كتب الشاعر التونسي الراحل "الصغير أولاد أحمد" قصيدة مميزة يقول فيها: "كتبت.. كتبت فلم يبق حرف، وصفت.. وصفت فلم يبق وصف، أقول إذاً باختصار وأمضي، نساء بلادي نساء ونصف". كتب أولاد أحمد هذه القصيدة إبان الثورة ليشيد بدورة المرأة التونسية في خوض معركة ضد الإسلاميين الذين وصلوا إلى السلطة ذات تشرين أول / أكتوبر 2011 ولم يترددوا حينها في البحث عن مسوغات تبرر عدائيتهم نحو بعض من المنجزات المتحققة للنساء. ولكن من المؤكد أن الشاعر، وهو يمدح "نساء تونس" لم يكن يُخفى عليه، وهو الآتي من عمق البلاد، أن ثمة نصف آخر من نساء الوطن منسيات، يخضن تجربة معاناة على نحو يومي قصد الاستمرار في العيش وضمان الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية. من بين هؤلاء النسوة المُسقطات سهواً وعمداً من الخطابات الرسمية، نجد عاملات القطاع الفلاحي اللواتي يشتغلن في ظروف سيئة ويُنقلن إلى القرى والأراضي الزراعية في شاحنات نقل الدواب والبضائع، ويتعرضن بذا لحوادث مميتة متكررة. هذه الحوادث هي في الحقيقة "الشجرة التي تخفي الغابة"، حيث بات القطاع الفلاحي في تونس منذ سنوات يستقطب اليد العاملة النسائية، سواءً في المناطق الداخلية أو الساحلية، ولكنه بات في الوقت ذاته من أكثر القطاعات التي تتجسد فيها الانتهاكات ضد النساء العاملات، ومعها مقولات "تأنيث" التهميش والاستغلال الاقتصادي والاجتماعي.
ولا يمكن فصل الانتهاكات التي تواجهها النسوة العاملات في القطاع الفلاحي عن السياسات التنموية المتبعة في البلاد منذ فترة الاستقلال، والتي كرّست اللامساواة بين الجهات والمناطق، وكذلك تهميش القطاع الفلاحي لحساب السياحة وقطاع الخدمات. فجل العاملات في القطاع الفلاحي هم نساء المناطق الداخلية اللواتي يعاني اغلبهن من مستويات تعليمية متدنية وظروف معيشية قاسية، ويتحمل جزء منهن مصاريف عائلتهن في ظل البطالة المتفشية. التهميش هنا يترافق وبنية اقتصادية وتنموية إقصائية.
الأرقام ترسم وجه المعاناة
في دراسة أعدها "الاتحاد العام التونسي للشغل" بالتعاون مع "أكاديمية شباب راصد لانتهاكات حقوق الإنسان" و"الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان" حول المرأة العاملة في القطاع الفلاحي في محافظة سيدي بوزيد التي اصبحت مثالاً لاختلال البنية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد بمقدار ما هي عنوان للثورة، تبيّن أن الانتهاكات تبدأ من غياب الأطر القانونية التي تنظم العمل في النطاق الفلاحي مما يترافق مع تدني الأجور. وقد صرّحت 99.5 في المئة من المستجوَبات (العينة المستجوبة 996 امرأة) أنهن يتقاضين أقل من 5 دولارات في اليوم، كما لا تتمتع 97 في المئة منهن بأي تغطية صحية واجتماعية. وقد اعتبرت36.1 في المئة منهن أن عملهن فيه كثير من المخاطر الصحية، كما لم تتلق 99 في المئة أي تكوين، وقد صرّحت 8.2 في المئة منهن أنهن تعرّضن للتحرش الجنسي والمضايقة في حين تعرضت 16.9 في المئة منهن إلى عنف لفظي ومادي. بالإضافة إلى هذا يغيب أي تمثيل نقابي لهؤلاء النسوة، مما يجعل حقوقهن مهضومة، كما تتكرّس اللامساواة في الأجر مقارنة مع الرجال. ووفقاً للأرقام الرسمية فإن 92 في المئة من الطاقة الإنتاجية في القطاع الفلاحي موكلة للنساء، وتتمثل بشكل خاص في جني الزيتون والعنب والكروم (خاصة في جهة الوطن القبلي) وقلع الأعشاب الطفيلية. تبيّن هذه الأرقام أننا إزاء قطاع يمارس فيه العنف الاقتصادي على فئات هشة ومتأثرة بالإفقار الذي تعرّضت وتتعرّض له الأرياف. لكن الأهم من ذلك هو تحول القطاع الفلاحي إلى قطاع بلا أي غطاء قانوني، ما يسمح لسماسرة اليد العاملة وأصحاب القرى الفلاحية المقربون جداً من البنوك المموِّلة، من مراكمة ثروات على حساب النسوة العاملات. وتغض الدولة الطرف عن هذا الأمر تحت شعار ''دعم القطاع الفلاحي".
تساهم النساء في أرياف تونس المنسية بـ57.9 في المئة من دخل العائلات، في الوقت الذي تجبرهن التقاليد وتواطؤ بعض النصوص القانونية على التخلي عن حصصهن في إرث الأراضي لصالح الأشقاء الذكور، وهو ما يفوّت عليهن فرصة بعث مشاريع فلاحية
من ناحية ثانية يقضي جل النسوة العاملات في القطاع الفلاحي أكثر من تسع ساعات في العمل المنهك ليعدن بعد ذلك الى الأعمال المنزلية، كما أن انتشار البطالة وارتفاع منسوب الفقر في المناطق الريفية بحكم التوزيع غير العادل للتنمية، جعل من النساء الأكثر تأثراً والأكثر عرضة للعنف والاستغلال سواءً في نطاق العمل في الضيعات الفلاحية، أوداخل النطاق العائلي.
وتتعرّض العديد من النسوة إلى كثير من الأمراض الناتجة عن ظروف النقل وعن المواد الكيميائية التي يتعرّضن لها أثناء العمل دون أن تتوفر لهن وسائل الحماية. ويتعمّق الأمر خاصة بغياب التغطية الصحية.
سياسة الاستثمار في الفقر: الجميع ضد النساء
تشير التقارير الرسمية وغير الرسمية الى أن نسبة التونسيين الذين يعيشون تحت خط الفقر تقدر ب 27.4 في المئة، مما يعني أن هنالك تونسي على أربعة يعيشون بدولارين في اليوم. وتتوزع جغرافية الفقر على نحو غير متساو بين المناطق الحضرية والريفية، وعلى نطاق أشمل بين مناطق الساحل ومناطق الداخل حيث يتركز الفقر في المناطق الغربية للبلاد.
وتساهم النساء في أرياف البلاد المنسية بـ57.9 في المئة من دخل العائلات، في الوقت الذي تجبرهن التقاليد وتواطؤ بعض النصوص القانونية على التخلي عن حصصهن في إرث الأراضي لصالح الأشقاء الذكور، وهو ما يفوّت عليهن فرصة بعث مشاريع فلاحية، والحصول على قروض تمويل من البنوك التي تعطي الأولوية لمالكي الأراضي، مما يؤبد وضعيتهن كـ"أجيرات". وهنا تحديداً يظهر الاستثمار الاقتصادي للفقر والتهميش الذي تعانيه النساء العاملات في القطاع الفلاحي، حيث يعول السماسرة وملاك الضيعات على يد عاملة رخيصة وغير مهيكلة نقابياً وترزح تحت اللامرئية وغياب الاعتراف القانوني، وهو ما يفسر انتهاج سياسة "تأنيث الفلاحة"، إذ يتقلص ويتهاوى دور الرجال في عملية الإنتاج الفلاحي.
يشكّل عمل النساء في القطاع الفلاحي مدخلاً مهماً لفهم آليات الهيمنة والاستغلال، كما هو يمثل طريقاً لكشف ''الآثار اللامتوقعة" لصيرورة العصرنة الفلاحية، التي تكرّس مزيداً من اللامساواة بين النساء والرجال، إذ أنها لم تترافق مع سياسة عمومية وتنموية تأخذ في الاعتبار حقوق النساء العاملات
وهو أمر له تفسيرات عدة لعل من بينها نزوح الذكور نحو المناطق الساحلية للعمل في قطاعات البناء، وفي القطاعات "اللانظامية" التي صارت تشكل ما يقارب 51 في المئة من الاقتصاد التونسي والذي يتيح إمكانية الربح في وقت سريع. وبالإضافة إلى كل ذلك، تعوّل الأحزاب السياسية أيضاً، ولو بشكل مبطن، على هذا الأمر حيث تحاول في كل مرة بلورة خطابات مناصرة للنساء عموماً وللنساء المفقرات خصوصاً، خلال الحملات الانتخابية والمعارك السياسية، مستغلة عدم وجود خطاب يمثل هؤلاء النسوة. وهو الأمر ذاته الذي تفعله المنظمات الدولية التي خلقت "سوقاً محلية" لتمويل المشاريع الصغرى للنساء الريفيات في إطار السياسات النيوليبرالية المتبعة في ''الإدارة المعولمة للفقر".
تحديث فلاحي يكرس الهيمنة
يشكّل عمل النساء في القطاع الفلاحي مدخلاً مهماً لفهم آليات الهيمنة والاستغلال، كما هو يمثل طريقاً لكشف ''الآثار اللامتوقعة" لصيرورة العصرنة الفلاحية، التي تكرّس مزيداً من اللامساواة بين النساء والرجال، إذ أنها لم تترافق مع سياسة عمومية وتنموية تأخذ في الاعتبار حقوق النساء العاملات. وعلى هذا النحو تغدو كل عملية ومحاولة لإصلاح القطاع الفلاحي في تونس غير مجدية بل ووهمية، دون الإصغاء للنساء العاملات في القطاع الفلاحي، وذلك ليس كونهن ضحايا بل من حيث هن فاعلات، وهو ما قد يساعد حتماً على التفكير في نموذج تنموي جديد..