وفي مطلع هذا العام، تعرض مجمع الغاز الجزائري في عين أميناس الى هجوم إرهابي نتج منه مقتل 38 شخصا من جنسيات مختلفة. ومع ان القوات الجزائرية تمكنت من احتواء الهجوم في ما بعد، إلا انه خلّف نتيجتين رئيسيتين: أولاهما ان الصناعة النفطية، بامتداداتها الجغرافية الطويلة والمتسعة، أصبحت ميدانا جديدا للعنف، بسبب موجة التغيير التي تشهدها المنطقة عموما. وتكتسب هذه النقطة أهميتها كون الجزائر عاشت عقدا من العنف الأهلي لم يصب رشاشه المنشآت النفطية في تلك البلاد، ربما لقناعة وقتها من قبل تلك الحركات المسلحة المقاتلة بأنها تأمل في تولي السلطة يوما، ومن ثمَّ فهي ستحتاج الى العائدات التي تدرها صناعة النفط والغاز. وثانيهما أن اتجاه الجماعات المسلحة الى التحرك بصورة فردية ومحلية، مفتقدا المركزية التي كانت سائدة من قبل، تجعل مرافق الصناعة النفطية ميدانا يغري بالاستهداف من قبل هذه المجموعات. وساعد على ذلك، التغييرات في المشهد السياسي في كل من ليبيا ومصر وتونس، وخروج بعض عناصر هذه المجموعات من السجون، وتفكك القبضة الأمنية والاستخبارية في هذه الدول.
ما حدث في الجزائر، ويحدث بصورة شبه يومية في نيجيريا واليمن وغيرهما، يؤكد حقيقة أبرزتها قاعدة للمعلومات عن الإرهاب الدولي في جامعة ميريلاند الأميركية: يشهد كل أسبوع وقوع ثلاثة حوادث إرهابية حول العالم تستهدف مرافق وأشخاصا يعملون في صناعة النفط في مكان ما من الكرة الارضية. وهناك حوالي 40 دولة فيها صناعة واستثمارات مقدَّرة في الميدان النفطي، ما يجعلها هدفا لمثل هذه العمليات، خاصة مع تراجع العملية السياسية وصعود وتيرة العنف الأهلي والإقليمي.
لكن، رغم التطورات التي شهدتها الصناعة النفطية وبروز مناطق إنتاج جديدة، ما يخفف من الانعكاسات السلبية لانقطاع الإمدادات بسبب حادث إرهابي، إلا ان الصناعة النفطية لا تزال مهجوسة باحتمال وقوع حادث من هذا النوع في السعودية تحديدا، وهي التي ظلت متربعة على مرتبة الملجأ الأخير للسوق، وكأنها المصرف المركزي للصناعة النفطية العالمية.
ماذا لو؟
في أيار/ مايو من العام 2004 نشرت مجلة "الإيكونومست" البريطانية تقريرا خاصا معمقا تحت عنوان: "ماذا لو؟". التقرير تناول بالتحليل احتمالات قيام زعيم القاعدة أسامة بن لادن بالعمل على تنفيذ حديثه عن أهمية استهداف الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة في أوضاعها الاقتصادية، وذلك عن طريق توجيه ضربة الى بعض مرافق المنشآت النفطية السعودية وإغلاقها لبضعة أسابيع، الأمر الذي يمكن أن يحدث اضطرابا اقتصاديا عالميا كبيرا. بعد عامين من نشر ذلك المقال، حدث هجوم إرهابي عبر عربتين مفخختين على مجمع المعالجة المركزية في أبقيق، في المنطقة الشرقية من السعودية، وهو الذي يقوم بإعداد نحو 60 في المئة من الخام السعودي وتجهيزه للتصدير. ومع ان الهجوم تم احتواؤه في المنطقة الخارجية من المجمع، ولم تتأثر به العمليات الإنتاجية ولا المرافق الفنية، إلا ان سعر البرميل سجل ارتفاعا بنحو دولارين، وذلك في رد فعل مباشر على أنباء الهجوم. فالسعودية لا تجلس فقط على ربع الاحتياطيات العالمية المؤكدة من النفط الخام، وإنما تتمتع بمميزات أخرى تجعل أي لفحة برد تلحق بصناعتها النفطية تصيب بقية العالم بالزكام. وعلى رأس هذه المميزات ان كلفة استخراج برميل النفط في السعودية هي الأقل عموماً في العالم، وتتراوح بين دولار ودولارين للبرميل. وساعد على ذلك قرب المكامن من السطح، وضخامة مساحة الحقول والإنتاج، الى جانب الاستقرار السياسي والأمني. وهناك أيضا تعدد منافذ التصدير لديها على جانبي الخليج عبر مرفقي رأس تنورة والجعيمة، وعلى البحر الأحمر في ميناء ينبع. ثم ان الصناعة تحت السيطرة الحكومية الكاملة التي تديرها وفق استراتيجية خاصة، ومن ذلك الاحتفاظ الدائم بطاقة إنتاجية فائضة في حدود مليوني برميل يوميا على الأقل، وذلك للتعويض عن أي نقص في الإمدادات لأي سبب ومن أي مكان حول العالم، مثلما حدث عندما انقطع الإنتاج النفطي للعراق والكويت مطلع العقد الماضي، أو الإنتاج الليبي قبل عامين، أو تراجع الإنتاج الفنزويلي أو النيجيري لأسباب سياسية داخلية. وهذه الطاقة الفائضة تمثل عبئا ماليا لم تبدِ أي دولة منتجة أخرى، حتى روسيا مثلا التي تتجاوز صادراتها اليومية ما تقدمه الرياض للسوق، أو الشركات الكبرى أمثال أكسون موبيل، رغبة في تحمل. وهو ما جعل السعودية "المنتج المرجِّح" في العالم، الذي يوازن الى حد كبير بين العرض والطلب. لذا فإن أي حادث إرهابي يؤدي الى إضعاف هذا الدور أو تقليصه، ستكون له انعكاساته السياسية والاقتصادية العالمية، ويمكن أن يدفع بسعر البرميل الى 250 دولارا أو أكثر كما يرى بعض المحللين، خاصة أن بعض المعلومات تشير الى أنه في الفترة ما بين عامي 2003 و2007، تم إحباط 180 محاولة إرهابية من قبل تنظيم القاعدة في السعودية.
80 حقلا منتجا وخمسة مليارات دولار سنويا للحماية
ولهذا، فإن هناك مخاوف من حالة التركيز التي تقوم عليها الصناعة النفطية السعودية التي تتموضع بصورة رئيسية في المنطقة الشرقية جغرافيا، وتتوزع على 80 حقلا منتجا، ثمانية منها تضم معظم الاحتياطيات وعلى رأسها حقل الغوار، الذي يعتبر أكبر حقل نفطي في العالم. هذا الى جانب خطوط أنابيب بأطوال تصل الى 11 ألف ميل.
والمخاوف لا تقتصر على العمليات الإرهابية التقليدية، وإنما تشمل أيضا احتمالات ما يطلَق عليه بسيناريو "بيرل هاربور الكترونية"، وذلك في إشارة الى الهجوم الإلكتروني على بعض المواقع الخاصة بشركة أرامكو في آب/اغسطس من العام الماضي، نتج منها توقف نحو 30 ألف جهاز حاسوب في الشركة عن العمل. لكن ذلك الهجوم لم يصل الى الحواسيب المرتبطة بالعمليات الإنتاجية، وبالتالي لم يحدث تأثير يذكر. الهجوم اعتبر الأكبر من نوعه الذي يوجه ضد منشأة مفردة، قامت به مجموعة أطلقت على نفسها "السيف القاطع للعدالة". وقالت المجموعة انها تحصلت على بعض الوثائق من هذه العملية ستقوم بنشرها، إلا ان ذلك لم يحدث. وبعد بضعة أشهر، قال أحد المسؤولين في أرامكو ان الهجوم كان يستهدف وقف الإنتاج وانه تم تنسيقه عبر مجموعات تعمل في أربع قارات، ما يشير الى وقوف قدرات دولة واحدة على الأقل خلفه، ولو انه لم يتم توجيه اتهام رسمي الى جهة محددة. بعض التحليلات أشارت الى ضلوع إيران في ذلك الهجوم التقني، الأمر الذي يعطي بعدا إقليميا للمخاطر على الصناعة النفطية السعودية، والمواجهات بين البلدين على مختلف المستويات ليست بالأمر الجديد. ففي أواخر العام الماضي، أرسل مندوب السعودية لدى الأمم المتحدة عبد الله المعلمي، رسالة الى الأمين العام للمنظمة بان كي مون، يشير فيه الى قيام إيران باختراقات عسكرية جويا وبحريا فوق بعض المنشآت النفطية السعودية، وان الرياض تحتفظ بحقها في الرد.
اهتمت السعودية بقضية تأمين صناعتها النفطية منذ وقت مبكر. ووفقا للباحث السعودي في الشؤون الأمنية، نواف عبيد، الذي عمل في عدة مواقع بحثية غربية، فإن مخاطر هجوم إرهابي على المرافق النفطية تظل "متدنية"، وذلك لأنه على مدار الساعة هناك قوات من 30 ألف رجل أمن يحرسون هذه المنشآت، الى جانب الرقابة التقنية والطائرات التي تحلق باستمرار والمسنودة بدفاعات مضادة للطائرات. ويضيف انه منذ عامي 2003 و2004، أضيف مبلغ 750 مليون دولار الى ميزانية تأمين هذه المرافق التي تتراوح بحدود خمسة مليارات دولار سنويا.
وفي العام 2009، تقرر تأسيس قوات خاصة بأمن المنشآت النفطية، تم اختيار عناصرها بعناية فائقة، وأوكل أمر قيادتها وقتها الى الأمير محمد بن نايف الذي كان مساعدا لوزير الداخلية وتولى مقعد الوزارة في ما بعد. وهي قوة منفصلة عن الجيش النظامي والحرس الوطني، وتعتبر قوات خاصة بتدريبها الذي يهدف الى جعلها ذات كفاءة قتالية عالية ويشمل إعدادها أيضا استخدام الليزر والقدرة على قراءة الصور الخاصة بالأقمار الصناعية وكيفية إدارة الأزمات. وتقوم شركة لوكهيد مارتين الأميركية بعمليات التدريب. والهدف أن تبلغ هذه القوة 35 ألف عنصر، وذلك عبر استكمال تأهيل ثمانية آلاف كل عام على الأقل. وتحل هذه القوة الجديدة محل الحرس القديم الخاص بشركة أرامكو وقوات الحرس الوطني التي كانت تساعد أرامكو على تأمين منشآتها النفطية.
تعايش الصناعة النفطية والمهددات الامنية
على كل، ستظل الصناعة النفطية جاذبة للاستثمارات، رغم المخاطر السياسية والأمنية التي تحيط بها. وكونها في مناطق نائية تجعل من توفير الحماية لها كل وقت أمرا صعبا، لأنها ببساطة تنطبق عليها القاعدة الاقتصادية الذهبية القائلة انه بقدر المخاطر تكون العوائد. وكلما كانت المخاطر عالية جاءت العائدات مرتفعة، وتستمر الشركات في العمل. ولهذا، فكل ما تفعله الشركات النفطية الأجنبية العاملة في أقطار أخرى، هو توفير المزيد من التحوطات والترتيبات الأمنية، إما وحدها كما في نيجيريا مثلا، أو بإيكال الأمر لسلطات البلد المعني كما في الحالة الجزائرية، وتستمر الأمور في وتيرتها المعهودة. وعقب حادث عين أميناس الجزائري، قالت شركة بيرتامينا الإندونيسية انها ستستمر قدما في خططها بشراء حصص في ثلاثة حقول جزائرية كانت قد أكملت اتفاقيات مبدئية بشأنها مع شركة كونوكو فيليبس الأميركية العاملة هناك، وذلك بمبلغ يزيد على مليار ونصف المليار دولار. وهو ما يؤكد حقيقة تعايش الصناعة النفطية مع المهددات الأمنية. ومع انه لا يمكن الجزم بوجود تأمين كامل، ولو بطريقة شاملة، للصناعة النفطية لا يمكن اختراقه، إلا ان التنبه السعودي المبكر لهذا الجانب، واتخاذ العديد من الإجراءات بسبب حساسية وضعية السعودية كركن رئيس لصناعة النفط العالمية، قلل من المخاطر الأمنية. لكن الاحتمال يبقى قائما لجهة تنامي وتشرذم المجموعات المسلحة، وتحركها وفق أجندة محلية.