تأنيث فضاء العمل في مجالات غير تقليدية، مثال من تونس

كيف نفسر انخراط عاملات تونسيات في مجالات عمل صُنفت اجتماعياً بأنها "رجالية"، مثلما هو القطاع المختص بصناعة أسلاك السيارات والشاحنات الثقيلة، كمصنع "يازاكي" الياباني في مدينة قفصة جنوب تونس. بل أن المعمل نفسه يعتمد في استراتيجيته على استقطاب اليد العاملة النسائية.
2020-03-26

قدس براهمي

باحثة، من تونس


شارك
| en
فرات شهال الركابي - لبنان

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

افتُرِض طويلاً أن المرأة مهيئة للعمل في صناعات النسيج والألبسة باعتبار ذلك يطابِق التقسيم الاجتماعي للعمل كما هو قائم، أو هو الأقرب إليه. وهكذا نُقلت قيم الطاعة المستبطَنة والقدرة على القيام بمهام مكررة وروتينية من الفضاء المنزلي إلىفضاء العمل. وقد شهدت تونس في فترة الثمانينات من القرن الماضي ارتفاعاً ملحوظاً في عدد العاملات بالصناعات النسيجية.

ولكن هناك كذلك انخراط لعاملات تونسيات في صلب فضاءات صُنفت اجتماعياً بأنها "رجالية". فظاهرة تأنيث العمل تجاوزت قطاعات النسيج والملابس وأصبحت تطال قطاعات صناعية مختصة مثلاً في صناعة أسلاك السيارات والشاحنات الثقيلة، كما في مصنع "يازاكي" الياباني القائم في مدينة قفصة جنوب تونس. بل أن المعمل نفسه يعتمد في استراتيجيته الانتدابية على استهداف اليد العاملة النسائية.

مصنع يازاكي

تأسس المعمل سنة 1929 ومقره الأصلي بطوكيو في اليابان، حيث يوفر تشكيلة واسعة من المنتجات لأكثر من 45 مصنع للسيارات. وهو يشغل أكثر من 260 ألف يد عاملة في العالم، وله فروع في أكثر من 47 دولة، من بينها تونس، في ولايات بنزرت وقفصة.

يبلغ عدد العاملين في معمل يازاكي المتمركز بالمنطقة الصناعية "العقيلة" بجهة قفصة 1678 عامل، منهم 1131 عاملة...

وانطلاقاً من هذه المفارقة السوسيولوجية لأغلبية نسائية في معمل يفترض أنه من اختصاص الرجال، نرجع إلى تفسيرات وتبريرات العاملات لاختيارهن العمل بيازاكي، والتي تبدو أحياناً متضاربة، لتلمس دوافعهن العقلانية وأسسها الاجتماعية.

الدراسة أم العمل؟

تواضع رأس المال الثقافي للمرأة العاملة من الأسباب الرئيسية المساهمة في تأنيث فضاء معمل يازاكي. بل أن ذلك هو أحد الشروط الأساسية التي يفرضها رب العمل في مقابلات الانتداب لقبول اليد العاملة النسائية في الفضاء المخصص للإنتاج: "أن يكون المستوى الدراسي للعاملات لا يتجاوز البكالوريا". وهذا الشرط وضع لتبرير تواضع الأجر الذي لا يتجاوز 350 ديناراً في الشهر.

يبلغ عدد العاملين في معمل يازاكي الياباني المتمركز بالمنطقة الصناعية بجهة قفصة، 1678 عامل، منهم 1131 عاملة.

تقوم العاملات بمعادلة حسابية بين كلفة مواصلة الدراسة، أو الجلوس في المنزل، وبين الامتيازات التي يوفرها العمل في المصنع. وهو ما يدفع الشابات إلى الانقطاع عن الدراسة، والخروج من الفضاء المنزلي إلى فضاء العمل المتاح في هذه المنطقة المهملة والمفقرة من تونس. والملاحظ أن أعمار أغلبية العاملات يترواح بين 19 و27 سنة، وأنهن ينحدرن من طبقات فقيرة وأحياناً متوسطة الحال، وأنهن يأتين من جميع جهات محافظة قفصة.

وقد بررت العاملات أثناء سؤالهن عن خيارهن ذاك الأمر بأوضاع البلاد الاقتصادية الهشة وعجز مؤسسات الدولة عن توظيف أصحاب الشهادات العليا. تقول إحدى العاملات: "حتى لو عاد بي الزمن إلى الوراء، فسأظل على خياري بأن أشتغل. ما زالت أوضاع البلاد هي نفسها لم تتغير عما كانت حين كنت أدرس الفرنسية، وقررت الانقطاع. أعرف صديقة لي حائزة على الماجستير في العربية لكنها لم تعمل بعد. انظري إلي، انقطعت عن الدراسة لكنني أعمل، على عكسها هي"، وتعلق إحدى العاملات "خاطر فماش قراية توصل توا هام لكل قاعدين" (الدراسة لا توصل، ولذا فالكل متبطلون).

الفضاء المدرسي والجامعي أصبح منفّراً للعاملات نظراً لصعوبة الاستثمار فيه، وتراجع فرص الحصول على عمل، بل أصبحت العاملات يتمثلنه كعائق أمام الحصول على عمل، طالما أن أغلبية العاطلين عن العمل هم من ذوي الشهادات الجامعية!

ولا يطلب المعمل لقبول العاملات فيه شروطاً قاسية، وإنما يكفي أن تتمتع العاملة بصحة جيدة وأن تملك الحد الأدنى من المستوى الدراسي.

أحد الشروط الأساسية التي يفرضها رب العمل في مقابلات قبول اليد العاملة النسائية هو "أن يكون المستوى الدراسي للعاملات لا يتجاوز البكالوريا"، وأيضاً أن يكن شابات: تتراوح أعمار أغلبية العاملات بين 19 و27 سنة.

ترتبط حاجة المرأة الملحة بجهة قفصة إلى امتلاك رأسمال اقتصادي بغياب المشاريع التنموية ومواطن الشغل، وارتفاع نسبة البطالة. وكذلك إلى تطلع الشابة لتحقيق استقلاليتها المادية والاقتصادية. ذلك أن الراتب أو الأجر يمثل لها حصناً ضد سلطة الرجل أو الزوج القائمة على الإنفاق. فهي إذ تعمل وتدخل مالاً، تكون مسؤولة عن نفسها وتتولى الإنفاق على ذاتها، ملبية احتياجاتها دون الاستعانة بالرجل أو بالعائلة، بالتالي فهي تحقق استقلاليتها الاقتصادية. تقول إحدى العاملات "..الحمد لله أنجزت العديد من الأشياء بفضل يازاكي. بنيت منزلي، تحصلت على رخصة سياقة. أعيش حياتي، لدي راتبي. كلمة أعطيني مش باهية (جميلة)".

تقسيم للعمل حسب الجنس

تقسيم العمل في معمل يازاكي قائم على جنس العامل. فالمهام التي تسند للنساء هي لف الأسلاك، إضافة إلى تركيب الغلاف الخارجي للأسلاك وتركيب وإدخال الأسلاك الصغيرة في قطع السيارات.

ولعل ما يربط بين هذه المهام هو أنها تتطلب حضوراً ذهنياً قوياً مع الصبر والتركيز، غير أنها روتينية لا تخلو من الرتابة. وفي هذا الإطار، تقول إحدى العاملات: "النساء أكثر انضباطاً من الرجال. نوعية العمل تتطلب انتباه امرأة وليس انتباه رجل. فنحن النساء مواظبات أكثر من الرجال".

إذن فهي أدوار ومهام ينفر منها الرجل. تعلق إحدى العاملات: "الرجل دائماً ما يقلق، ويضجر من مثل هذه المهام حتى أنه يدخل في صراع مع أرباب العمل من أجل تغيير موقعه في المعمل"، على عكس المرأة التي تقبل نوعية هذه المهام، فهي هنا أيضاً تستبطن قيم الطاعة المنزلية، وتحولها لقيم طاعة للآلة ولأرباب العمل داخل فضاء عمل يازاكي. "المرأة تصبر، تضحي أكثر من الرجل فعليها أن ترضى بمثل هذه المهام، أو لا خيار لها إلا المنزل".

تنظر العاملات إلى التحصيل المدرسي والجامعي كعائق أمام الحصول على عمل، طالما أن أغلبية العاطلين عن العمل هم من ذوي الشهادات الجامعية!

يعكس هذا التقسيم للعمل في فضاء معمل يازاكي إعادة إنتاج التمثلات نفسها حول عمل النساء الثانوي، والأقل أهمية من عمل الرجال. فأعمالهن موصومة بأنها بسيطة سهلة الأداء، تتماشى مع بنيتهن الجسدية وجنسهن، على عكس أعمال الرجال التي تتطلب مهامهم حركية كبيرة وقوة بدنية عالية، وهم يعملون على مواقع تُعرّف بأنها حساسة داخل المعمل.

من نتائج تأنيث فضاء العمل وآثاره غير المتوقعة، هو توتر مناخ العمل الذي يضم عاملات من جهات وشروط مختلفة، ما يؤدي إلى نشوب صدامات وصراعات بينهن. وقد تعرضت 276 عاملة إلى عقوبات من الدرجة الأولى، أي للاستجواب، و17 عاملة أخرى لعقوبات من الدرجة الثانية أي الطرد، بسبب نشوب خلافات وصدامات بينهن.

المهام التي تسند للنساء هي لف الأسلاك، إضافة إلى تركيب غلافها الخارجي وتركيب وإدخال الأسلاك الصغيرة في قطع السيارات. ولعل ما يربط بين هذه المهام هو أنها تتطلب حضوراً ذهنياً قوياً مع الصبر والتركيز، وهي خصائص تُنسب للنساء.

من بين أسباب العقوبات والطرد مشكلات من قبيل الصراع بينهن على زميل في العمل، خاصة أن أغلبية العاملات شابات، وأن 738 من مجموع ال 1131 عاملة عازبات.

مقالات ذات صلة

كما أن الترقية وتحسين موقع العمل بالنسبة للعاملات، لا يتم بناءً على مقاييس الكفاءة، وإنما يرتكز على مراكمة العلاقات الشخصية داخل المعمل، أي عبر الدخول في علاقات عاطفية وشخصية مع أرباب العمل، كاستراتيجية عقلانية متبعة من قبل العاملات من أجل تحسين مواقعهن، وهو ما يكشف بدوره ما يخفيه مناخ فضاء معمل يازاكي من مضايقات تتعرض لهاالعاملات، كالتحرش. تقول إحدى العاملات معلقة على هذه الظاهرة قائلة: "ورائك، أمامك، على يمينك على يسارك.. الجميع يتحرش بك". وبالطبع فقد يكون في هذا التحرش تواطؤ من العاملات أحياناً.

الترقية وتحسين موقع العمل بالنسبة للعاملات لا يتم بناءً على مقاييس الكفاءة، وإنما يرتكز على مراكمة العلاقات الشخصية داخل المعمل، أي عبر الدخول في علاقات عاطفية وشخصية مع أرباب العمل.

وأخيراً هناك مشكلة انعدام الانتماء النقابي للنساء في المعمل، ذلك أنّ عاملات معمل يازاكي يتمثلن النقابات كمنظمات التصق عملها ونشاطها بالصراع والنزاع والإضرابات. وهن يخيّرن بين السكوت أو الطرد، خاصة أن 520 عاملة من مجموع العاملات غير مثبتات في العمل، ويخشين أن يتّبعن سلوكيات تتضارب مع مصالح المعمل، خاصة وأنه تابع لشركة أجنبية "لا تتساهل مع الإضرابات التي تعطّل حركة الإنتاج".

يد عاملة نسائية هشة ورخيصة

إنّ تأنيث العمل في معمل يازاكي، وإن كان يعكس في ظاهره خروج المرأة إلى فضاء العمل، إلا أنه يضمر هشاشة. فأجوره ضعيفة، وهو غير موفِّر للاستقرار، حيث تعمل الأغلبية وفق عقد عمل لمدة زمنية محددة (عقد لمدة عام)، فإمكانية طردهن تبقى عالية. فضلاً على أن تشغيل يد عاملة رخيصة بلا مواصفات الاستقرار والترقية المهنية، يخضع لمتطلبات الضرورة في حدها الأدنى، وعلى رأسها الإنفاق على العائلة والأبناء بالنسبة للمتزوجة، وشراء جهاز الزواج وخلاص الديون للعاملة العزباء. ولئن حاولت المرأة العاملة الزيادة في دخلها من خلال العمل الثانوي غير الرسمي الحر بمعمل يازاكي، المتمثل في بيع مستحضرات التجميل والعطور، فإنها تبقى أعمالاً جانبية هشة غير مهيكلة ذات مردودية اقتصادية ضعيفة.

خلاصة

تشهد البلاد التونسية اليوم تأنيثاً للعديد من القطاعات. لكن هذا التأنيث يخفي وراءه هشاشة متعددة، لجهة الراتب وظروف العمل وشروطه. وكما يقول عالم السوسيولوجيا الفرنسي "بيار بورديو" في كتابه "الهيمنة الذكورية"، ف"كلما كان الفضاء مؤنثاً كلما قلّ تثمينه من قبل المجتمع". وعلى أي حال، فقطاعات العمل الهشّة التي تشهد كثافة تشغيل اليد النسائية الرخيصة، ترتكز عقودها – حينما تكون هناك عقود أصلاً - على ما يُعرف ب"عقود العمل لمدة زمنية محددة"، وهو أحد أوجه تهميش ذلك العمل وتبخيسه.

محتوى هذه المطبوعة هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

مقالات من تونس