بعد مرور أكثر من أربعة أشهر على توقيع اتفاقيات التعاون بين السودان وجنوب السودان بواسطة رئيسي البلدين عمر البشير وسلفا كير، واجازتها من المؤسسات الدستورية المعنية في البلدين، لم يحدث شيء على أرض الواقع لوضع تلك الاتفاقيات موضع التنفيذ. بل هناك عودة للتوتر وحشد عسكري على بعض نقاط الحدود، وتصاعد لأنشطة الجماعات المتمردة داخل البلدين، الأمر الذي يشير الى تجذر عامل عدم الثقة بينهما، وعدم تقدمهما في اتجاه التخلي عن أوراق الضغط التي بحوزتيهما، بما في ذلك احتمال استهداف بعض مواقع الصناعة النفطية، كما حدث من قبل، عندما احتل جيش جنوب السودان، ولفترة قصيرة، منطقة هجليج المنتجة للنفط في السودان. ومع استمرار وجود العديد من القضايا المعلقة بين الخرطوم وجوبا، فإن الأولوية بالنسبة للسودان تتمثل في إكمال الترتيبات الأمنية وقطع صلة جوبا بالمتمردين في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، بينما يركز جنوب السودان على تمرير نفطه عبر خطوط الأنابيب الموجودة في السودان للوصول الى الأسواق العالمية. ومع حالة الجمود هذه اتجه الطرفان الى العمل بصورة مستقلة لاستغلال مواردهما النفطية. ولهذا يتوقع أن يشهد هذا العام تطورا وتعزيزاً لهذا الاتجاه، الأمر الذي يطرح أمام الخيارات السياسية تحديات جغرافية وأخرى تتعلق بالصناعة.
خطط جوبا: صعوبات وعقبات واسئلة كثيرة
قامت جوبا بتوقيع مذكرات تفاهم مع كينيا وجيبوتي لبناء خط أنابيب لتصدير نفط جنوب السودان عبر شرق أفريقيا، وذلك منذ وقفها لإنتاج النفط لمنع تصديره عبر السودان قبل أكثر من عام، في رد فعل على الخلاف حول رسوم العبور. خلال العام الماضي، قامت وزارة النفط في جنوب السودان بأعداد دراسة أولية عن الخطوط المقترحة أوضحت ان هناك ثلاثة خيارات للتصدير بخلاف السودان: الأول بناء أنبوب ينطلق من ولاية أعالي النيل، حيث يوجد أكبر إنتاج، وهو في حدود 200 ألف برميل يوميا من مربعي (3 و7)، ويذهب هذا الخط شرقا الى اثيوبيا ومنها الى جيبوتي، بكلفة تقدر بحوالي 3 مليارات دولار. أحد نقاط ضعف هذا الخيار انه يمر عبر دولتين، أحدهما، وهي أثيوبيا، دولة مغلقة هي نفسها، وذلك قبل الوصول الى ميناء التصدير. الخيار الثاني هو بناء أنبوب من ولاية الوحدة الى ميناء لامو على ساحل كينيا الشرقي، وهو الخط الذي تقدر تكلفته بنحو 4 مليارات دولار، والخيار الاخير هو بناء أنبوب من ولاية الوحدة وعبر يوغنداثم الى كينيا، وتقدر كلفته بنحو 3 مليارات دولارات. الأشكال الرئيس في مقترح هذين الخطين أنهما ينطلقان من ولاية الوحدة، وهي التي بدأ فيها انتاج النفط وتصديره منذ العام 1999 عبر شركة النيل الكبرى لعمليات البترول، ومن مربعات (1، 2 و4)، والحقول العاملة في هذه المربعات بدأت تشيخ، بدليل تراجع إنتاجها من القمة التي بلغهتا وهي 350 ألف برميل يوميا في 2005، ليعود الى الحجم الإنتاجي الذي بدأت به، وهو قرابة 150 ألفا، وذلك عند انفصال جنوب السودان في 2011.
وفي كل الأحوال، فإن القرار النهائي الخاص بخط الأنابيب والطريق الذي يسلكه، سيعتمد في نهاية الأمر على دراسة جدوى تفصيلية يتوقع لها بعض الخبراء أن تستغرق خمسة أعوام حتى يمكن حسم العديد من النقاط المهمة، وعلى رأسها وجود الاحتياطي النفطي الكافي الذي يجعل للخط جدوى اقتصادية. وهناك الوضع القبلي والأمني، الى جانب قضايا التعويضات والبيئة، والوضع الطوبوغرافي من ناحية وجود مستنقعات وأماكن ترتفع نحو 200 متر فوق سطح البحر، الأمر الذي يثير عقبات لوجستية لابد من التعاطي معها. ثم هل يمر الخط عبر دولة واحدة هي كينيا أم يمر عبر دولتين كما في خياري المرور عبر اثيوبيا وجيبوتي أو يوغندا قبل الوصول الى كينيا، وتبعات ذلك الجيوستراتيجية.
من الخطوات التي بدأت فيها جوبا، ويتوقع لها أن تكتمل بصورة واضحة خلال هذا العام إقامة مصفاة صغيرة تبدأ بنحو 3500 برميل يوميا وتصل الى 10 ألاف برميل وتقام في مربع (5-أ) المعروف باسم «ثارجاث»، وهو الذي ينتج نوعية ثقيلة من النفط. وهناك خطط قديمة لقيام هذه المصفاة حتى يمكن تلبية احتياجات بعض مناطق الجنوب من المنتجات المكررة وزيادة الانتاج من نفط هذا الحقل الذي لا تتوفر له فرص تصديرية جيدة لتدني نوعيته. وتم تكليف شركة «فيتول» الهولندية اعداد دراسة أولية عن مشروع المصفاة. وللشركة معرفة قديمة بنفط السودان، اذ هي من المشترين له، كما انها من أوائل الشركات التي دخلت في تعاقدات مع جوبا لشراء نفط الجنوب قبل توقف إنتاجه مطلع العام الماضي.
... وديبلوماسية وابتزاز سياسي
من ناحية أخرى، فإن جوبا لم تتردد في الاستخدام السياسي لعامل النفط. ويظهر ذلك في جانبين: توقيع مذكرة تفاهم مع شركة روسية في أواخر العام الماضي لانشاء المصفاة، وذلك في خطوة لكسب الود الديبلوماسي لموسكو اذا وصلت نزاعات البلدين الى مجلس الأمن، خاصة ان الخرطوم أرسلت وقتها وفدا الى موسكو لشرح وجهة نظرها في القضايا العالقة مع جنوب السودان. وفي خطوة أخرى ذات معنى، زار وزير النفط في جنوب السودان ستيفن ضيو تل أبيب منذ بضعة أسابيع حيث وقع على اتفاقيات مع شركات اسرائيلية للاستثمار في ميدان النفط وتصديره الى إسرائيل. ومع ان طريقة تصدير النفط ستبقى قضية عالقة، لأن جنوب السودان دولة مغلقة، ولم تحسم القضايا مع الخرطوم بما يسمح بتدفق نفط الجنوب الى الاسواق العالمية، الا ان ادخال العامل الاسرائيلي في المعادلة ينطلق فيما يبدو من حسابات سياسية لدفع السودان الى الرفض، وبالتالي اعادة قضية المقاطعة العربية الى الواجهة، وحق جوبا في التصدير الى أي جهة ترغب فيها، وهو ما يفترض أنه يزيد من حصار الخرطوم ديبلوماسيا.
الى جانب هذا، تم طرح اقتراح من أحد أعضاء الكونغرس الأميركي، وهو الجمهوري ستيف بييرس، خلال زيارة لوفد النواب الأمريكان لجوبا في كانون الثاني/ يناير الفائت، بأن ينقل نفط الجنوب بالشاحنات بعد بناء طريق معبد الى اثيوبيا، ومن هناك عبر جيبوتي الى الأسواق العالمية. الاقتراح لقي سخرية من بعض الباحثين الجنوبيين، ووصفه بعضهم بالنكتة لعدم معقوليته بسبب العدد الضخم من الشاحنات التي يفترض توفرها، ومتطلباتها من طرق معبدة وخدمات على الطرق للناقلات وسائقيها، هذا الى جانب ارتفاع اثيوبيا عن سطح الأرض مقارنة بأراضي جنوب السودان، وغيرها من عوامل لوجستية، ما يضيف الى عنصر التكلفة الذي سينعكس على سعر البرميل تلقائيا.
وكان بعض الناشطين الغربيين المتعاطفين مع الحركة الشعبية وجنوب السودان أمثال أريك ريفز والباحثة شارون هتشنسون، قد اقترحا العام الماضي وعقب قرار وقف انتاج النفط، أن تنظر جوبا في خيار اقامة خط للسكة الحديد لنقل نفطها الى شرق أفريقيا عبر كينيا، وأن مثل هذا الخيار سيوفر فرصا للعمل ويساعد على التنمية الاقتصادية ويجعل من البديل للتصدير عبر السودان أمرا واقعا.
الخرطوم: تسريع الإنتاج ومد أنابيب
السودان من جانبه بدأ في التركيز على استغلال ما تبقى لديه من احتياطيات نفطية مؤكدة، تقدر بما يزيد على 500 مليون برميل قابلة للاستخلاص حسب المعلومات المتوفرة قبل انفصال جنوب السودان. وتمكن برنامج متسارع للإنتاج من ادخال مربع (17) في جنوب غرب السودان الى دائرة الاستخراج بكميات صغيرة بلغت ستة آلاف برميل يوميا من حقل برصاية فيكانون الأول/ ديسمبر الماضي. أهمية هذا أنه يأتي من مربع دخل دائرة الإنتاج لأول مرة، كما ان الكميات المنتجة تعود الى اكتشافات جديدة تمت في العام 2011 ، وكانت من النوع الخفيف العالي الجودة.
التطور الثاني الذي شهدته الصناعة النفطية في السودان تمثل في قيام شركة «بترولاينز» للأنابيب والأعمال الهندسية السودانية بمد خط أنابيب بطول 147 كيلومترا بين «بليلة» و«حديدة»، وذلك لأول مرة في تاريخ السودان. تم إذاً بناء خط أنابيب بأيدي سودانية، وهو العمل الذي اكتمل في خلال فترة سبعة أشهر. الخط يربط المناطق الشرقية التي تنتج حوالي 60 ألف برميل يوميا حاليا في مربع (6)، بجنوب غرب البلاد، بواسطة شركة النفط الوطنية الصينية وشريكتها السودانية «سودابت»، بالمناطق الغربية النائية التي لم تشهد نشاطا تنقيبا وانتاجيا يذكر من قبل. وبسبب هذا الخط أصبح في الإمكان انتاج عشرة آلاف برميل يوميا من حقل حديدة، وهو ما دشنه الرئيس البشير شخصيا في نهاية العام الماضي. وجود بنية أساسية تجعل من الممكن استغلال الاحتياطيات النفطية الموجودة في غرب هذا المربع، خاصة أن هناك مؤشرات جيدة على اكتشافات في مناطق مثل «سفيان» يتوقع لها ان تصبح منطقة الانتاج التالية في غرب مربع (6)، الذي كان من أوائل المناطق التي تخلت عنها شركة «شيفرون» الأميركية قبل مغادرتها السودان في 1992، وذلك لعدم قناعتها بضرورة الحفاظ عليه. وهو يمثل حاليا أحد خيارات السودان في زيادة انتاج البلاد النفطي.
شركة النفط الوطنية الصينية، من جانبها، اضطرت للتخلي عن جزء من هذا المربع وذلك وفق اتفاقية قسمة الانتاج التي تفرض على الشركات التخلي عن بعض المساحات التي لا تنشط فيها. وبالفعل أعيدت تسمية المنطقة التي تم التخلي عنها مربع (17) لمصلحة شركة «انسان» لصاحبها رجال الأعمال اليمني شاهر عبد الحق، وتشارك في ملكية المربع شركة النفط الوطنية السودانية «سودابت».
الجيولوجيا مقابل الجغرافيا
لعب النفط دورا مهماً في الحياة السياسية السودانية. فقد كانت معسكرات شركة شيفرون من أوائل الأهداف التي استهدفتها حركة التمرد وقتها، المتمثلة في الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان. نجاح السودان في ما بعد في إنتاج وتصدير النفط انعكس ايجابا على وضعه العسكري في مواجهة التمرد، ودفع الحركة الشعبية الى الدخول في مفاوضات جادة للسلام، توجت باتفاق 2005 الشهير، وأحد مكوناته الأساسية قسمة الثروة الممثلة في النفط. وبما ان اتفاق السلام ذاك أعطى الجنوبيين حق تقرير المصير، فإن عامل النفط أسهم مع عوامل أخرى في دفعهم الى تبني خيار الانفصـال، لتكون ثروتهم النفطية ملكا لهم بالكامل.
حقائق الجيولوجيا التي جعلت معظم احتياطيات النفط توجد في الجنوب، قابلتها حقائق الجغرافيا التي جعلت جنوب السودان دولة مغلقة وأفضل خياراتها تصدير نفطها عبر السودان. لكن سنوات القتال، وعدم الثقة بين الطرفين دفعتهما الى الفشل حتى الآن في بناء علاقات قائمة على أساس المصلحة المشتركة، وهي تدفع كل دولة الى استغلال احتياطياتها النفطية بالطريقة التي تلائمها... في إطار المواجهة السياسية بين البلدين.