ارتبطت الفترة الذهبية للمنطقة الكردية بالاحتلال الأميركي للعراق عام 1991.وقد أوحى ازدهار كردستان العراق باحتمال تحوله من الاستقلال الذاتي الكبير الذي يتمتع به إلى انفصال. لكن جلال الطالباني أسمى ذلك «حلم الشعراء الكرد» تدليلاً على استحالته. وغياب التوافق الكردي على هذا «الحلم» يضيف إلى الصعوبات الموضوعية الجمة التي تقف في طريقه. أبعد من ذلك، يطرح التأزم الراهن لمجمل «العملية السياسية» التي أنشأها الأمريكان في العراق على بساط البحث الجوانب الإشكالية من الامتيازات الكردية المتحققة، وعلى رأسها الاتفاقات أو العلاقات النفطية المستقلة، والتي تبدو بحكم المجمدة. ومن المرجح ألا َّيمكن البت بمصيرها، ولا بمجمل الموقف في المنطقة الكردية، من دون أن تستقر الأوضاع في العراق بأكمله على صيغة جديدة.
«كردستان هي عاصمة التنقيب في العالم في الوقت الحالي». هذا ما يقوله طوني هيوارد، الرئيس التنفيذي السابق لشركة «بريتش بتروليوم»، الذي أصبح شريكاً ورئيساً تنفيذياً لشركة «جينيل أنرجي»، وهي من أكثر الشركات نشاطاً في المناطق الكردية. والشركة المذكورة تبيع النفط مباشرة من حقل «طق طق» النفطي لتركيا، وهي تنقله بالشاحنات. ولكن الشاحنات عرضة للتوقف، كما حدث في الأيام الماضية لأسباب تتعلق رسمياً بضرورة «تحسين وضبط الرقابة»، مما قد يكون مرتبطاً بالتهريب والفساد، وبالتالي بعالم مافيا النفط. على أن المؤكد هو ارتباط ذلك بالتوتر مع الحكومة المركزية. والسيد هيوارد، بمقابل ذلك، يعلن أن قدرة التصدير لشركته بالشاحنات سترتفع الى 20 الف برميل في اليوم خلال أسابيع قليلة. ورغم ما يبدو من لهجة تفاؤلية في الاعلان، إلا أنه لا يوجد فعلياً بديل عن تصدير النفط من العراق الى تركيا بالأنابيب، المتوقف بسبب ذلك التوتر.
القانون النفطي الملتبس
مرت خمس سنوات على الاعلان عن قانون للنفط مثير للجدل، لم يتم إقراره حتى الآن بسبب خلافات السياسيين من ناحية، وبسبب الوضع الحساس لعلاقات الحكومة المركزية في بغداد وإقليم كردستان الذي يتمتع بحكم ذاتي من الناحية الأخرى. فالإعلان الدستوري للعراق، الذي صيغ تحت الإشراف الأميركي، جاء غامضاً وملتبساً فيما يخص علاقة المركز بالأقاليم، التي تقع في صلبها إدارة الموارد الطبيعية، وخاصة النفط. بغداد تتمسك بتفسير أن كل النفط ملك لكل العراقيين، وبالتالي فهو مسؤولية الحكومة المركزية، بينما ترى أربيل ان الدستور يعطي الأقاليم سيادة على الموارد الطبيعية الموجودة في أراضيها.
تنزيل الإشارات الواردة في الدستور في شكل قانون متفق عليه وملزم للجميع وقع ضحية المناورات السياسية التي تمثلت في وجود ثلاث مسودات قوانين، أولها تلك التي تعود الى العام 2007 أثر أتفاق أولي بين الحكومتين المركزية والإقليمية الكردية. ولما أصبحت تلك المسودة جزءاً من المباراة السياسية بين مختلف الأحزاب، تقدم مجلس الوزراء بمسودة أخرى كان عيبها الأساسي انها صيغت وأعتمدت في غياب الوزراء الأكراد في المجلس. وتدخل البرلمان من جانبه من خلال مسودة ثالثة أعدتها لجنة الطاقة في البرلمان. لكن كل هذه المسودات ظلت حبيسة الأدراج، ولم يتم طرحها في أي حوار سياسي جدي بهدف الوصول الى حلول توافقية.
... لكن الأمر أعقد من ذلك!
صحبت تلك السنوات الخمس، التي مرت مذاك، تطورات ميدانية وضعت الكثير من الأسئلة وربما العقبات أمام أي مسعى سياسي للوصول الى قانون للنفط. فخلال هذه الفترة قامت بغداد بإبرام نحو 19 عقداً مع شركات أجنبية كانت في معظمها عقود خدمة لتحسين أوضاع الصناعة النفطية العراقية ورفع قدراتها الإنتاجية، وهو ما أصبح واضحاً بعد الوصول المتوقع للإنتاج النفطي العراقي هذا العام الى 3.6 ملايين برميل يومياً. على ان الأهم من ذلك هو أن إقليم كردستان وقع نحو 50 اتفاقية مع شركات أجنبية خلال هذه الفترة، وهي في معظمها اتفاقيات مشاركة وقسمة للإنتاج، وهي مبرمة مع شركات رئيسية ومشهود لها في صناعة النفط العالمية.
خطوة الحكومة الإقليمية في أربيل هذه دفعت في بداياتها نحو 80 خبيراً نفطياً عراقياً الى رفع مذكرات الى الجهات المسؤولة في بغداد تعترض فيها على تلك الخطوة، اذ رأوا فيها إضعافاً لدور الحكومة المركزية التي يفترض أنها الجهة الوحيدة المخولة، وذات الصلاحية لإبرام مثل هذه الاتفاقيات مع الشركات خاصة، ولإجراء مفاوضات بمثل هذه الأهمية، تشمل طرفاً أجنبياً له من القدرات والسند السياسي ما يتطلب أن يكون بالمقابل لدى الطرف العراقي القدرات الفنية والمهنية واللوجستية اللازمة لإبرام اتفاقيات تضع نصب أعينها المصالح القومية للعراق، وهو ما لا يتوفر في الأقاليم. ومن النقاط التي أوردها بيان الخبراء، أن معظم الاتفاقيات التي أبرمتها أربيل تقوم على المشاركة وقسمة الإنتاج. ومن المتوافق عليه عالمياً أن مثل هذه الاتفاقيات تقوم على عنصر المخاطرة من قبل الشركات، وإنفاق مواردها واستثماراتها في التنقيب. فإذا حصلت على نفط يتم اقتسامه مع الحكومة، وفق صيغة تسمح لها باسترداد ما أنفقته الى جانب الأرباح، واذا لم تنجح في اكتشاف نفط تتحمل الخسارة وحدها. بينما الذي حدث في كردستان ان الشركات ستعمل في مناطق بها اكتشافات نفطية معروفة، مما ينفي عنصر المخاطرة ويتيح لهذه الشركات عائدات مالية لا تستحقها. ثم ان هذه الاتفاقيات ستكون سارية المفعول لمدى زمني طويل، ولفترة تتراوح بين 20-25 عاماً، الأمر الذي سيلقي بتبعاته على أي اتفاقات مستقبلية ستبرمها الحكومة المركزية في بغداد مع الشركات الأجنبية، حيث الجزء الأكبر من الاحتياطيات العراقية يوجد خارج كردستان، فبغداد تبنت من البداية موقفاً مبدئياً يقول إن الشركات الأجنبية التي تبرم اتفاقيات مع أربيل تخاطر بمنعها من العمل في بقية أنحاء العراق. كما انه ستكون لهذه الاتفاقيات انعكاساتها بصورة مباشرة أو غير مباشرة على الأقاليم الأخرى، ستشجعها على مسلك مشابه.
الاتفاق الكردي مع الشركات الكبرى
بغداد كانت ولا تزال حتى إشعار آخر تمسك بنقطة قوة تتمثل في سيطرتها على خطوط الأنابيب التي تنقل النفط العراقي الى الأسواق الخارجية.
هذا الوضع الميداني الراهن سيلقي بظلاله على أي قانون جديد سيتم التفاوض حوله بين مختلف القوى السياسية. فهل سيضع القانون الجديد الواقع الحالي في اعتباره، أم سيطلب توفيق أوضاع الاتفاقيات التي أبرمت فعلاً بما ينسجم مع القانون الجديد، وهو ما يشير الى التعقيد الذي سيلازم أي نقاش جدي حول القانون المقترح. ثم ان مثل هذا النقاش سيدور في جوهره حول ما إذا كان سيتم السماح بمزيد من الصلاحيات لإقليم كردستان، حيث قد تسهم خطوة في هذا الاتجاه في تعزيز الاتجاهات الانفصالية والاستقلالية، وتوفير الأساس المادي والصلب لها. علماً أن رأياً آخر يقول بضرورة المضي قدماً في إشعار الأكراد انهم جزء أساسي من المنظومة السياسية على المستوى القومي، الى جانب إعطائهم الصلاحيات كافة ليديروا أمورهم بأنفسهم في إقليمهم، مما يعزز من قناعتهم في البقاء في أطار عراق موحد.
السجال الخاص بوضع الشركات الأجنبية في كردستان تلقى دفعة قوية عندما أبرمت شركة أكسون/موبيل اتفاقية مع الحكومة في أربيل في العام 2011. وأكسون هي أكبر شركة نفط في العالم يتم تداول أسهمها في البورصة، ولهذا اعتبرت خطوتها نقلة نوعية، بدليل ان رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي كتب خطاباً بشأنها الى الرئيس الأميركي باراك أوباما، مستنكراً ومشدداً على انعكاساتها على مستقبل العراق.
ولم يطل الأمر كثيراً حتى أعقبتها شركة شيفرون التي أشترت حصة 80 في المئة من امتيازَي «سارتا» و«روفي» من شركة «ريلاينس» الهندية، وتلتها شركة توتال الفرنسية التي أشترت نسبة 35 في المئة من امتيازين لشركة ماراثون أويل، ثم شركة غازبروم الروسية التي حصلت على حصة من ويسترن زاجروس الكندية. وهكذا فإن أكبر أربع شركات نفط في العالم أصبح لها وجود في كردستان.
مستقبل أربيل النفطي وخيارات أنقرة
فمن ناحية فإن العقود التي وقعتها أربيل توفر للشركات الأجنبية عائدات تتراوح بين 25ـ35 في المئة، أي نحو ضعف ما يمكن أن تحصل عليه من عقود الخدمة التي توقعها مع بغداد، وتتراوح عائداتها بين 15ـ18 في المئة. ثم ان الاستقرار السياسي والأمني النسبي الذي تتفوق به اربيل على بغداد جعل من الممكن المضي قدماً في قرارات استثمارية كبيرة، خاصة أن الاحتياطيات النفطية المؤكدة في كردستان تبرر هذا الوضع، اذ تصل الى 45 مليار برميل، تمثل ثلث الاحتياطيات الموجودة في العراق والتي تقدر بحوالي 143 مليار برميل، أو ما يزيد على 8 في المئة من الاحتياطي النفطي العالمي.
الانتاج النفطي من كردستان يبدو متواضعاً حتى الآن، وهو في حدود 200 ألف برميل يومياً، تخطط أربيل الى رفعها الى مليون برميل في غضون عامين، وإلى مليوني برميل في العام 2019. ويلعب وزير الموارد الطبيعية في كردستان، آشتي هوارمي، دوراً مهماً في هذا الصدد بسبب خلفيته المهنية ومعرفته بالصناعة النفطية، وحديثه مع الشركات باللغة التي تفهمها ومن خلال مصالحها. فقد عمل من قبل في بحر الشمال في شركة نفطية اسكتلندية، ثم أسس شركته النفطية الخاصة به، وأصبح مستشاراً بعد ذلك، قبل أن يتولى المسؤولية الوزارية في الإقليم في 2006. على ان العقبة الرئيسية أمام هذه الخطط الطموحة تتمثل في كيفية تصدير النفط وسيطرة أربيل على هذا الجانب الذي لا يزال بيد بغداد. تصدير بعض الكميات عبر الشاحنات الى تركيا يبدو عملا رمزياً، وخطة أربيل تقوم على بناء أنبوب الى كركوك ليرتبط بخط جيهان التركي، ومن ثم يصل الى الأسواق العالمية، وهو ما تأمل كردستان في إنجازه هذا العام.
لكن خطوة مثل هذه تطرح خيارات جيوستراتيجية على أنقرة وحكومتها. فبسبب الوضع في سوريا المتحالفة مع إيران، والتي تتعاطف معها حكومة المالكي، فإن الحكومة التركية يمكن أن تكون أكثر ميلا الى التعاطي الإيجابي مع هذه الخطوة. لكن أنقرة لن تكون مرتاحة الى تقوية حكومة كردية الى جوارها في الوقت الذي تعاني فيه من مشكلة كردية داخل حدودها. هي إذاً ما يطلق عليه أحياناً «هشاشة» الوضع الكردي، ولكن الأفضل تسميته بارتباط المصائر بين كل أجزاء العراق.