الطريق الوعرة.. مخاضات خلق كيان سياسي من رحم الإحتجاج العراقي

الصراع بين أقطاب العملية السياسية محتدم حول تشكيل حكومة مؤقتة تمهد لانتخابات مبكرة. وفي الوقت ذاته، تحرص الأطراف المتصارعة على إبقاء الطريق مقطوعةً أمام تكوين كيان سياسي من قلب الإحتجاج، كحرصها على إنهاء الإحتجاج والعودة لما قبله.
2020-03-12

ليث ناطق

إعلامي من العراق


شارك
على جدار "المطعم التركي". تصوير: زهراء علي - العراق

ثورة أم إنتفاضة؟ هل هي تظاهرة أم إحتجاج؟

الحراك التشريني في العراق حمّال أوجه، ليّن بدرجةٍ كافية، إذا ما تعلق الأمر بقراءاته على ضوء المعاني والتأويلات التي تحملها مفردات السؤالين أعلاه، لكنّه صلبٌ بما يكفي ليخلقَ لنفسِه مكاناً في مسار الحياة والتأريخ العراقيين.

بمعزل عن نقاش المفردة الأكثر صلاحية لهذا الإحتجاج، هناك أسئلة مؤجلة أكثر أهمية مما تقدم، بالإضافة للأسئلة البشرية القديمة، التي تلي كلّ رصاصة تخترق رأس محتجّ شاب، أو قنبلة غازية تهشّمه. هناك سؤال يفرّخُ غيره: ما مصير هذا الحراك؟

ما زالت المساحة المخصصة للإجابة عن هذا السؤال تمتلئ بالضبابية، وستبقى ولو مؤقتاً، ببساطة لأنها أقرب الإجابات للواقع. الواضح منها هو الخوف على مصير نشطاء الإحتجاج إذا ما انتهى، خصوصاً وأن الخطر يحاصر المحتجين في ظل الإحتجاج فكيف بعد نهايته؟

مقالات ذات صلة

منذ بداية التظاهرات في مطلع تشرين الأول/اكتوبر 2019، تقدمت هذه على سابقاتها التي اندلعت في السنوات السابقة، بخطوة إلى الأمام، خطوة باتجاه وعي الحالة السياسية وباتجاه القراءة المستقبلية لحالة البلاد وإدراك ضرورة التحول بالتفكير والعمل من اللادولة إلى الدولة، بما تحمله المفردة من معنى حديث قائم على المؤسسات والقوانين والنظرة إلى المستقبل. وبمعنى آخر فإن الحراك الإحتجاجي التشريني يهدف إلى خلق تغيير سياسي جوهري، فما المانع من إفرازه كياناً سياسياً يخوض التجربة ويعمل على تحقيق تلك الأهداف؟

في 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2019 تقدم رئيس الوزراء عادل عبد المهدي باستقالته إلى مجلس النواب، "إستجابةً لخطاب المرجعية" حسب ما جاء في نصِّها، كان المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني ضغط بهذا الإتجاه على مدى أسابيع، من خلال خطب الجمعة التي يتلوها وكلاؤه، تماشياً مع ضغط الإحتجاجات وتداركاً للقمع المميت الذي يطال المحتجين. وفي اليوم التالي، وافق المجلس النيابي على الاستقالة وبقي عبد المهدي يصرّف الأعمال اليومية، حتى بعد إعلان تكليف محمد توفيق علاوي برئاسة الحكومة في الأول من شباط/فبراير 2020.

استنهض تكليف علاوي المحتجين للإعتراض عليه والتبرؤ من دعمه، بمقابل إصرار جهات سياسية –"تحالف سائرون" الذي يقوده التيار الصدري على وجه الخصوص- على تمريره. لكن إنقسام الطبقة السياسية واختلاف أقطابها على حصصهم من المناصب بحكومته عطّل ذلك، ما اضطره للإعتذار عن تشكيل الحكومة في الاول من آذار/مارس 2020.

____________
من دفاتر السفير العربي
العراق ينتفض: أريد حقي، أريد وطناً!
____________

لهذا الإهتزاز الذي أصاب العملية السياسية سبب: الإحتجاج والمحتجون، لكن إذا ما وضعت هذه الأحداث على ميزان يقيس القيمة السياسية لها، فلن يكون الوزن ثقيلاً بما يتناسب مع طموح وأحلام الإحتجاج التشريني، لأن القوى السياسية التي تقتسم السلطة، بأشكالها، مازالت تسيطر على أركانها، وما تغيير رئيس وزراء بآخر، من الطبقة نفسها، بخسارة كبيرة. بل أن للنظام السياسي الذي وضِعَت أساساتُه في 2003 فضلٌ في ذلك، حيث لا يبدو لهذا النظام رأس أو رؤوس واضحة، بل تذوب نقاطُ قوته في تشكيل سائل يمتد على مساحة شاسعة يصعب حصرها، لتصل قوته إلى مصادر غير مباشرة، كالزعامات الدينية، إضافةً لمباركة المجتمع الدولي وكبار اللعبة في العالم والمنطقة. ببساطة، إنه نسخة متطورة من إتفاق الطائف 1989 الذي أفرز العملية السياسية اللبنانية.

على الرغم من هذا التجذّر، هناك مساحة صغيرة خلقها الإحتجاج، الفرصة مؤاتية لملئها بتيار أو كيان سياسي جديد، وليس الطريق يسيراً إليها. فالصراع السياسي بين أقطاب العملية محتدم على تشكيل حكومة مؤقتة تمهد لانتخابات مبكرة، وفي الوقت ذاته، تحرص الأطراف المتصارعة على إبقاء الطريق مقطوعةً أمام تكوين كيان سياسي من قلب الإحتجاج كحرصها على إنهاء الإحتجاج والعودة لما قبله.

وفق منظمة العفو الدولية، فإن عدد الشهداء منذ انطلاق الإحتجاج ولغاية منتصف شباط / فبراير 2020 تجاوز حاجز الـ 600 قتيلاً إضافةً لأكثر من 24 ألف جريح. وعلى الرغم من مرور الإحتجاجات بمراحل هبوط وصعود بالزخم والفاعلية، إلّا أن المحتجين ما زالوا يتعرضون للقمع والملاحقة والإختطاف إضافةً لحملات ممنهجة من التخوين والتشويه. كل ذلك لم يمنعهم من الإستمرار بإحتجاجهم، لكنهم –المحتجون- لم يتخذوا خطوة فعلية باتجاه خلق كيان سياسي. ولذلك أسباب كثيرة.

في بداية التظاهرات الحاشدة، كان هناك جدل قائم على عدم وجود قيادة أو رأس لهذه التظاهرات، إنتُقدت من جهة ومُجّدت من أُخرى. في وقتها كان ألاّ يكون للإحتجاج رأس ميزة مهمة، دفعت كثيراً من الناس للإنضمام إليه، وسبباً من أسباب الزخم الجماهيري. لكن بمرور الوقت صار التنظيم ضرورة ملحة، ولم يتردد شباب الساحات بذلك، فحققوا تنسيقاً بين بعض الجهود والمواقف، على الرغم من إختلاف التوجهات وإختراق الساحات من قبل الأحزاب، ووجود طرف رئيس على فترات متقطعة يتمثل بالتيار الصدري، الذي تنقل بين داعم ومعادٍ للمتظاهرين المستقلين. لكن دائماً ما يقف التنظيم عند حدود ويقتصر على بعض المواقف والتحركات الداخلية للإحتجاجات، في فضاء تفصله مسافة شاسعة عن العمل السياسي المنظّم.

يتردد البعض من المحتجين أنفسهم بتبني هكذا خطوة أو العمل عليها، خشية أن يتحول هذا الكيان المنشود إلى بيدق صغير في العملية السياسية التي تعاني تصدعات في جوهرها، ويكون شريكا في مسيرة الخراب السياسي.

هناك أيضاً من يتوَجّس من الخطوة بسبب ما آلتْ إليه تظاهرات عام 2015 من تحالف هجينٍ بين الحزب الشيوعي وبعض المحتجين المدنيين من جهة وبين التيار الصدري بزعامة السيد مقتدى الصدر من جهة ثانية، والذي أفرز فيما بعد "تحالف سائرون" الذي تصدّر إنتخابات 2018 النيابية. وهم يخشون أن يتكرر السيناريو ذاته.

يغذي كلَّ ذلك، إعتقادُ الناس بأن كلَّ ما هو "حزبي" هو فاسد، وما هذا الإعتقاد إلّا نتيجة طبيعية للتجربة التي تلت الإحتلال الأمريكي للعراق عام 2003.

مع كل ذلك، يحاول شبان من داخل الساحات لمّ شملها والخروج برؤية واضحة لتنظيم أعلى مستوى مما هو عليه الأمر الآن، يُمهد إلى الكيان المنشود في وقت لاحق. لكنهم يواجهون صعوبات مضاعفة بإقناع الآخرين وإشراكهم، إضافةً لصعوبات أخرى يرونها في الأُفُق، تتمثل بتحصيل إعتراف محلي أو دولي، وتمويل يضمن على الأقل تسيير الأمور التنظيمية. وليس هؤلاء بقلائل من المحتجين، وبينهم من لا يمانع في فكرة التحول إلى السياسة، ولكنهم يعتقدون بأنه لن يكون هناك جدوى من الخطوة في ظل هذا النظام السياسي الذي يعاني من مشكلات جوهرية وأصيلة. وأن الدخول في دوامته خيانة لدماء ضحايا الإحتجاج الذين سقطوا من أجل حلم الوطن.. وأن المهم الآن هو إدامة الإحتجاج والحفاظ على أرواح شبابه.

على الرغم من كل الضغوطات التي مارستها أطراف عديدة، داخلية وخارجية، على السلطات العراقية، إلّا أن القوة بقيت أداة تعاملها مع الإحتجاجات، ولم ينقطع مسلسل سقوط ضحايا من المحتجين بوسائل وأدوات مستحدثة، آخرها بنادق صيد الحيوانات البرية. ولا دلائل على توقفها على الرغم من تراجع زخم الحضور في الساحات في بعض الأحيان. ويعتقد البعض أن كياناً سياسياً فاعلاً ومؤثراً، من قلب الإحتجاج، يمكن أن يأخذ على عاتقه التصدي للقتل والتشويه الممنهجين اللذين يطالان المحتجين، ويضرب سوراً حولَ "جيل تشرين" لحمايته وضمان بقائه وحرية تفكيره ورأيه، حتى بعد نهاية إحتجاجه، لأن هذا الجيل، وبكل بساطة، ما زال يتصدر قائمة مكاسب الإحتجاج، بتجرّده ووعيه وعدم إنجراره للعنف أو الإغراءات.

إذا ما بقي الفضاء سانحاً ل"شباب تشرين"، على الرغم من ضيقه، فستبقى فرصة تحول نخبة منه إلى العمل السياسي قائمة، بالنظر للطبيعة التي أظهرتها التجربة، ولكونها، في الوقت ذاته، تمريناً للوعي السياسي والمجتمعي، يُمكنُ في أيّ لحظة أن يفرز الحراك المنشود.

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

"اللا حياة" العراقية.. التجهيل الذي يحوّل كورونا إلى خرافة مميتة

ليث ناطق 2021-06-10

لماذا يغيب الوعي الصحي عن المجتمع العراقي؟ الإجابةً تستدعي مجموعةً أخرى من الأسئلة: لماذا يتراجع مستوى الرعاية الصحية، وتتردى الصحة العمومية؟ أين المستشفيات والمراكز الصحية الصالحة؟ كيف يسكن العراقي ويشرب،...