الأرقام المتاحة تشير الى الحقيقة البديهية: إن الوضع الاقتصادي في الدول التي شهدت انتفاضات يعيش حالة من التدهور المستمر. فالانشغال الدائم بتطورات الأوضاع السياسية أدّى الى شلل وجمود في متابعة الشأن الاقتصادي، كما ان المرحلة الانتقالية التي تعيشها هذه الدول أدّت من الناحية الأخرى الى التردد أو التأجيل في اتخاذ قرارات مفصلية تخص كيفية معالجة العجز المتفاقم في موازنات هذه الدول، سواء من خلال رفع الدعم عن بعض السلع ولو بصورة جزئية، أو زيادة الضرائب والرسوم، وتنامي معدلات العاطلين عن العمل، أو الدخول في اتفاقيات طويلة الأمد للحصول على قروض ميسرة أو غير ميسرة سواء من منظمات عالمية مثل صندوق النقد الدولي أو من دول شقيقة أو صديقة. ولهذا سيبقى البعد الاقتصادي عاملاً مهماً في تحديد مستقبل الثورات التي تموج بها المنطقة.
تراجعات متوقعة
في الخامس من شهر آب/أغسطس الحالي، أعلن البنك المركزي المصري ان الاحتياطيات المتوفرة لديه من العملات الصعبة بلغت أعلى معدل لها خلال عامين، لتصل الى 18.8 مليار دولار. وهذا التحسن يعود بصورة أساسية الى الدعم الخليجي الذي وفرته كلاً من السعودية والإمارات والكويت، التي قدّمت تسعة مليارات دولار في شكل هبات وودائع لتوضع لدى البنك المركزي الى جانب ثلاثة مليارات دولار في شكل دعم سلعي لتوفير منتجات نفط وغاز. لكن رغم هذا الانفراج الكبير، إلا أن معدل هذه الاحتياطيات يزيد قليلاً عن نصف ما كانت عليه قبل ثورة كانون الثاني/يناير 2011 التي أطاحت بالرئيس الأسبق حسني مبارك، وبلغت وقتها 36 مليار دولار.
في تونس المجاورة التي شهدت الانتفاضة الشعبية الأولى ضد الرئيس زين العابدين بن علي، وحققت قدراً من التطور السياسي في اتجاه الحريات والتعددية، تنامى العجز في ميزان المدفوعات وتراجعت الاحتياطيات الأجنبية، بما يؤثر على قدرة الدولة في تأمين احتياجات المواطنين من السلع، وهذا يوفر الأرضية الملائمة لتفاقم الأزمة السياسية. العائدات من السياحة التي شكلت أحد ركائز الاقتصاد التونسي سجلت تراجعاً في الشهور الخمسة الأولى من هذا العام بنسبة 8 في المئة، الى 595 مليون دولار، مقارنة بما كانت عليه في الفترة نفسها أبان الحكم السابق. كما سجلت تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية انخفاضاً بنسبة 17 في المئة، الى 394 مليون دينار تونسي بالمقارنة مع ما كانت عليه في العام 2010. أما الميزان التجاري فقد بلغ العجز فيه في الشهور الخمسة الأولى من هذا العام 4.7 مليار دينار، أي بزيادة 5 في المئة عن المعدل الذي كان عليه حجم العجز في الفترة المقابلة من العام الماضي، وما يصل الى 32 في المئة زيادة عن حجم العجز الذي كان في الفترة نفسها من العام 2010. أما الاحتياطيات الأجنبية فقد بلغت في نهاية حزيران/يونيو المنصرم ما يسمح بتغطية واردات البلاد لفترة 94 يوماً، وذلك مقابل 100 يوم قبل عام و140 يوما في الفترة نفسها من العام 2010. ويقول الدكتور الشاذلي العياري محافظ البنك المركزي إن تونس تحتاج الى توفير احتياطيات من النقد الأجنبي لتغطية احتياجات البلاد لفترة 100 يوم كحد أدنى.
أما في اليمن التي سجلت حالة مختلفة في ثورتها عما حدث في مصر وتونس وليبيا، فقد شهد شهر شباط/فبراير الماضي تراجعاً في حجم الاحتياطيات الأجنبية بنحو 457 مليون دولار لتستقر عند 5.8 مليار دولار، وهو أقل معدل منذ آب/أغسطس المنصرم، ولو ان هذا المعدل يمكن أن يغطي واردات البلاد لفترة ستة أشهر. أحد أسباب التراجع في الاحتياطيات من النقد الأجنبي هو ضعف العائدات من مبيعات النفط وذلك بسبب الهجمات المسلحة التي طالت بعض المرافق النفطية، وفي غضون شهر واحد خسرت الخزينة اليمنية مبلغ 210 ملايين دولار، وهو ما يمثل تراجعاً بنحو الثلث من العائدات التي كانت متوقعة.
النقطة الأساسية اقتصادياً في التحولات التي شهدتها هذه الدول انه مع حالة الانتقال المضطربة سياسياً من أنظمة تقوم على سلطة مركزية، فإن الجانب الاقتصادي كان يعيش حالة من السيطرة المركزية تخطيطاً وإدارة للعملية الاقتصادية في الوقت ذاته، وانه مع الاتجاه الى إحداث نقلة لفتح الباب أمام تمثيل أوسع لقوى أخرى سياسياً، فإن خطوة مماثلة كانت منتظرة في الجانب الاقتصادي لفتح الطريق أمام استغلال أفضل للموارد المتاحة، وفوق هذا توزيعها بطريقة أكثر عدالة، وتضييق الفجوة بين مَن يملكون ومَن لا يملكون.
الصلة بين السياسة والاقتصاد
الثورات على النظم القديمة تتبعها عادة فترات انتقالية تطول أو تقصر، الأمر الذي يؤدي الى حالة من التباطؤ السياسي يصل أحياناً الى مرحلة الشلل، وهي مرحلة سياسية لها تبعاتها الاقتصادية مثلما هو واضح في مصر وتونس واليمن وسورية وغيرها، التي تعيش حالة من المخاض السياسي والاقتصادي. ففي دراسة لصندوق النقد الدولي تناولت حالة الانتقال وحاولت تطبيقها على ما يجري في الدول العربية التي تمور بالثورة، وجدتْ ان حالة الانتقال من الاقتصاد المركزي الى اقتصاد السوق (حيث سيادة المؤسسات والقوانين) تتأثر بحالة الحراك السياسي العميق الذي تشهده هذه البلدان. وذلك يبدو واضحاً في كل من مصر وتونس واليمن وبدرجة أقل في المغرب والأردن مثلا، حيث تمكن النظام القائم من أخذ زمام المبادرة عبر بعض الإجراءات ومن ثم استباق الاحتقان السياسي الذي كان يمكن أن يدفع بالبلاد الى حالة ثورية. عدم الاستقرار السياسي الناجم عن الفترة الانتقالية التي تعقب سقوط النظام القديم، ينتج وضعاً اقتصادياً غير مستقر وأداءً ضعيفاً. يصاحب التراجعَ الاقتصادي على المدى القصير، في غضون عامين أو ثلاثة، تناقص في تدفق الاستثمارات الأجنبية ونمو في معدلات التضخم وزيادة لمعدلات العطالة. ويمكن لفترة التراجع الاقتصادي أن تطول متى استمرت حالة الشلل السياسي. وخلال هذه الفترة، يتراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تتراوح بين 1-7 في المئة، وقد يحتاج الى فترة خمس سنوات حتى يستعيد شيئاً من العافية. نسب البطالة مرشحة للنمو خلال هذه الفترة بنسبة 1-2 في المئة خلال العامين الأولين من الفترة الانتقالية، كما تحتاج الى فترة خمس سنوات أخرى للعودة الى معدلها الطبيعي. أما تدفقات الاستثمارات الأجنبية فتشهد في الغالب تراجعاً بنسبة 10 في المئة في الحد الأدنى الى 40 في المئة حداً أعلى، وتحتاج الى فترة خمس سنوات أيضاً لتعود الى المعدلات التي كانت عليها قبل الثورة.
إحدى المعضلات التي تعاني منها الدول العربية التي مرت بتطورات سياسية وثورات شعبية انها لم تجد سنداً خارجياً يتبنى الخيارات السياسية والاقتصادية نفسها،، مثلما حدث مع دول شرق أوروبا مثلاً في تسعينيات القرن الماضي وإثر سقوط حائط برلين، وبالتالي يقدّم لها العون اللازم لتجاوز مرحلة الانتقال هذه في وقت أقصر وبأقل قدر ممكن من الخسائر. والتفاتاً لهذا الجانب، قامت قمة مجموعة الثماني إبان لقائها في مدينة دوفيل الفرنسية في أيار/مايو 2011 بإعلان شراكة مع عشر مؤسسات مالية وتنموية الى جانب مساهمات من السعودية، الكويت، الإمارات، تركيا وقطر، وذلك لمساعدة الدول التي تمر بمرحلة التحولات هذه، وتحديداً مصر، تونس، ليبيا، اليمن، المغرب، والأردن. وهدف اعلان الشراكة هذا الى تحقيق أربعة أهداف رئيسية: إعادة الاستقرار للأوضاع الاقتصادية عبر برامج عون مباشرة من صندوق خاص، مساعدة هذه الدول على دخول الأسواق المالية مجدداً، ودعم المؤسسات الحيوية في هذه الدول لإحداث تغيير في الممارسات بما يسهم في توفير فرص متزايدة للتوظيف سواء عبر أنشطة القطاع الخاص أو الاستثمارات الأجنبية والسعي بصورة حثيثة لإحداث تكامل اقتصادي.
المجموعة أعلنت انها ستقدّم مبلغ 20 مليار دولار لمساعدة دول ما أسمته «الربيع العربي»، وأن المؤسسات التنموية الدولية والإقليمية مثل البنك الدولي، والبنك الأفريقي للتنمية، والبنك الإسلامي للتنمية، والبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير، وغيرها ستسهم كلها بصورة ما في عمليات العون هذه، التي بدأت بصورة متواضعة في انتظار استكمال بعض الترتيبات الإجرائية والقرارات السياسية والاقتصادية.
«نصائح» إسرائيلية
ما يجري في مصر ليس شأناً مصرياً خاصاً ولا حتى عربياً فقط. فبسبب محورية مصر في المنطقة، ولكونها تضم أكبر كتلة سكانية، فإن ما يجري فيها يلفت اهتمام الكثيرين. ومن هؤلاء إسرائيل التي تخشى على نفسها من أي عدم استقرار في مصر، أو من غلبة اتجاهات معادية لها. وبسبب التأثير المتعاظم للوضع الاقتصادي، فإن إحدى مؤسسات الأبحاث الإسرائيلية أدلت بدلوها، باذلة نصيحتها فيما ينبغي عمله لمعالجة الوضع الاقتصادي المتدهور في مصر. ووفقاً لـ«معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي»، فإن على القاهرة اتباع خطة ترتكز على خمسة محاور وذلك بهدف إعادة ربط الاقتصاد المصري بالعالمي. والمحاور المذكورة تتلخص في: 1ــ زيادة استقطاب معدلات الاستثمار الأجنبية التي بلغت في فترة تسعة أشهر، حتى آذار/مارس الماضي، 1.4 مليار دولار فقط مقابل متوسط سنوي في حدود عشرة مليارات دولار في أواخر عهد مبارك، 2ـ المشاركة بفعالية في جهود تغيير قواعد التجارة الدولية، وطرق أسواق جديدة من خلال عقد اتفاقيات تجارة حرة مع دولة مثل الصين، 3ـ كما يلفت النظر التوصية بتثقيف الشارع بالدور الذي تقوم به بعض المؤسسات العالمية مثل صندوق النقد الدولي. فبالرغم من تراجع الحديث عن قرض الصندوق المنتظر والمقدّر بنحو 4.8 مليار دولار، ربما بسبب تدفق العون الخليجي اثر الإطاحة بالرئيس الإخواني محمد مرسي، إلا أن ذلك العون الخليجي يتوقع له أن يقدم متنفساً للاقتصاد المصري ولفترة قصيرة قد لا تتجاوز الستة أشهر، 4 ـ الأمر الذي يفرض ضرورة اللجوء الى خيارات إصلاح اقتصادي أكثر عمقاً. 5ـ وخطوة مثل هذه تتطلب ضمان أن تقدم الحكومة الحالية على اتخاذ إجراءات تضمن استمرارها من قبل أي حكومة مستقبلية. فالإصلاح الهيكلي يحتاج الى إطار زمني أطول ليأتي أكله، وبما أن القاعدة السكانية في المنطقة العربية شبابية في المقام الأول، فإن تحمّل جرعات من الدواء المرّ الآن يمكن أن تعود بفائدة مستقبلية لمصلحة الأجيال الشبابية الصاعدة.
رغم الوضع السياسي والاقتصادي المحبط حالياً، الا ان هناك بعض الملاحظات التي تشيع شيئاً من الأمل بطاقات يمكنها تجاوز الموقف. فقد ورد في كتاب جديد للصحافي الأميركي كريستوفر شرويدر عن الثورات التي تموج فيها المنطقة، فأشار الى جيل جديد من رجال الأعمال الشباب المشبعين بقدرات وارتباطات في عالم التقنية بطريقة تجعلهم قادرين على تجاوز العقبات والعوائق السياسية والمجتمعية التي تصادفهم والنجاح في تقديم منتجات الى السوق، لأنهم يعتمدون أساليب تتسق مع عالم اليوم. ومثلما أسهمت وسائل الاتصال الاجتماعي الحديثة مثل فيسبوك وتويتر وسكايب وغيرها في التغيير السياسي، فإنها في الوقت نفسه تفتح آفاقاً للمساهمة في الجانب الاقتصادي، وهو ما يمكن التدليل عليه من بعض النماذج، فموقع «الطبي» الإلكتروني مثلاً يعتبر سوقاً مفتوحاً وأكبر ميدان للتسوق بالتجزئة عبر الأنترنيت في الإقليم، حيث يعمل به 500 موظف ويصل عدد زبائنه الى ثمانية ملايين. وهذه القدرات التقنية، رغم جزئيتها وتخصّصها، هي ثمينة إذا ما اندرجت في تصور عام يأخذها في الحسبان، كما يأخذ سائر الطاقات والموارد الهائلة، ويخطط لها. ساعتها يمكن حقاً تجسيد الأمل.