى ربما أقل من 80 دولار للبرميل، كما يلمح المسئولون السعوديون، خطة تشارك فيها الرياض واشنطن لإلحاق الأذى بالإقتصادَين الروسي والإيراني الذين يعتمدان على عائدات مبيعاتهما من النفط بنسبة تصل إلى نصف إيرادات الدولة للأولى ونحو 60 في المئة لإيران، وذلك بسبب موقفهما الداعم للنظام السوري. ومع ان الرابط بين النفط والسياسة لا يمكن استبعاده، إلا ن العامل الأساس الذي لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان ان السبب في تراجع سعر البرميل يعود بصورة رئيسية الى وفرة العرض، خاصة من قبل الصناعة النفطية الأميركية التي أصبحت منافسا قوياً، بدليل تجاوزها هذا الشهر لكل من السعودية وروسيا، كأكبر منتجين للنفط والسوائل الأخرى. وعليه فخفض الأسعار يبدو في حقيقته رد فعل مرتبط بالسوق أكثر منه فعلا لتحقيق أهداف سياسية.
أهم من ذلك، فأن زيادة الإمدادات النفطية الأمريكية يمثل تحولا استراتيجيا كبيراً، وذلك لأنه يستند الى تطورات تقنية جعلت من الممكن استخراج النفط والغاز من مناطق ومكامن لم يكن واردا العمل فيها في السابق. وربما يسهم تراجع الأسعار الى ما دون 70 دولارا في تحقيق أكثر من ضربة وفي أكثر من اتجاه هذا إذا اشتعلت حرب الأسعار فعلا واستمرت وقتا طويلا لاضعاف كل من روسيا وإيران، وفوق ذلك لتحجيم النمو في الإنتاج النفطي الأميركي المحلي. لكن يبقى السؤال عن الوقت الذي ستستغرقه هذه الحرب وتبعاتها الجيوستراتيجية والأمنية، وإذا كانت الرياض على استعداد لتحملها.